تأجيل البوح و النص الموازي في قصيدة ( جندي)




حينما نقرأ قصيدة جندي للدكتور أنور غني الموسوي  سنرى و بوضوح امرا مهما و هو ان بداية النص كرسالة و فكرة ذهنية  ليست هي بدايته البصرية الشكلية .  و من المهم ايراد القصيدة اولا .

( جندي )
أيتها النهارات ، أيتها الطيور الحالمة، إنتظري انتظري ، فهذا قلبي لا زال يتعثّر فوق السفوح، قدماه من ثلج مرّ، و عيناه بقايا صوت نحاسي يبحث عن شيء من النسيم. لقد بحثتُ طويلاً  في كل مكان تصل اليه أصابعي القصيرة ، بحثتُ في لوني الرمادي، و بحثتُ أيضا في عروقي الخفية فلم أجد صورةً لجندي. ربما أنني ملوث حدّ العمى. لا بدّ ان أعثر على نقائي لكي أرى صورة ذلك الجندي الذي أعرفه، الذي يتوق لموت حرّ. انني آسف الان فعلا ، لأنني لم أتمكن من ذلك ، فأنا أعلم انّ للحياة ابتسامة لا يمكن رؤيتها الا بهذا الموت. أنا أقف هنا كلّ يوم كطائر الجزر البعيدة. أقف غريباً أصغي لذلك الصوت؛ صوت قلبي. أجل أنا اقف هنا أنتظر عودة روحي النقية؛ كلّ يوم عسى أن أموت كجندي.

هذا النص يطرح سؤالا مهما جدا ، و ربما غير مسبوق وهو انه متى يبدأ النص كوجود ذهني  ؟  في هذا النص مفارقة واضحة بين التشكل البصري للكلام و التشكل الذهني  له ، حيث ان الجملة الاولى (أيتها النهارات ، أيتها الطيور الحالمة، إنتظري انتظري ، فهذا قلبي لا زال يتعثّر فوق السفوح، قدماه من ثلج مرّ، و عيناه بقايا صوت نحاسي يبحث عن شيء من النسيم ) لا يمكن التوصّل الى المراد منها الا بقراءة باقي النص ، و من ثم يتبين انها شرح للسبب الذي يريد ان يموت فيه الشاعر كجندي . كما ان الجملة الثانية يتأجل البوح فيها الى نهايتها حيث يقول المؤلف (لقد بحثتُ طويلاً  في كل مكان تصل اليه أصابعي القصيرة ، بحثتُ في لوني الرمادي، و بحثتُ أيضا في عروقي الخفية فلم أجد صورةً لجندي. ) و تأجيل البوح هذا في الحقيقة يعني تأخر البداية الذهنية للنص حتى اكتمال البوح وهذا يعني انطلاقه من الوحدة المعنوية المركزية و التي يمكن ان نسميها ( الوحدة الاستنادية ) و التي تتمثل هنا بعبارة (فلم أجد صورةً لجندي. ) . فالنص في الذهن لا يبدأ من بدايته الشكلية و انما يبدأ من منتصفه من هذه العبارة الاستنادية المركزية .و بعد ان بين الشاعر سبب رغبته بان يموت كجندي ، عاد مستذكرا ما يفعله لاجل ان يصل الى تلك الغاية ، اي انه بين النتيجة اولا ثم بين السبب ثم بين ما يفعله لاجل تحقيق السبب اي سبب السبب . فما حصل هو ان المؤلف بين النتيجة الاخيرة ثم بين سببها ثم بين المسبب لهذا السبب ، بمعنى اخر انه قلب النص رأسا على عقب ، فحقيقة البناء المنطقي للكلام هنا انه يبدأ من نهاية النص  ثم ينتهي الى بدايته، و اذا ما قلنا ان الرسالة و التصور و المعنى   هو وجود و تشكل ذهني للنص ، فان ( النص الذهني ) هنا يبدأ من نهاية ( النص الشكلي ) البصري و ينتهي في بدايته . 
 و اذا ما اتفقنا من ان النص الشكلي كموصل للرسالة هو حامل و وسيط وان الغاية التوصيلية تكمن في ( النص الذهني ) يتبين ان النص الحقيقي هو النص الذهني ، و انه قد بدأ هنا على اقل تقدير من منتصف النص الشكلي . و تمايز النص الذهني عن النص الكتابي قد يكون واضحا كما هنا و قد يكون خفيا ، الا ان وجود هذه الثنائية و لزومها امر لا تنفك منه اية كتابة حتى لو لم تكن أدبية و هذه الاشارة لم اطلع عليها في حدود قراءتي .
ان الاسلوب الذي مكّن المؤلف من هذه الحالة – اي مفارقة النص الذهني للنص الشكلي- هو امران واضحان الاول تأجيل البوح وهذا كان مسؤلا عن تأجيل البداية في الجملة الثانية و الاخيرة ، و الاسلوب الثاني هو ( الرمزية التجريدية ) ، وهذا ظاهر في الجملة الاولى التي بدأ بها النص ( الشكلي ) حيث ان من الواضح الابتعاد المعنوي و المجالي و الكلامي لهذه الجملة بما رمزت اليه و ما شرحته عن غيرها ، الا ان المؤلف اعتمد على تقارب شعوري و احساسي بين النهارات و الطيور الحالمة ، و بين الانتظار ، و بين القصور في السعي ، و بين المعاني التي يحملها الموت السعيد للجندي اي الشهادة ، و انه سيحتاج الى تجاوز القصور و انه سينتقل الى عالم من النور و السعادة مقاربٍ احساسيا للنهارات و الطيور الحالمة . فاعتمد المؤلف على هذا التقابل الشعور و الاحساسي و حمّل تلك المفردات و تلك العبارات ثقلا شعوريا و احساسيا غير مرتكز كثيرا على الترابط المعنوي ، فالمفردات متقاربة احساسيا و شعوريا الا انها غير متقاربة معنويا كما هو ظاهر ، وهذه هي الرمزية التجريدية .
و انا اذا ما نظرنا الى نفعية و انتاجية الكلام و الكتابة و انه لا بد من تحقق فائدة معنوية لكل كلام ، فان ذلك يعني في حال تأجيل البوح يتحقق نص او نصوص مؤقتة متأرجحة قبل تحقق البوح الكامل او الشرح الكامل ، و عادة ما تكون النصوص المؤقتة و المتأرجحة قصيرة بسبب تحقق البيان بفترة قصيرة من وجودها الرمزي و التوهمي ،  و اما اذا ما تمكن المؤلف من خلق نص مؤقت متأرجح كبير يتأجيل البوح و باللغة التجريدية فانه سينتج عن ذلك نص ذهني طويل مؤقت يختلف عن النص الذهني النهائي ، هذا النص المؤقت الذي له شخصيته و وجوده يوازي النص النهائي في عالم الافادة و الفهم ، و يمكن ان نسميه ( النص الموازي ) وهو من  الاساليب و المعادلات التعبيرية الشعرية التي تحقق الابهار الفكري عند القارئ لما يسببه من انزياح عن التوصيلية المنطقية و لما يحققه من صدمة انكشاف حالة التوهيم المتعمدة .

جندي





أيتها النهارات ، أيتها الطيور الحالمة، إنتظري انتظري ، فهذا قلبي لا زال يتعثّر فوق السفوح، قدماه من ثلج مرّ، و عيناه بقايا صوت نحاسي يبحث عن شيء من النسيم. لقد بحثتُ طويلاً ، في كل مكان تصل اليه أصابعي القصيرة ، بحثتُ في لوني الرمادي، و بحثتُ أيضا في عروقي الخفية فلم أجد صورةً لجندي. ربما أنني ملوث حدّ العمى. لا بدّ ان أعثر على نقائي لكي أرى صورة ذلك الجندي الذي أعرفه، الذي يتوق لموت حرّ. انني آسف الان فعلا ، لأنني لم أتمكن من ذلك ، فأنا أعلم انّ للحياة ابتسامة لا يمكن رؤيتها الا بهذا الموت. أنا أقف هنا كلّ يوم كطائر الجزر البعيدة. أقف غريباً أصغي لذلك الصوت؛ صوت قلبي. أجل أنا اقف هنا أنتظر عودة روحي النقية؛ كلّ يوم عسى أن أموت كجندي.




















الايقاعية في قصيدة (إشارات ) للشاعر حميد الساعدي

الايقاع و الذي يقابله في اللغة الانكليزية  (rhythm  ) جوهره التناغم و التآلف و التوافق ، و لأن الموسيقى الشكلية سواء كانت بالالحان او الالفاظ هي النموذج الاكمل فانها قد طغت على المفهوم و استلبت مكانه في الوعي و صارت هي معناه و قد ساعدت الاسقاطات النقدية و الموروث التنظيرية بخصوص الايقاع الشعري على هذا التوهم حتى جاءت قصيدة النثر و اثبتت ان الايقاع لا يقتصر على الشكل فقط بل ان هناك ايقاعا عميقا يتجاوز الشكل .
حينما قيل ان العالم مصنوع من الجمال و ان الانسان مخلوق من الجمال و حينما ندرك هذا العمق الجمالي في نفوسنا فان ذلك كله و ببساطة يشير الى شكل من اشكال التناغم و التناسق و التآلف العميق اللاشكلي ، و لذلك فالايقاع الانساني لا يمكن حصره في مجال او في مستوى معين ، فحينما نتفق ان الايقاع ضروري في الشعر فانه من غير الصحيح اعتبار ان ما يفتقر الى  الايقاع الشكلي ليس شعرا ، بل لا بد ان نتفق ايضا ان للايقاع الانساني مستويات تتجاوز الشكلية و التناسق الظاهري .
ان الايقاعية التي حققتها قصيدة النثر و التي لا يمكن انكارها ، و خصوصا في الوجودات الحرجة كالسردية و حركة ( الشعر ضد الشعر ) و الكتابة باللغة العادية و الحياتية ، انما حققت تلك الايقاعية بفعل تناسق و تناغم عميق مع النفس البشرية و ليس بالضرورة انها حققت تناسقا ظاهريا مفهوما للعقل و الوعي. في القصيدة السردية التي تكتب بالنثر القريب من العادي فان الايقاعية التي تتحقق لا تحق بالشكل و لا بالتناغم الداخلي كما يحصل في القصيدة الحرة ، بل الايقاع يحصل من خلال توافق و تناسق مع الروح و النفس ، اذ صار معلوما ان الوعي الذي نتعامل به شعوريا لا يمثل الا مقدارا ضئيلا من المعارف التي نحملها ، و ان معظم معارفنا و استجاباتنا هي نتاج ( اللاوعي ) و الذي ينتج عن ترسبات محيطية لاارادية و غير تثقيفية و لا انتقائية و لذلك فهو نقي و حقيقي . قصيدة النثر التي لا تحاكي الايايقاعية الواعية ، هي تحاكي و تناغم الايقاعية اللاواعية  الايقاعية الروحية اللاعقلية . وهذا هو جوهر الجمالية التي تشتمل عليها قصيدة النثر من جماليات في تضادتها ، و كلما كانت التضادية اكبر و اوسع و اعمق كانت قصيدة النثر اكثر تناغما مع معارفنا اللاواعية التي تستوعب هذا العالم بما فيه من تناقضات .
ان الروح البشرية اكبر بكثر من العقل ، و اذا كان العقل يطالب بتناغمات ظاهرية و منطقية و شكلية  و لا يقبل التناقضات و التضادات فان الروح تستوعب كل التضادات و كل التناقضات لانها جوهر نقي و حقيقي و انعكاس امين للعالم الذي نعيش فيه ، فروح الانسان هي العالم و تستوعب من الوجودات ما يستوعبه عالمنا الكبير ، بخلاف العقل الذي يؤثر فيه التثقيف و التعليم و الوعي و القصد و المنفعة . الروح اكثر صدقا و حرية و حقيقية من العقل و باشواط كثير و بدرجات لا تقبل المناقشة ، و الابعد من العقل عن الروح هو  العلم حيث انه اكثر تقييد من العقل. و لا يعني هذا ان الروح تتميز بفوضوية و لا قانونية بل ان للروح قوانينها و انظمتها الا انها قوانين نورانية و انظمة تجلياتية تختلف عن الانظمة و القوانين  العقلية و العلمية المفترضة و المبنية على النفعية و الظاهرية . قوانين الروح باطنية و خفية و سرية بخلاف قوانين العقل الظاهرية و الملموسة و المقنعة ، الروح لا تعتمد الاقناع بل تعتمد الحقيقة بخلاف المعارف العقلية و العلمية .
قصيدة النثر و بكل ما تحمله من وجود تمثل حقيقة روحية و ليست حقيقة عقلية و لا علمية لذلك فان التضاد فيها هو تناغم و توافق روحي و ان كان لاتوافقا و لا تناغما بحسب معايير العقل و العلم . لذلك على النقد ان يتخلى عن كل المعايير العقلية الظاهرية و العلمية الشكلية  لكي يستطيع ان يصل الى القوانين الباطنية و الروحية الدفينة في قصيدة النثر و ما شابهها من وجودات تتجاوز العقل و العلم في وجودها ، و لا بد من شكل اخر من التفكير و شكل اخر من التجريب ، اي لا بد من شكل اخر من العقل ولا بد من  شكل اخر من العلم لكي نفهم كثيرا من الامور في عالمنا و منها قصيدة النثر .
في قصيدة (إشارات) للشاعر حميد الساعدي تتجلى الايقاعية  الروحية العميقة ، من حيث محاكاتها للعالم الاكبر و الوجود الاوسع بتضادته و تناقضاتها وهذا هو جوهر قصيدة النثر . ان الايقاعية العقلية و العلمية الظاهرية الشكلية تتطلب من الشعر امورا منها ان يكون موزونا و منها ان يكون  متميزا تجنيسيا اما نثر او شعر و منها ان يكون بنسق تعبير واحد اما تعبير مجازي رمزي او مباشر توصيلي  ، في قصيدة (إشارات ) كسرت كل هذا القواعد ، فالشعر هنا غير موزون و التنجيس هجين بين الشعر و النثر و النسق التعبيري تموجي  حيث تتموج الكتابة بين الانزياحية الرمزية و المباشرة التوصيلية .

(إشارات )
حميد الساعدي
حسبُك َ أن تبدأ الذكريات . انهمارك َ يعني اللجوء لكينونة ٍ قاحلة. أنت مِثلي تؤطر يومك َ بالقيل ِ والقال أو ترتجي في السوانح ِ فسحة َ وقت ٍ تكللها بالتأمل ِ أو نكهة الشاي تتلو القصائد في كل ركن ٍ من الغرفة ِ المعتمة. وحول  الكتاب توجه شطرك َ تبتاع منه الأماني وفي الحائط ِ ارتسمت شاشة َ لغو ٍ تلوك ُالمصائب في كل عاجلة ٍ من نهارك.
هو الوقت ُ يمضي بعمر ٍ تحَلل َ من عصمة ِ الملهمات ولا شيء أجدى من الفكرة الناصعة.
وفي الشِعر ِ مهرب َ خصب ٍ وشارة َ حرف ٍ أبى أن يستكين َ لما قد تبدى من العاديات واللحظة الغائمة.
أقول ُ بسِري أنا الوقت ُ في غيمه ِ ماطر ٌ بالحكايات والورد والعطر تلملمني ومضة َحب ٍ وتُطلقُني ضحكة َطفل ٍ وترسمني لحظة عاشقة وأوج انفعالي تركَّزَ في البوح ِ يالحظة ً أشتهيها سيولاً من الموج ِ تتبع ُ جرحي لتلجم أزمنتي الجامحة .


لا نحتاج الى كثير كلام لبيان ان القصيدة كتبت بالنثر و انها ابتعدت عن الموسيقى الشكلية الوزنية بل حتى غيرها من التناظرات و التشطيرات و الفراغات و السكتات التي تحافظ عليها القصيدة الحرة في محاولة اقتراب من الموسيقى الشكلية بغير الوزن . و بهذا الفهم فان التشطير والعامودية و السكتات و الفراغات و جميع التوظيفات الشكلية الاخرى التي هي محاكاة للوزن اللفظي هي في حقيقتها مخالفة لجوهر و روح قصيدة النثر و التي هي ايقاع روحي عميق .

و اما كسر حاجز التمييز بين الشعر و النثر فان القصيدة كتبت بالسرد التعبيرية و اعتمدت تقنيات السرد و الذي من وسطه انبثق الشعر محققا حالة التكامل بين الشعر و النثر  وهو ايقاع عميق روحي خلافا لمتطلبات الايقاعية الظاهرية العقلية و العلمية . تتجلى النثرشعرية اي التكامل بين الشعر و النثر في النص بوضوح : حيث ان هذا النص المتكون من تسعة اسطر كاملة انجز بست جمل فقط  بخمس سكتات هي نقاط الجمل ، و من المعلوم انه لو كتب بشكل قصيدة حرة مشطرة ربما احتاج الى اكثر من عشرين شطرا  اي احتاج الى اكثر من عشرين سكتة صوتية ، و هذا يعني تحقيق بناء جملي متوصل في عبارات النص كما التالي:-
1-    حسبُك َ أن تبدأ الذكريات .
2-     انهمارك َ يعني اللجوء لكينونة ٍ قاحلة.
3-     أنت مِثلي تؤطر يومك َ بالقيل ِ والقال أو ترتجي في السوانح ِ فسحة َ وقت ٍ تكللها بالتأمل ِ أو نكهة الشاي تتلو القصائد في كل ركن ٍ من الغرفة ِ المعتمة. وحول  الكتاب توجه شطرك َ تبتاع منه الأماني وفي الحائط ِ ارتسمت شاشة َ لغو ٍ تلوك ُالمصائب في كل عاجلة ٍ من نهارك.
4-     هو الوقت ُ يمضي بعمر ٍ تحَلل َ من عصمة ِ الملهمات ولا شيء أجدى من الفكرة الناصعة.
5-     وفي الشِعر ِ مهرب َ خصب ٍ وشارة َ حرف ٍ أبى أن يستكين َ لما قد تبدى من العاديات واللحظة الغائمة.
6-     أقول ُ بسِري أنا الوقت ُ في غيمه ِ ماطر ٌ بالحكايات والورد والعطر تلملمني ومضة َحب ٍ وتُطلقُني ضحكة َطفل ٍ وترسمني لحظة عاشقة وأوج انفعالي تركَّزَ في البوح ِ يالحظة ً أشتهيها سيولاً من الموج ِ تتبع ُ جرحي لتلجم أزمنتي الجامحة .
نلاحظ ان الجملة الثانية و الجملة السادسة كتبتا بنفس نثري جلي حيث ان كل منها تتكون من اكثر من ثلاثة اسطر ، و من هذا النثر انبثق الشعر بالسرد التعبيري و التصويرية و المجاز و الانزياح و الرمزية و النفوذ العميق في الوعي و الالتقاطات الشعرية ، و بهذا حقق النص حالة ( النثروشعرية ) و اجتمع الشعر والنثر و تكاملا بعد ان كانا في الوعي الظاهري العقلي و الشكلي  انهما ضدان و لا يجتمعان ، و ما اجتماعهما و تكاملهما الا وجها للايقاعية الروحية العميقة . و من المفيد الاشارة الى ان اجتماع الشعر و النثر متحقق في اشكال الشعر النثري سواء كان قصيدة حرة او قصيدة نثر الا ان ( النثروشعرية) أي التكامل بين الشعر و النثر هو من مختصات قصيدة النثر فقط ، أي القصيدة المكتوبة بسردية و بشكل مقطوعة نثرية افقية .
و اما الاختراق الثالث للايقاعية الشكلية التي يتطلبها الوعي الظاهري و العقلية المنطقية فانها تتمثل بعدم التميز التعبيري، حيث يتكامل المجاز مع المباشرة  في لغة متموجة وهذه ايقاعية عميقة روحية .و من المعلوم ان الايقاعية الشكلية الحداثوية تتطلب ان يتميز النص الرمزي من النص المباشر التوصيلي ، و لقد اشرنا مرارا ان التموج اللغوي خصوصا بين الرمزية و التوصيلية  في النص هو من اهم مظاهر قصيدة النثر الجوهرية حيث انه يحقق التكامل التضادي فيها ، و هذا التكامل التضادي من الايقاعية الروحية . يمكن ملاحظة التموج التعبيري الذي تكامل فيه الانزياح مع المباشرة لينتج نصا عذبا واضح الرسالة بلغة قريبة بتداولية كبيرة مع رمزية انزياحية قريبة :-
( حسبُك َ أن تبدأ الذكريات ( مباشرة  ) -  انهمارك َ يعني اللجوء لكينونة ٍ قاحلة. ( مجاز   )  أنت مِثلي تؤطر يومك َ بالقيل ِ والقال (مباشرة ) - أو ترتجي في السوانح ِ فسحة َ وقت ٍ تكللها بالتأمل ِ أو نكهة الشاي تتلو القصائد في كل ركن ٍ من الغرفة ِ المعتمة.( مباشرة  )  وحول  الكتاب توجه شطرك َ تبتاع منه الأماني  (مجاز ) - وفي الحائط ِ ارتسمت شاشة َ لغو ٍ (مجاز )  تلوك ُالمصائب في كل عاجلة ٍ من نهارك (مباشرة  ). هو الوقت ُ يمضي بعمر ٍ تحَلل َ من عصمة ِ الملهمات ولا شيء أجدى من الفكرة الناصعة. (مباشرة  ) وفي الشِعر ِ مهرب َ خصب ٍ وشارة َ حرف ٍ أبى أن يستكين َ لما قد تبدى من العاديات واللحظة الغائمة(  مجاز   )  . أقول ُ بسِري أنا الوقت ُ في غيمه ِ ماطر ٌ بالحكايات والورد  (  مجاز   ) والعطر تلملمني ومضة َحب ٍ وتُطلقُني ضحكة َطفل ٍ (مجاز )  وترسمني لحظة عاشقة  (مجاز ) وأوج انفعالي تركَّزَ في البوح ِ يالحظة ً أشتهيها  (مباشرة   ) سيولاً من الموج ِ تتبع ُ جرحي لتلجم أزمنتي الجامحة  (مجاز ) .

ان التموج التعبيري يتجلى في النص بقوة و يبرز النص و كأنه كتلة تعبيرية معجونة بتعابير  تتموج بين المجازية  و المباشرة  في تكامل عال ، و هذا من الايقاعية الروحية العميقة ، و التي تخالف الايقاعية الشكلية العقلية الظاهرية .

 بهذا تحقق قصيدة النثر السردية التعبيرية نموذجا عاليا من الوجودات الروحية التي تتجاوز الشكليات العقلية و تفتح الافق امام معارف انسانية اكثر نقاء و اكثر حقيقية ، كما ان ما اعتمدناه من تحليل ( اسلوبي ) قد نجح و كما هو ظاهر في فهم الايقاع العميق في قصيدة النثر  الذي طالما تحدث عنها الكثيرون و في اكثرها شيء من الضبابية و من دون صيغ تطبيقية ، و هنا تقدم الاسلوبية صيغا نصيا مادية بلاغية للايقاعية العميقة في قصيدة النثر و تتوسع في عموماتها لتشمل الوجدات الروحية في كليتها و شموليتها المستوعبة للتناقضات و التضادات التي ندركها في هذا العالم الكبير و التي يعجز العقل و العلم عن تقبلها .
















النص الحرّ ؛ نص ( الزائر الغريب ) للشاعر عادل قاسم نموذجاً



لقد كان مطلح النصّ المفتوح للتعبير عن نصّ متعدد الدلالة او نصّ دلالاته لانهائية ، و انسحب هذا الفهم على عدم تميّز الجنس الكتابي بكون النصّ قصّة ام شعرا ام خاطرة ام دراما ، فاستعمل في النص العابر للاجناس واحيانا يستعمل المصطلح في معنى ويراد به الاخر ، لذلك فانا اخترنا ان يكون مصطلح النص المفتوح للنص المجنّس متعدد الدلالات او الذي تكون دلالاته لانهائية ، و اما النصّ العابر للاجناس فانا عبّرنا عنه بـ ( النصّ الحر ) او النصّ العابر للاجناس .
و في الحقيقة و منذ عهد الرمزية  الغربية دخلت القصيدة مرحلة الدلالات اللانهائية ، و توّجت في زمن الحداثة بالنصّ المنغلق والرمزية المتعالية ، لذلك لا يعدّ النصّ المفتوح تجديدا ، و انما هو تركيز نقدي و تحليل عل ظاهرة موجودة سابقة. اما النصّ الحرّ العابر للاجناس فهو الوارث الشرعي لقصيدة النثر ، بل هو في حقيقته قصيدة نثر من الجيل الثاني او ما يسمى ( بعد مابعد الحداثة ) و الذي نشير اليه بدقة اكبر بعصر العولمة ، وهو الذي يمثل التجديد الحقيقي في الادب و الذي في نظرنا انه سيكون مستقل جميع الكتابات الادبية و التي ستتوحّد في النصّ الحرّ العابر للأجناس .
في نصّ ( الزائر الغريب ) للشاعر عادل قاسم ، المنشور في مجلة الشعر السردي ، يتحقق نموذج ( النص الحرّ العابر للاجناس ) ، مع تحقيق جليّ ايضا للنص المفتوح ، اضافة الى اسلوب مابعد حداثوي يتمثل باللغة القوية و اعتماد الابهار على الصدمة التعبيرية بدل الانزياح و هذا ما سنتحدث عنه في مناسبة أخرى ، و اما تعدد الدلالات و النص المفتوح فانا نراه من أدب الحداثة الذي تجاوزه النص المعاصر ، فالجهة التي سنتناولها هنا هي مظاهر و ملامح النصّ الحرّ العابر للاجناس .


( الزائر الغريب  )
عادل قاسم
كنتُ اضع العِطرَ بعدَ ارتداء بَدْلَتي، بينما تزدحمُ برأسي الامنياتُ، لمْ ازلْ فتياً يافعاً ، نَظرْتُ في المرآةِ جَذاباً و وسيماً كعادتي، سأفعل بلا شكٍ اشياء كثيرةٍ سأشتري ذلكَ البيتِ الجميل ، سأتزوج حياة أنها فتاةٌ رائعةٌ جَميلة، حينَ هَمَمْتُ بارتداءِ سِترتي هالني ما أريتُ، كان يقفُ بقامتهِ الفارعةِ وشعرهِ الكثّ ولحيته، ينظرُ اليَّ باسىً وتشفي ،يَحملُ بيدهِ اليُمنى عَصاً من جَمْر، أَتساءل كيفَ تَسنى لهذا اللصُ من الدخول،ِ الابوابُ موصدة، اشار اليّ بعصاه المُشتعلة، شعرتُ بثقلٍ في جَنبي الايسر وتخشبَ جَسَدي برُمَته، لم ازلْ واقفاً، اذْ لمْ يَعُدْ بمقدوري الحديث ،ابتسمَ واخذَ بيدي اليُمنى، ثم انْطلقَ بي ، لم يكن ذلك حَيّنا الذي اسكنُ فيه ، أنا في غابةٍ سوداءَ كَثيفةَ الاغصان ، اشعرُ بانني خفيفَ الوزنِ نمرّ في الوديانِ السحيقة المُخيفةِ ،انا والزائر الغريب ،كنت مُطيعا جِداً، استنشقُ العِطْر العالقَ بروحي بين الفينةِ والاخرى.
                

النضّ كُتب بالسرد ، و بشكل أفقي ، و لقد أثبت النصّ المعاصر و خصوصا النص الذي يكتبه شعراء مجموعة تجديد انّ السردية لا تخرج النص من شعريته و افقيته لا تخرجه منها ايضا ، لذلك لا يتحول النص الى نثر بمجرد انه يكتب بسرد او بشكل افقي ، بخلاف الفهم السائد . كما ان النص كُتب بانزياحية بسيطة و بلغة توصيلية تخيلية ، و هذا ايضا لا يخرج النصّ من شعريته ، فان الشعر في الشعر ضد الشعر و في شعر اللغة القوية المعتمدة على الابهار و الدهشة بالتخيل و النفوذ العميق الصادم بدل الانزياح و المجاز قد كسر هذا القانون ، فما عاد المجاز و الانزياح مقوما للشعرية .

من الواضح انّ النص لم يكتب لحكاية قصة و انما الاساس هو لبيان المشاعر المصاحبة ، اي توظيف السرد لأجل بيان و توصيل الاحاسيس و المشاعر ، و كُتب ايضا لاجل الايحاء و الرمز الى عوالم ماوراء نصية ، فليست الرسالة و الادبية في الابهار بالتخيل و انما في عوامل جمالية ماورائية كان السرد وسيلة لايصالها ، و الميزة الثالثة والمهمة هي كسر الحدثية و المنطقية في النص ف فقرات لامنطقية منه نقلت النص من السرد الوصفي الحدثي  الى السرد التعبيري . بهذه الخصائص صار النصّ برزخا بين الادب النثري و الادب الشعري ، و صار للنصّ وجوها تجنيسية تقع بين الشعر و القصة و الخطرة ، و السبب الحقيقي لذلك هو خفوت المقومات و الملامح التجنيسية ، و علو الصفات و المظاهر المشتركة ، فلقد ركّز الشاعر على التعبير الحرّ غير المعتني بالتنجيس ، كما انه ركز على المشتركات التعبيرية و الاسلوبية للكتابات الادبية ، دون الاعتناء باي من المظهر المميزة التجنيسية ، بل كانت خافتة بوضوح ، لذلك كان النص حرّا من حيث التجنيس و حرا من حيث التعبير ، انه نص حرّ و نموذج حقيقي للنص الحرّ العابر للاجناس .




















التعبيرية الأسلوبية عند عادل قاسم




التعبيرية في الفن  في أوضح معانيها تفرد أسلوبي خاص و متميز بالوان و اشكل مغايرة للمعهود و السائد، وهذه هي التعبيرية الاسلوبية ،  وهي بحق الأم لجميع الاتجاهات الفنية المعاصرة  ،و حينما انتقلت الممارسة التعبيرية الى الأدب  و لحقيقة اعتماد الكتابة جوهريا على المعاني فان التعبيرية اتسمت بالتميز في الرؤى و القضايا و الاعتراضات الثورية للادباء ، وهذه هي التعبيرية المعنوية . و مع ان التعبيرية المعنوية موجودة في الفن الا ان الغلبة و الظهور هو للتعبيرية الاسلوبية ، كما انه برغم وجود التعبيرية الاسلوبية في الادب الا ان الغلبة و الظهور للتعبيرية المعنوية .
عادل قاسم شاعر عراقي ذو تجربة أدبية واسعة ، استطاع من خلالها ان يجمع بين الاصالة و التجديد اسلوبيا في كتاباته وهو امر من الصعوبة بمكان ، فأخرج لنا أدبا اعتراضيا و ثوريا و متفردا على مستوى المعنى و القضية و على مستوى الاسلوب و الشكل ، فبجنب الشعر الموزون و القصيدة الحرة وهو السائد ، كتب التقليلية و قصيدة الكلمة الواحدة و القصيدة السردية الافقية ، و هذه الممارسات و التجارب الاخيرة تعني و بما لا يقبل الشك مظاهر  للتعبيرية الأسلوبية .
ان الابداع يعتمد في تحقيق اهدافه و اغراضه على النفوذ العميق في نفس المتلقي و على تحقيق الهزّة في داخله بالوجود الصادم ، و بالقدر الذي يتحقق ذلك بالتعبيرية المعنوية بطلب الخلاص و الثورة على الواقع و الرؤية المتميزة ، فانه ايضا يحتاج الى التعبيرية الاسلوبية ، بالاسلوب المتميز و الطريقة المؤثرة و الرسالة المهتمة بالقارئ . و ما كانت الحداثة تحقق ما حققته لولا انها اعتمدت الاسلوب الصادم بجنب قضية طلب الخلاص و الثورة على الواقع . من هنا و لأجل تحقيق منجز أدبي متميز و ذو شخصية حقيقة و غير مستنسخة هو ان يتحلى النص بالتعبيريتين ، المعنوية و الاسلوبية ، و ما نراه سائدا عند اغلب الشعراء هو التعبيرية المعنوية الا انهم لا يقتربون  من التعبيرية الاسلوبية بل يكتبون وفق ما يريده الجمهور من اساليب من دون الانتباه الى حقيقة ان هذا لا يمكن ان يحقق انجازا حقيقيا  و ان قوبل بالترحيب حتى من المؤسسات الثقافية الرسمية . بل لا بد من توفر الشكلين من التعبيرية ،اعني المعنوية و الاسلوبية وهذا ما توفر فعلا في شعراء مجموعة تجديد الذين اعتمدوا القصيدة السردية الافقية في تميز اسلوبي تعبيري واضح ، و ايضا نجد ذلك في مجموعة التقليلية . و عادل قاسم من رواد الكتابة التعبيرية المعنوية و الاسلوبية كما هو معلوم لكل متابع .
لقد اتجه التحليل الادبي  و منذ منتصف القرن الماضي الى دقّة أكبر في المصطلحات و علمية أكبر في المفاهيم ، و ما عاد مقبولا التكلم بمصطلحات فضفاضة ، و لقد نجح النقد الأسلوبي و الى حد كبير الى الاتجاه بالنقد نحو العلمية ، و صار حقيقا ان نصف عصر الأدب الحديث و في نهاية القران الماضي بانه عصر علم الأدب و ارهاصاته . و حققت الاسلوبية تقدما كبير في هذ الشأن من خال طرحها لنماذج خارجية موضوعية و صيغ مادية ملموسة للفكرة الأدبية و المفهوم التحليلي ، و هنا سنحاول ان نلقي الضوء على المظاهر الاسلوبية للتعبيري الاسلوبية  في النص الشعري في كتابات الشاعر العراقي عادل قاسم .
في نص  ( قُدَّاسٌ إخرٌ للولادة ) يقول عادل قاسم:
((  أقفُ كِتمثالٍ من الصَمغِ على صخرةٍ مُتآكلةٍ تتقاذفني الرياحُ ريشةً من جناحِ طائر ، لاشيءَ يُبْددُ وَحْشَتي في هذا الصمت ، كُلما داعبَ الوَسنُ غَيمتي الغافيةَ على جرفِ نَهارٍ تَبْتلعهُ ريبةُ البقاء ،أستظل ُبملامحهِ الباردة، وهو يشاكسُ الغروب.
مُؤَجلٌ تَسْتبقكَ هذه الخُطى العَجلى المؤطرةُ بالالم، كَنهرٍ ميتٍ يَمتدُ مُتسلقاً الآفاقً الراعفةَ بالذبول.
مخالبُ الزمنِ ليسَ بمقدورِها أَنْ تَقْتصّ من الثواني الزاحفةِ بِرقةِ وَسموّ ، وهيَ تَعْزفُ نَشيجَها كلما ارتَقَت الأرقامُ قُدَّاساً آخرَ للولادةِ والجفاف.
نحنُ لا نَرى النهايةَ الا في غيرنا، مغفلونَ نَسيرُ بِخَيلاءٍ على الربوعِ المُمُتدةِ كَبُساطِ الريحِ على غَيمةِ الاملِ التي َترقنُ قَيدَها رياحُ الوحدةِ خَلفَ تلكَ الخطوطِ المتلاشيةِ في ثَقْبٍ مكْفَهرٍ ليسَ بمقدورٍنا الافلاتَ من نَواجذهِ ألأكثرَ يَقيناً من الأساطيرِ المُضْحِكة . ))

لا نحتاج الى كثير كلام للاشارة الى التعبيرية المعنوية في النص حيث طلب الخلاص و الثورية في عنوان النص و في كل مقطع من مقاطعه و النص مشحون برسالة الاغتراب و الحزن و طلب التغيير .
 لقد اعتمد الشاعر هنا على صيغ و مظاهر تعبيرية اسلوبية منها (السردية ) حيث ابتني النص على الاسلوب السردي ، وهذا تميز و مغاير للسائد من الكتابة الشعرية المعتمدة على الصورية و التشظي حتى في الشعر النثري في القصيدة الحرة . كما ان السردية هنا ما كانت سردية قصصية وانما كانت سردية تعبيرية بقصد الاحياء و الرمز و تعظيم طاقات اللغة .  و لا ريب ان ( الشعرية النثرية ) وبهذه القوة التي يتجلى فيها النثر بتقنياته هو اسلوب مغاير للموسقة و التناغم الشكلي الذي تهتم به القصيدة السائدة .
الجهة التعبيرية الاسلوبية الاخرى هي ( العذوبة ) المصاحبة لنص رمزي و بفنية شعرية عالية ، وهذا ايضا تميز و مغايرة للسائد من الرمزية الحداثوية المتصفة عادة بالجفاء و الجفوة و التعالي . كما ان الشاعر اعتمد الرؤية الخاصة للاشياء و الموجودات في ( تعبيرية رؤيوية) وهو اسلوب مغاير و متميز عن التداولية  التي يعتمد عليها السائد الكتابي . فانا نجد
( ِتمثالٍ من الصَمغِ  \ صخرةٍ مُتآكلةٍ \ غَيمتي الغافيةَ \ نَهارٍ تَبْتلعهُ ريبةُ البقاء \ أستظل ُبملامحهِ الباردة، \  وهو يشاكسُ الغروب. \ كَنهرٍ ميتٍ يَمتدُ مُتسلقاً الآفاقً الراعفةَ بالذبول. \ قُدَّاساً آخرَ للولادةِ والجفاف. )  هذه كلها صور تعبيرية عميقة فردية و خاصة اضفاها الششاعر على الخارج بلغت اوجها في عبارة ( قداسا للولادة و الجفاف ) حيث جمع الولادة و الجفاف .
ثم يعمد الشاعر الى مقطع سردي تعبيري بحت  موغل في التعبير و نموذج للتعبيرية الادبية حيث يقول
( مغفلونَ نَسيرُ بِخَيلاءٍ على الربوعِ المُمُتدةِ كَبُساطِ الريحِ على غَيمةِ الاملِ التي َترقنُ قَيدَها رياحُ الوحدةِ خَلفَ تلكَ الخطوطِ المتلاشيةِ في ثَقْبٍ مكْفَهرٍ ليسَ بمقدورٍنا الافلاتَ من نَواجذهِ ألأكثرَ يَقيناً من الأساطيرِ المُضْحِكة . ) ان هكذا نص مختزل معبأ بالتساؤلات و المناشدات و التوصيفات و الاغترابات و التوهمات  و الذي ينتهي بجمع تعبيري بين اليقين و الاسطورة يحقق تميزا تعبيريا ملحوظا .
و من مظاهر التعبيرية الاسلوبية هنا في هذا النص هو البوح ( التلميحي) الحر  في مقابل البوح القصدي المتحكم الذي يمسك بمفردات النص في الكتابات السائدة . و أدى البوح التلميحي الحر   هنا الى حالة ( التجلي الحر ) لماورائيات النص ، في قبال ( التجلي القصدي ) الذي ينتجه البوح القصدي . كما ان حالة البوح الحر و ما يرافقه من تجلي حر ادى الى تجلي رسالة النص بوضوح   من دون قناع او تعالي او تعقيد وهذا هو ( وضوح الرسالة ) ، بينما و لاجل ترسخ التداولية في البوح السائد فانه يعمد الى تغطيته و اخفائه بالتعالي الرمزي و التكلف الصوري و ضبابية الرسالة . و كل ما اشرنا اليه من حرية البوح و التجلي  و وضوح الرسالة  يؤدي الى تحقق (الرمزية العذبة ) المريحة في السرد التعبيري في قبال الرمزية الضبابية المتعالية و المرهقة و المعقدة في القصيدة الرمزية المتشظية .و هذه المظاهر الاسلوبية واضحة في النص .ان الشاعر هنا منشغل في سرد حكايته من دون ان نراه يبوح بشيء لنا ، الا اننا ايضا نشعر بقوة ان النص معبأ بالبوح وهذا هو البوح الحر . يقول الشاعر
(((  أقفُ كِتمثالٍ من الصَمغِ على صخرةٍ مُتآكلةٍ تتقاذفني الرياحُ ريشةً من جناحِ طائر ، لاشيءَ يُبْددُ وَحْشَتي في هذا الصمت ، كُلما داعبَ الوَسنُ غَيمتي الغافيةَ على جرفِ نَهارٍ تَبْتلعهُ ريبةُ البقاء ،أستظل ُبملامحهِ الباردة، وهو يشاكسُ الغروب. ))
هذه كتلة سردية بوحية  ثم تأتي اخرى
((مُؤَجلٌ تَسْتبقكَ هذه الخُطى العَجلى المؤطرةُ بالالم، كَنهرٍ ميتٍ يَمتدُ مُتسلقاً الآفاقً الراعفةَ بالذبول. مخالبُ الزمنِ ليسَ بمقدورِها أَنْ تَقْتصّ من الثواني الزاحفةِ بِرقةِ وَسموّ ، وهيَ تَعْزفُ نَشيجَها كلما ارتَقَت الأرقامُ قُدَّاساً آخرَ للولادةِ والجفاف. ))
و هذه كتلة بوحية اخرى مناظرة ثم تأتي اخرى
((نحنُ لا نَرى النهايةَ الا في غيرنا، مغفلونَ نَسيرُ بِخَيلاءٍ على الربوعِ المُمُتدةِ كَبُساطِ الريحِ على غَيمةِ الاملِ التي َترقنُ قَيدَها رياحُ الوحدةِ خَلفَ تلكَ الخطوطِ المتلاشيةِ في ثَقْبٍ مكْفَهرٍ ليسَ بمقدورٍنا الافلاتَ من نَواجذهِ ألأكثرَ يَقيناً من الأساطيرِ المُضْحِكة . ))
وهذه كتلة بوحية ثالثة . ان اعتماد ( البوح الكتلي ) و التناظر التعبيري يحقق ما اشرنا اليه من البوح و التجلي الحرين، حيث لا يعمد الشاعر الى ان يخبرنا برسالته و بوحه في جمل او اسنادات او مجازات و انما في كتلة كلامية كبيرة ، ثم يردفها بمناظر بياني و مرادف تعبيري ، محققا فسيفسائية تعبيرية ، فتصل الينا الرسالة محمولة بلطافة و سلاسة في حكاية و سرد و رمزية عذبة  من دون نقلت تصويرية و لا تشظيات كلامية ، بخلاف السائد من بوح و رسائل شعرية تهشم القصيدة ، و في الحقيقة ان البوح الكتلي الحر هو المحقق لمفهوم القصيدة فعلا ، و اما البوح الاني المتشظي فانه خلاف مفهوم القصيدة ، و لذلك نحن متحمسون للقصيدة السردية لهذه الحقيقة ، ليس فقط لانها النموذج العالمي لقصيدة النثر بل لانها الممثل الحقيقي للقصيدة و المصداق الخارجي لها فكرة و مفهوما ، و تعجز باقي الصور و الاشكال الشعرية عن تحقيق هذا الوجود و البهاء للقصيدة كما تحققها القصيدة السردية التعبيرية .
ان السردية توفر مساحة ( للبوليفونية ) و تعدد الاصوات و الرؤى ، بسبب طبيعة السرد وهذا من التعبيرية الاسلوبية، في حين ان هذا غير متوفر في القصيدة السائدة المتشظية فتكون عادة مونوفونية اي احادية الرؤية و الصوت  ، ، كما ان تلك المساحة و تلك الحرية تمكن من تأدية الفنية الشعرية بطرق اسلوبية غير الانزياح و المجاز و انما بنفوذ عميق في النفس و اثارة الشعور العميق و الصادم دون اللجوء الى مجاز في ( تموج لغوي ) هو مغاير لما هو سائد من صور ( المجاز ) الانزياحي الطاغية ، ان السردية التعبيرية تشتمل على المجاز و الانزياح بلا ريب الا انه ليس متموقعا في النص بالصورة التي يتخذها في القصيدة الحرة المتشظية . و بهذا فان الموسيقى التي تحققها القصيدة الشكلية اعتمادا على الصوت و التي تحققها القصيدة النثرية الحرة اعتمادا على المجاز ، فانها تتحقق في القصيدة السردية في عمق اخر و في عالم فكري و روحي اكثر عمقا و اوسع تناغما  في موسيقى عميقة مخالفة للسائد من الموسيقى الشكلية و الموسيقى الصورية وهذا من التعبيرية الاسلوبية .
تتجلى التعددية الصوتية و الرؤيوية في مناطق عدة في النص ((   فنجدا شخصية و حضور و فاعلية و صوت (الانا ) في ( أقفُ كِتمثالٍ  و نجد شخصية و حضور و فاعلية و صوت  (الهو ) ( تتقاذفني الرياحُ ) و نجد شخصية و حضور و فاعلية و صوت  (المكان ) ( في هذا الصمت ) و نجد شخصية و حضور و فاعلية و صوت الانت ( مُؤَجلٌ تَسْتبقكَ هذه الخُطى ) و نجد شخصية و حضور و فاعلية و صوت ( الزمان)  ( مخالبُ الزمنِ ليسَ بمقدورِها ) ونجد شخصية و حضور و فاعلية و صوت  (النحن)  ( نحنُ لا نَرى النهايةَ ) و شخصية و حضور و فاعلية و صوت  (الكلي الكوني) ( ألأكثرَ يَقيناً من الأساطيرِ المُضْحِكة . )
 كما ان التبادلية و تلبس حال الاخر ايضا واضح في النص: ((  أقفُ كِتمثالٍ من الصَمغِ على صخرةٍ مُتآكلةٍ تتقاذفني الرياحُ ريشةً من جناحِ طائر \ مُؤَجلٌ تَسْتبقكَ هذه الخُطى العَجلى المؤطرةُ بالالم، كَنهرٍ ميتٍ \ مخالبُ الزمنِ ليسَ بمقدورِها أَنْ تَقْتصّ من الثواني الزاحفةِ بِرقةِ وَسموّ \ نحنُ لا نَرى النهايةَ الا في غيرنا، مغفلونَ نَسيرُ بِخَيلاءٍ على الربوعِ المُمُتدةِ ) و من الواضح ان التكلم بلسان الانا و الهو و النحن و الانت ، في تناغم احوالي و ظرفي و تناسق تعبيري  يشير الى ان الشاعر يتكلم من موقع الاخر و من حالة الكلي و ان صدر الكلام بصيغة الجزئي و الانا .
اما التموج اللغوي فهو من متطلبات السرد التعبيري حيث تتموج الكتابة بين الرمزية و التوصيلية وهو السبب الاهم لعذوبة القصيدة السردية و جعلها من الرمزية القريبة العذبة غير المتعالية و لا الجافة كما انه المحقق للغة القوية المحققة للتأثير من دون مركزية للمجاز و الانزياح ، يقول الشاعر :
(((  أقفُ كِتمثالٍ من الصَمغِ على صخرةٍ مُتآكلةٍ تتقاذفني الرياحُ ريشةً من جناحِ طائر ))– هذا بيان توصيلي -  ثم (( لاشيءَ يُبْددُ وَحْشَتي في هذا الصمت ، كُلما داعبَ الوَسنُ غَيمتي الغافيةَ على جرفِ نَهارٍ )) – هذا بيان رمزي قريب – ثم ((  تَبْتلعهُ ريبةُ البقاء ،أستظل ُبملامحهِ الباردة، وهو يشاكسُ الغروب.)) – وهذا بيان رمزي عال . وهكذا يتموج النص بين التوصيل و الرمزية القريبة و الرمزية العالية .

من المظاهر التعبيرية الاسلوبية المهمة هو التحرر  من الاعتماد على الوظيفة التوصيلية للالفاظ ، و اعتماد طرق تعبيرية اخرى توفرها حرية السرد ، منها التعبيرية القاموسية ) و التعبيرية التجريدية المعتمد على الثقل الشعوري و العاطفي للمفردات .و من الواضح ان النص مشحون بالفاظ العجز و الخواء و اليأس ،  وهذا هو القاموس التعبيري الذي يوصل الرسالة من خلال المفردات مجردة عن جملها  ، نجد النص مثقلا بمشاعر اليأس و الاغتراب و الحزن ، و هذا هو التعبير التجريدي المعتمد على المشاعر و الاحاسيس المحمولة بالنص من دون الالتفات الى مفادات الجمل و معانيها .
  ان الانبهار الذي يحققه النص يعتمد على المعادلات التعبيرية في البنية الشعرية السطحية للنص و على طريقة تجلي العمق الشعري و شكله و طبيعة العلاقة بين الفكر و المعاني و الالتقاطات الشعرية و بين معادلاتها التعبيرية وهو عامل جمالي مهم في تحقيق الدهشة و الانبهار .فبنية النص ترجع اما الى معادلات تعبيرية نصية تمثل بنيته السطحية اللفظية و التعبيرية ، او الى عوامل جمالية عميقة يمثلها التجلي المتميز للفكر و الصور و الالتقاطات الشعرية العميقة . و من المظاهر الاسلوبية للتعبيرية   في هذا النص هو اعتماد ( المعادلات التعبيرية المتفردة ) التي اشرنا اليها المغايرة لما هو سائد و التي تتجلى في جميع المظاهر الاسلوبية النصية على مستوى المفردات و التراكيب و الاساليب التعبيرية ، منها ( السردية \  التمثيل \  المستقبلية و الحركة داخل النص \ التجريدية و اعتماد الثقل الشعوري \ و العذوبة النصية \ و التعبيرية القاموسية \ البوح الاقصى \ التبادلية ) . كما ان من مظاهر التعبيرية الاسلوبية هي التجليات المتميزة  ( للعوامل الجمالية  العميقة المتفردة ) التي يمثلها التجلي الخاص و المرهف للفكر والماورائيات العميقة و الالتقاطات الشعرية  كالمعرفة التعبيرية  المتميزة بين الاشياء المتجلية في الانزياح و المجاز ، و الصور الشعرية النصية ، و الصدمة الشعورية المتجلية بالتعبيرية الاسلوبية ، و النفوذ الشعوري المتجلي بالعذوبة النصية و الشعور القوي بالكلمات المتجلي في التجريدية و المستقبلية و التعبيرية القاموسية و طلب الخلاص المتجلي في البوح الاقصى و رسالة النص و التبادلية  و البوليفونية ، و التي يمكن تتبعها في ثنايا النص و تعبيراته و نترك للقارئ ذلك لان المقام يطول ببيانها و سنعمد الى تفصيلها في مناسبات اخرى ان شاء الله . و ان المقياس الاهم لكون العامل الجمالي اكثر عمقا و نفوذا هو مقدار العجز الذي يحققه في نفس المتلقي ، فان القراءة في احد اوجهها انها تحد للنص ، و مقارنة ابداعية بين تجربة القارئ و تجربة المؤلف ، فكلما كانت العوامل الجمالية اكثر قوة و عمقا كلما كان القارئ اكثر عجزا تجاهها و اكثر دهشة و انبهارا بها. و بخلاف ادراك المعادلات التعبيرية التي تحتاج الى تربية فنية  وهو ما يتسبب فعلا في نسبية القراءات و تباين الاراء ، فان ادراك العوامل الجمالية شيء بسيط عادة يحقق الدهشة و العجز و ان كان القارئ او المتلقي لا يفهم مببرات تلك الدهشة .