توهم المعرفة الحلقة الثانية \ راديكالية الفكر اللاديني






من المعلوم ان الفكر اللاديني له مستويات في محاربته الدين ، سواء كان بنفيه وجود الله تعالى او الحاجة اليه  او نفيه الحاجة الى الدين او نفيه الحاجة الى علماء الدين و الفقه في حياة الانسان  . و لا نجد أيا من هذه الاطروحات تتسم بالموضوعية او العلمية ، فسواء كان الدين حقيقة او علما او موروثا فانه لا يمكن مقابلته بهذا الشكل من النفي الراديكالي ، و لا تكفي ابدا دعوة التحرر و الاستقلال التوجه بكل هذه الشمولية  و الانكار الراديكالي بحجة عدم الحاجة الى الدين او ظهور حالات استغلال له  .
لقد ادى توهم المعرفة  لدى الطبقة اللادينية و التعالي الفكري بدعوى الثقافة و التنور و دعوى احتكار المعرفة و النظرة الدونية الى المدرسية الدينية و التعليم الفقهي ، و الاحكام المسبقة و النظر من بعد و عدم سبر غور حقيقة التعامل المدرسي الفقهي مع النص ، كلها ادت الى تشويش في الاطروحة اللادينية و افقاره من العلمية و الموضوعية بل و المنطقية احيانا .
ان هناك حقائق لا يمكن للعقل السليم التغاضي عنها تثبت حقيقية و صدق الرسائل السماوية و يكفي استمرارالتعاليم الفقهية من دون تناقض او اختلال الى مئاة السنين شاهدا على جوهرية و حقائقية مضامينها ، فان كل نظر فلسفي و فكر عقلي لا يلبث سنوات الا و طرأ عليه التغيير و الحاجة الى التكميل ، بينما التمام و التكامل متجذر في الرسالات السماوية ، و لا تكاذب و لا تناقض بينها كما انه لا خلل في العمل بها و اعتمادها الى الآن . و ليس من مأخذ موضوعي و علمي على مضامين الرسالة السماوية جدي و معتبر عقلا يعتد به الى الآن ، و مجرد دعوة التحرر و عدم وجوب الطاعة للارادة الالهية لا مساعدة عليها ، كما هو الحال في رفض التفسير العلمائي للحطاب الديني ، و دعوى عدم الحاجة اليه ، فان العالم ما هو الا  مختص و علمي يتبع قواعد علمية متفق عليها بين اهل الاختصاص ، و يجتهد في الصول الى المراد الواقعي للخطاب الالهي و عدم توهم ما ليس كذلك ، لحقيقة ان الحطابات الالهية الفقهية امور منقولة تدخلت فيها عوامل نقلية تحتاج الى تنقيح و تحقيق ، و المسالة لا تتعدى ذلك ، و كل دعوى غير ذلك فانها خلاف الواقع و لا تتصف بالموضوعية .
و حال المختص بعلوم الدين  و العامل بتعاليم الدين حال كل مختص بعلم معين و عامل به ، فكما ان الخطأ و سوء الفهم بل و تقصد الاخلال وارد في غير العلوم الدينية و العاملين بها فان ذلك وارد فيها و في العاملين بها ، و خصوصا ان العاملين بالدين هم اكبر شريحة على وجه الارض تعمل بعلم معين واختصاص معين ، كما ان المختصين بعلوم الدين يفوق عدد اي عدد من الاختصاصيين في اختصاص اخر على وجه الارض ، و مسألة الروحانية و الارتباط بالسماء لا تختص برجل الدين و لا المتدين بل هي مختصة بكل انسان يعتقد بوجود خالق و الضمير الانساني و روحه السامية . انا لو نظرنا الى العلوم نجد علوم الدين احد تلك العلوم و لو نظرنا الى الاختصاصات نجد علوم الدين احد تلك الاختصاصات ، و لو نظرنا الى المختصين بالعلوم نجد علماء الدين هم من اهل الاختصاص و لو نظرنا الى العاملين بالعلوم و معتمديها تطبيقيا في حياتهم نجد العاملين بالدين هم من ضمن تلك الفئة العاملة بعلم معين . بل نجد ان المختصين بعلوم الدين لا يساويهم عددا اي عدد من المختصين في اختصاص اخر و نجد العاملين بالدين و المعتمدين عليه في الارض لا يساوي عددهم اي عامل باختصاص فيها .  و كما ان الخطأ و الخلل وارد في مجموعة صغيرة مختصة لا يتجاوز عددهم الواحد او الاثنين فانه يكون اكثر احتمالا في الالاف المشتغلين و المختصين بعلوم الدين ، و كما ان الخطأ وارد في المعتمدين على علم معين لا يتجاوز عددهم عدد الاصابع فان الخطأ يكون اكثر احتمالا في المتدينين وهم المعتمدين على الدين في حياتهم .أذن لا يوجد مبرر اطلاقا للحمل الراديكالي و الشمولي في تخطئة الاطروحة الدينية بمجرد خطأ او خلل اختصاصي او خلل او خطأ من العاملين فيه ، و هكذا احكام راديكالية و شمولية تعاني من اللاموضوعية الواضحة من الافتقار للعلمية بما لا حاجة لمزيد من الكلام لبيانها . و كما ان الاستغلال وارد في ادق العلوم و الضرر ناجم عن استغلالها  وسوء التطبيق ، فان سوء التطبيق و الدعاوى الباطل و البدع و الانحراف عن جوهر الدين و حقيقته ايضا وارد . و على من يريد النظر في تطبيقات  الرسالة السماوية الحقة عليه النظر فيما هو واقعي و حقيقي و صائب و صادق  منها ، و ليس في اعمال المنحرفين و المشتغلين و الكذابين ، كما ان الكذب و الاستغلال و التحريف وارد في كل علم و اختصاص و ليس شيئا خاصا بالمشتغلين بالدين لكي يؤدي الى حكم رديكالي و شمولي  بنفي الحاجة الى الدين و الرسالة السماوية . كما انه من غير العلمي و لا الموضوعي استغلال الاخطاء و الانحرافات التي تخرج بها مجموعة دينية او فئة منها و استغلال ذلك لاجل الطعن بالدين ، ان هذا من اتفه و اقبح اشكال الوهم و الخطأ الاحتجاجي . ان الاستغلال البشع لحالات الخرق و الانحراف في تطبيق الدين سواء على مستوى افراد او جمعات او مؤسسات و تضخيم ما يمكن تعنيه انما هو حالة واضحة من غسل الادمغة و الجذب الفكري و استغلال العواطف  و بث الحكم اللاعلمي و اللاموضوعي اعتمادا على حالات تعبئة و تثقيف مضادة ، فاصبح الامر في اطروحة الفكر الاديني طرحا سياسا اكثر من كونه فكريا ، و ما عاد بالامكان جعل ضابطة جيدة لتعريف المنهج الذي يعتمده المنهج اللاديني في بيان افكاره و منطلقاته ، بل صار مشروعا لديه استغلال و استعمال كل ما يمكن ان يحقق ميلا فكريا او عاطفيا  كالتأشير الى حالة خلل تطبيقي ديني او خرق فردي و اعتبارها نموذجا و ممثلا للدين و اهل الدين ، و من الواضح ان هذا من صفات الطرح السياسي و ليس الفكري  ، وهو مؤشر فقر و عوز في النظام الفكري للمنظومة الدينية او على الاقل في القاعدة الفاعلة فيها .


اسلوبيات النص الفسيفسائي و الترادف التعبيري عند كريم عبد الله





المعهود   ان لكل لفظ و كلام غاية تعبيرية و مقصد هي نهايته التعبيرية ، اما  في لغة المرايا فان هذه القاعدة و الناموس يُحطَّم ، لتحل محله توظيفات و تقنية مغايرة بحيث  ان معادلات تعبيرية متباعدة تكون مرايا لعوامل تعبيرية متقاربة فيكون ( التناص الداخلي ) او ( الترادف التعبيري )، او ان معادلات تعبيرية متقاربة تكون مرايا لعوامل تعبيرية عميقة  او ( الاشتراك التعبيري ) .( أنور الموسوي 2015)
ان طرح الفكرة ذاتها بتراكيب لفظية مختلفة يمكن من القول اننا نظرنا للشيء الواحد من زوايا متعددة ، و من هذه الحيثية يمكن وصف النص بانه متعدد الزوايا ، الا انه لو نظرنا الى التراكيب فيما بينها فانا سنراها تركيبة فسيفسائية يكون كل تركيب بشكل مرآة لذاك يمكن وصف هذه اللغة بلغة المرايا و وصف النص بالنص الفسيفسائي ( أنور الموسوي 2015).
الشاعر كريم عبد الله يكتب نصوص فسيفسائية تبلغ غاياتها المعيارية و الجمالية ، بشكل   الترادف التعبيري ، كما انه سبّاق في هذه التجربة الادبية المغايرة للمألوف .
في نص ( خلف أبوابك نحتمي دائما(2015 ) ) نجد لغة المرايا حاضرة بأسلوب الترادف في التعابير . ان التراكب هنا تتجه دوما نحو غايات موحدة كأزهار الشمس تتجه في كل وقت نحو الشمس ، محققة مرآتية  ترادفية اذ تكون التعابير - رغم افادتها المختلفة - معبرة عن معنى عميق تلاحقه ، بنسيج فسيفسائي مرآتي يعكس عمقا تعبيريا من المعاني و الافكار الموحدة .
ان الشيء الجديد فعلا  في النص الفسيفسائي اضافة الى الاستعمال المختلف و غير المعهود للغة هو تحقق انظمة جديدة لوحدة القصيدة العضوية ، يتمثل بأنظمة متعددة اهمها التناسق و التناغم الذي تحققه المرآتية و الفسيفسائية ، و الثاني العمق التعبيري الذي يوحد مكونات النص اللفظية ليس فقط في الموضوع و انما في الغايات الرؤيوية و الفكرية و المعنوية ، اضافة الى وحدة اسلوبية تفرضها الفسيفسائية على النص .

في النص ثلاثة عوامل تعبيرية عميقة تتجه نحوها التعابير ، لها مسحة زمانية و تاريخية بين الماضي مع الاعتداد و الاعتزاز و الحاضر مع  المأساة و المرار  و المستقبل مع الانتظار و التطلع . و مع هذه الانظمة النصية  العامة هناك محاكاة تعبيرية تفصيلية ايضا في كل نظام سنبينها لاحقا ، مما يجعل النص يحقق لغة المرايا و الفسيفسائية بشكل نموذجي .
الوحدات النصية للنظام الاول  ( الاستذكار والاعتداد و  الاعتزاز )
1-         خلفَ أبوابكِ إكتظّتْ ذكرياتنا نحتمي بها ونطردُ وساوسَ الشكوك
2-         حصونكِ العصيّةِ مِنْ هناكَ تغمرني بأريجِ حقولها وتمشّطُ سَعَفَ ضفافي الغافيةِ ,
3-         بينما قصائدي الملتهبةِ حقولاً مِنَ الحنينِ تبذرينها دائماً في صدري أرتّلها إذا أصابكِ الخطر
4-         ينابيعكِ المعطّرةِ بأنفاسِ كرنفالاتكِ الملوّنةِ تتقافزُ فيهِ تسابيحُ حَدَقاتٍ تتناهشها الأطياف
5-         تماسكي جيداً فلا ترهبنّكَ أسلاكهم لو تحاصرُ دروبكِ المحلاّةِ بالحنينِ يتساقطُ عناقيداً  تتشجّرُ في روحكِ ,
لقد نجاح الشاعر بقاموس لفظي متقارب   ينتمي الى مجالات الاعتداد و الاعتزاز و العمق و الانتماء و الاحتماء في خلق مزاج موحد لتلك التراكيب باعث على خلق صورة براقة لوجود عميق و اصيل و متجذر . نلاحظ في المقاطع الاربعة وحدتين مركزيتين بارزتين الاولى ( تعابير المنعة و السعة (  خلف ابوابك ، حصونك العصية ، تبذرينها في صدري ، ينابيعك  ، دروبك المحلاة ) و الثانية فاعلية المخاطب ( نحتمي بها ، تغمرني ، تبذرينها ، المعطرة ، تتشجر في روحك ).

الوحدات النصية للنظام الثاني ( الحاضر المرّ و المأساة )
1-    بزينةِ مدائنكِ تتمرّى سنوات القحطِ
2-    أكشطُ مِنْ شغافِ الروحِ راياتُ الغزاةِ لئلا تشوّهُ زهوركِ المفعمةِ بالنبضِ هتافاتهم المسعورةِ
3-    أحصّنكِ ( بربِّ الفلق ) مِنْ ويلاتِ الحروبِ الخاسرةِ وظمأَ فوّهاتها , سأدسُّ مدائنكِ العائمةِ فوقَ ركامِ الفجيعةِ بينَ الحنايا ,
4-    ساجمعُ مِنْ على جسدكِ ما خلّفتهُ المحنة أصوغهُ قناديلاً تضيءُ وحشةَ الفجرِ وتمزّقُ هذا الليلَ الطويل ,
5-    فكمْ ترنّحتُ على أرصفةِ الخناجرِ مطعوناً أبكيكِ معشوقة رائعة ,
ان هذا النظام له تجل واضح في النص ، حتى انه يمكن عده القطب  و المحور متمثلا بألم الحاضر و مأساته  الذي فاض من جانبيه البوح الاول بالاعتداد بالماضي و البوح الثالث بالتطلع الى مستقبل افضل ، كما ان الشاعر قد استخدم زخما تعبيريا قويا هنا مما اعطى هذا النظام محورية ظاهرة و تجل كبير، و لم يترك الشاعر شيئا من التوظيفات التعبيرية و القاموسية الا و استخدمه وهذا ما نسيمه ( الحد الاقصى من البوح ) .

الوحدات النصية للنظام الثالث ( الانتظار و التطلع الى المستقبل الافضل و الخلاص )
لقد استخدم الشاعر في تجلي و ابراز هذا النظام اسلوبين الاول الاستفهام و السؤال و الثاني الطلب و التشجيع ، و من المعلوم ان كلاهما من انظمة الطلب
أ‌- الصيغة الاولى ( سؤالات الخلاص  )
1-    مَنْ يلمُّ شتاتنا وغربةَ الأحلامِ المشققة , ومَنْ يرفعُ صلواتنا تطرقُ أبوابَ السماءِ البعيدة وأنا أسمعُ هديلكِ يحكُّ اناشيدنا المكبوتةِ ؟!
2-      مَنْ يعيدُ لتأريخكِ تدفّقَ البهجةِ ويمسحُ عنْ عيونكِ كلَّ هذا التشتتَ ؟ مَنْ يزرعُ السلامَ محبةً ينفتحُ على هذا الأفقِ الشاحبَ ؟
3-      كمْ مِنَ الوقتِ نحتاجُ أنْ نمزّقَ شرنقة عنكبتْ في حقولكِ الشاسعةِ ؟ ومتى ستزهرُ شرفاتكِ المدثّرةِ بجروحٍ نازفةٍ تفيضُ بالقرابين ؟ .
ب الصيغة الثانية ( طلب  التغيير )
1-    فأستعيدُ توازنَ اللغةِ كلّما ينتابها الضمور
2-    أنهكني هذا الآنتظارَ والمواعيدُ تنأى تلوذُ خلفها الأمنيات
3-    فأمنحيني صحوة تعيدُ لي بعضَ أنفاسي .
4-    أيّتها الساكنةُ في سواقيِ الشهقةِ تدفّقي ياقوتاً يرصّعُ أبوابنا المغلولةِ بالصمتِ ,
5-    ما أحرَّ لهيب الروحِ وقدْ إستشرسَ هذا الطغيانَ وتهدّلَ حزني فأوقفي هذا التصحّرَ بنبيذٍ طالما إنتظرتهُ على مضضٍ ,
6-    إحتشدي مِنْ جديدٍ وأنزعي مِنْ عيوني الذابلاتِ سنيناً ثيّباتٍ ,
7-    لنْ يتكاثرَ الحزنُ مجدّداً في أرضي ولا تتعثرُ الخطوات وأنتِ الآنَ تمطرينَ حجارةً مِنْ سجّيلٍ على رؤوسِ الطغاة .

لقد حقق النص غاياته القصدية التعبيرية بتجلي طلب الخلاص و الثورة على الواقع غير اللائق و غاياته الاسلوبية بتعابير ترادفية و لغة مرآتية متعاكسة و نص فسيفسائي ، بسردية تعبيرية عذبة ورفيعة .


النص   : خلف أبوابك نحتمي دائما
كريم عبد الله
(  لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي )
خلفَ أبوابكِ إكتظّتْ ذكرياتنا نحتمي بها ونطردُ وساوسَ الشكوك , ينابيعكِ المعطّرةِ بأنفاسِ كرنفالاتكِ الملوّنةِ تتقافزُ فيهِ تسابيحُ حَدَقاتٍ تتناهشها الأطياف , بزينةِ مدائنكِ تتمرّى سنوات القحطِ فأستعيدُ توازنَ اللغةِ كلّما ينتابها الضمور , حصونكِ العصيّةِ مِنْ هناكَ تغمرني بأريجِ حقولها وتمشّطُ سَعَفَ ضفافي الغافيةِ , أنهكني هذا الآنتظارَ والمواعيدُ تنأى تلوذُ خلفها الأمنيات . أكشطُ مِنْ شغافِ الروحِ راياتُ الغزاةِ لئلا تشوّهُ زهوركِ المفعمةِ بالنبضِ هتافاتهم المسعورةِ , أحصّنكِ ( بربِّ الفلق ) مِنْ ويلاتِ الحروبِ الخاسرةِ وظمأَ فوّهاتها , سأدسُّ مدائنكِ العائمةِ فوقَ ركامِ الفجيعةِ بينَ الحنايا , تماسكي جيداً فلا ترهبنّكَ أسلاكهم لو تحاصرُ دروبكِ المحلاّةِ بالحنينِ يتساقطُ عناقيداً  تتشجّرُ في روحكِ , فأمنحيني صحوة تعيدُ لي بعضَ أنفاسي . مَنْ يلمُّ شتاتنا وغربةَ الأحلامِ المشققة , ومَنْ يرفعُ صلواتنا تطرقُ أبوابَ السماءِ البعيدة وأنا أسمعُ هديلكِ يحكُّ اناشيدنا المكبوتةِ ؟! مَنْ يعيدُ لتأريخكِ تدفّقَ البهجةِ ويمسحُ عنْ عيونكِ كلَّ هذا التشتتَ ؟ مَنْ يزرعُ السلامَ محبةً ينفتحُ على هذا الأفقِ الشاحبَ ؟ كمْ مِنَ الوقتِ نحتاجُ أنْ نمزّقَ شرنقة عنكبتْ في حقولكِ الشاسعةِ ؟ ومتى ستزهرُ شرفاتكِ المدثّرةِ بجروحٍ نازفةٍ تفيضُ بالقرابين ؟ . ساجمعُ مِنْ على جسدكِ ما خلّفتهُ المحنة أصوغهُ قناديلاً تضيءُ وحشةَ الفجرِ وتمزّقُ هذا الليلَ الطويل , أيّتها الساكنةُ في سواقيِ الشهقةِ تدفّقي ياقوتاً يرصّعُ أبوابنا المغلولةِ بالصمتِ , ما أحرَّ لهيب الروحِ وقدْ إستشرسَ هذا الطغيانَ وتهدّلَ حزني فأوقفي هذا التصحّرَ بنبيذٍ طالما إنتظرتهُ على مضضٍ , إحتشدي مِنْ جديدٍ وأنزعي مِنْ عيوني الذابلاتِ سنيناً ثيّباتٍ , فكمْ ترنّحتُ على أرصفةِ الخناجرِ مطعوناً أبكيكِ معشوقة رائعة , بينما قصائدي الملتهبةِ حقولاً مِنَ الحنينِ تبذرينها دائماً في صدري أرتّلها إذا أصابكِ الخطر , لنْ يتكاثرَ الحزنُ مجدّداً في أرضي ولا تتعثرُ الخطوات وأنتِ الآنَ تمطرينَ حجارةً مِنْ سجّيلٍ على رؤوسِ الطغاة .






لغة المرايا و الفسيفسائية في نص ( حوار الصدى و المرآة) للشاعر عصام سلمان





المعهود في اللغة و استعمال الالفاظ ان لكل لفظ و كلام غاية تعبيرية و مقصد هي نهايته التعبيرية ، اي ان لكل معادل كلامي هناك عامل لغوي تعبيري . و نقصد بالعامل التعبيري النهاية التعبيرية و المقصود المعنوي او الجمالي العميق الذي يراد نقله بالكلام الى المخاطب ، و المعادل التعبيري هو الصيغة الكلامية التي تستخدم للتعبير عن العامل التعبيرية و نقله الى المخاطب .
 في لغة المرايا هذه القاعدة و الناموس يُحطَّم ، لتحل محله توظيفات و تقنية مغايرة بحيث  ان معادلات تعبيرية متباعدة تكون مرايا لعوامل تعبيرية متقاربة فيكون ( التناص الداخلي ) او ( الترادف التعبيري )، او ان معادلات تعبيرية متقاربة تكون مرايا لعوامل تعبيرية عميقة  او ( الاشتراك التعبيري ) .فلغة المرايا و فسيفسائية النص لها شكلان الاول الترادف التعبير بان تعابير مختلفة تدل على مراد واحد و الثاني الاشتراك التعبيري  بان تعبير مختلفة تدل على مرادات مختلفة بالضبط كما هو الحال في الترادف و الاشتراك اللفظي الا ان ما لدينا هنا ليس الفاظا مفردة و انما تعابير و عبارات و جمل .
  نماذج ناضجة من لغة المرايا و الفيسفسائية التعبيرية بالشكل الاول اي التناص الداخلي نجدها في كتابات للشاعر كريم عبد الله و الدكتور انور غني الموسوي . و هنا نجد ملامح الشكل الثاني ( الاشتراك التعبيري ) في نص ( حوار الصدى و المرآة) حيث ان تعابير و معادلات تعبيرية متقاربة تشير الى دلالات و عوامل تعبيرية متباعدة .
لقد بينا في مواضع عدة انه كما ان للمؤلف غاياته و للقارئ غاياته في النص ، فان للنص غاياته و للغة غاياتها ، و مع ان الاختيارية و القصدية موجودة من قبل المؤلف الا ان طبيعة القاموس العنواني كان مما فرضه النص   ، فعبارة ( حوار الصدى و المرآة) هو تبني قاموسي بالفاظ ترجع كلها الى لغة المرايا و الاشرتاك التعبيري  الفسيفسائية ، اذ ان لغة المرايا هي حوار تعبيري بين عبارات و جمل  ، و هي صدى ما يكون بالمرآة التعبيرية  بين العوامل العميقة و المعاني و التعابير و المعادلات النصية .
ان تكرار لفظي ( الصدى و المرآة) و في وضع او بناء بدلالات مختلفة يحقق شكلا متميزا من لغة المرايا و الفسيفسائية ، حيث ان الفسيفسائية متقومة بالتقابل و التناغم و التناسق الذي يعكس صورا مختلفة و جهات مختلفة ، وهو استخدام هندسي و تقني ابداعي و مختلف للغة .
النص يعتمد لغة رمزية و تعبيرية عالية  ظاهرة جدا ، و بنسق و مستوى واحد وهكذا البناء الاسلوبي الموزع باتقان على مقاطع النص ايضا حالة تكرارية تعطي فسيسفائية للنص . و ايضا من المراتية الاسلوبية هو طبيعة الخطاب الذي يصدر عن اطراف الحوار ، فان عبارات الصدى متقاربة في زمنيتها و قاموسيتها و اسلوبها و كذلك عباراة المرآة متقاربة في زمنيتها و اسلوب حكايتها و خطابتها ، وهذه ايضا فسيفسائية نصية خطابية . ان ما يحصل بواسطة تلك العناصر هو احداث نظام متناسق متناغم موسيقي الا انه بدلالات مختلفة ، وهذا يختلف عن غيره من الانظمة التناغمية . و ايضا من عناصر الفيسفسائية في النص هو الثيمة ، فان خطاب الصدى يتمحور حول ثيمة خاصة من الرغبة و الحيرة و البحث  و كذلك خطاب المرآة ايضا يتمحور حول ثيمة خاصة  من اليقين و المعرفة و البيان .
1-    الصدى (" أَتَعَطَّرُ بالحُزْنِ المَوْجِيِّ،\ وأَتْلُو فَوْقَ العُشْبِ شُؤُوْنَ الغَيْمِ،\ شـُحُوْبَ الرِّيْحْ".
2-    الصدى ( أَتَوَحَّدُ باللَّهَبِ الأَخْضَرْ؛\ أَتْلُو أَمْطارَ الصَّحْوِ عَلَى نَوْمِ الأَحْلامْ". )
3-      الصدى (أَتَكاثــَرُ خَلْفَ ضَياعِي؛\ كُلِّي طُرُقٌ تـَتـَدَحْـرَجُ في اللَّحَظاتْ.\ لا أَعْرِفُ كَيْفَ أَعُوْدُ إِلَيَّ،وَخُطْواتِي النـِّسْيانُ )
4-     الصدى (  لا أَعْرِفُنِي، \ لا أَسْكُنُ شـَيْئاً يَمْلِكُنِي،\ أَتَشاهَقُ أَبْحَثُ عَنْ مُطْلَقْ". )
1-      المرآة (وكانَ يُجاسِــدُ نَجْمـاً يَــبْكِي، \ وَيُوَسِّعُ سِرَّهُ لِلأَمْواجِ، يُوَسِّعُ جُرْحَهُ لِلْمَعْنـَى.\ كانَ الوَقْتَ المَرْئِيَّ، وَكانَ يَلُمُّ حُقُوْلَ الصَّمْتِ )
2-     المرآة (" هَلْ كانْ شَراراً يِنْهَضُ \ مِنْ صَفْصافِ الجُرْحِ، يُسامِحُ يَقـْظَتــَهُ!؟ \ وَيَقُوْلُ بــِوَحْيِ النَّهْرِ يَنابــِيْعَ العَطَشِ الأَزَلِيِّ، \ يَقُوْلُ هــَواءً لا يَخْنـُقُهُ،)
3-      المرآة (  هَلْ كانَ مَلامِحَ ماءٍ، أَمْ جَسـَداً لِشُعاعْ !؟ \ هَلْ كانَ كُشُوْفاً مُحْتَجِباً بوُضُوْحِهِ،\ أَمْ وَهـْـماً يَتَجَمْهَرُ في الصُّدْفَةْ،)
4-    المرآة (لا شَيْءٌ يُقْرَأُ أَوْ يَظْهَرْ".  \"لا شَيْءٌ يَظْهَرُ أَوْ \يـُـقْـرَأْ". )
من الواضح جدا التقارب الزمني و الخطابي و الثيمي في عبارات الصدى و كذلك الشيء نفسه في عبارات المرآة . و باللغة الرمزية و التعبيرية و بما تقدم من تقنيات نجد ان النص قد كتب بتقنية عالية و بلغ اهدافه التعبيرية  و حقق نظاما نموذجيا من لغة المرايا و النص الفيسفسائي .

 النص

- (حِوارُ الصَّدَى والمِرْآة) –
عصام سلمان
*****************
-I-
(صَدَى):
" أَتَعَطَّرُ بالحُزْنِ المَوْجِيِّ،
وأَتْلُو فَوْقَ العُشْبِ شُؤُوْنَ الغَيْمِ،
شـُحُوْبَ الرِّيْحْ".
(مِرْآةْ) :
" كانَ الوَقْتَ المَرْئِيَّ،
وكانَ يُجاسِــدُ نَجْمـاً يَــبْكِي،
وَيُوَسِّعُ سِرَّهُ لِلأَمْواجِ، يُوَسِّعُ جُرْحَهُ لِلْمَعْنـَى.
كانَ الوَقْتَ المَرْئِيَّ، وَكانَ يَلُمُّ حُقُوْلَ الصَّمْتِ
وَيَسْكُنـُها ظِلاً ظِلاً وَحِجابْ.
وَيُنـَيْزِكُ كُلَّ كَلامِهِ حِيْنَ تـُكاشِفُهُ المِرْآةُ
بــِعُرْيِ الشَمْسِ، وَعاداتِ الشُطْآنْ".
*****************
-II-
(صَدَى):
" أَتَوَحَّدُ باللَّهَبِ الأَخْضَرْ؛
أَتْلُو أَمْطارَ الصَّحْوِ عَلَى نَوْمِ الأَحْلامْ".
(مِرْآةْ):
" هَلْ كانْ شَراراً يِنْهَضُ
مِنْ صَفْصافِ الجُرْحِ، يُسامِحُ يَقـْظَتــَهُ!؟
وَيَقُوْلُ بــِوَحْيِ النَّهْرِ يَنابــِيْعَ العَطَشِ الأَزَلِيِّ،
يَقُوْلُ هــَواءً لا يَخْنـُقُهُ،
وَصَدًى لا يَرْجـِـعُ مَكْسُوًّا بــِغـُبارِ البَوْحْ.
يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَيْسَ وَحِيْداً يَعْبُرُ ذاكِرَةَ المَوْتْ.
يَتَوَهَّمُ أَنــَّـهُ لَيْــسَ المَوْتْ".
*****************
-III-
(صَدَى):
"أَتَكاثــَرُ خَلْفَ ضَياعِي؛
كُلِّي طُرُقٌ تـَتـَدَحْـرَجُ في اللَّحَظاتْ.
لا أَعْرِفُ كَيْفَ أَعُوْدُ إِلَيَّ،وَخُطْواتِي النـِّسْيانُ
وأَزْمِنَةٌ تَغْرَقْ".
(مِرْآةْ) :
" هَلْ كانَ مَلامِحَ ماءٍ، أَمْ جَسـَداً لِشُعاعْ !؟
هَلْ كانَ كُشُوْفاً مُحْتَجِباً بوُضُوْحِهِ،
أَمْ وَهـْـماً يَتَجَمْهَرُ في الصُّدْفَةْ،
يَتَظاهَرُفي حَشْدٍ مِنْ أَجْنــِحَــةٍ وَنـُجُوْمْ!؟
هَلْ كانَ كَثافَةَ هــَذا البَرْقِ، لَطافَةَ هَذِيرالتُّرْبَةْ،
أَمْ رَمْزاً يَنْحَلُّ إِذا أَوْضَحْ"!؟
*****************
-IV-
(صَدَى):
" لا أَعْرِفُنِي،
لا أَسْكُنُ شـَيْئاً يَمْلِكُنِي،
أَتَشاهَقُ أَبْحَثُ عَنْ مُطْلَقْ".
(مِرْآةْ) :
"لا شَيْءٌ يُقْرَأُ أَوْ يَظْهَرْ".
"لا شَيْءٌ يَظْهَرُ أَوْ
يـُـقْـرَأْ".



السردية التعبيرية و اسلوبياتها









1- ابعاد النص و القراءة التعبيرية 
للنص الادبي ابعاد ثلاثة ، فاضافة الى بعده  الكتابي البنائي كنص بمفردات و جمل و فقرات متجاورة   ، فان له بعدا  ابداعيا اسلوبيا  يتمثل بالفنية و الجمالية و الرسالية ، و له ايضا بعد لغوي  دلالي يتمثل بتجلّي اللغة و النص و المؤلف و القارئ .  ما يحصل اثناء الكتابة هو تقاطع خطوط هذه الابعاد و تقابلها و تلاقيها في النهاية في نقاط تعبيرية .  بينما يكون تتبع عناصر البعد الابداعي الاسلوبي هو من  القراءة الاسلوبية  ، و تتبع عناصر البعد اللغوي الدلالي هو من القراءة الدلالية اللغوية  ، فان تتبع نقاط تلاقيهما التعبيرية يكون بالقراءة التعبيرية بادوات النقد التعبيري . و من هنا يتجلى الفرق الواضح واصالة النقد التعبيري و تميزه عن الابحاث الدلالية و الاسلوبية و ان كانت جزء منه و مستفيدا من ادواتهما .
 و من هنا ايضا يظهر  ان التصور السائد كون النص  كيانا زمانيا ترتب عناصره في الزمن لا يتسم بالواقعية ، بل ان النص كيان ثلاثي الابعاد  ، بعد كتابي نصي و بعد لغوي دلالي و بعد اسلوبي ابداعي . يعتمد وضوح و تجلي هذا الشكل على مدى ظهور و  قوة نقاط ابعاده المتقدمة اثناء القراءة .
 حينما تحدث عملية القراءة فانها تتطور من مستوى المفردة الى مستوى الاسناد او التجاور المفرداتي الى مستوى الجملة الى مستوى الفقرة ثم الى مستوى النص بكله .  اثناء كل مستوى يحضر البعد اللغوي الدلالي و البعد الابداعي الاسلوبي ، و بمجموع ما يتم من انظمة احتكاك و تقابل و التقاء و تقاطع و بفعل مستوى النقطة التعبيرية لكل بعد تحصل في الفكر و النفس مواضع تعبيرية لكل وحدة كتابية فيه يقابله بعد رابع خاص بالقارئ هو البعد الشعوري و الاستجابة الجمالية ، بعبارة اخرى بينما يكون النص ككيان مكتوب شكلا ثلاثي الابعاد ساكن لا حراك فيه ، فانه ككيان مقروء يكون كيانا  متحركا له اربعة ابعاد البعد الرابع هو البعد الشعوري ويمثل بعد الحركة الذي يخرج النص من السكون . فتكون القراءة هي العملية التي تعطي للنص روحا و تخرجه من الموت الى الحياة ، وهذا ما نسميه ( حركة النص )
  

القراءة ما هي الا عملية مشاهدة و تلقي تبحر فيها النفس في عوالم النص و الكتابة ،و  الفكر و اللغة ، و الخيال و الابداع ، و  الشعور و المتعة . هذه العوالم الاربعة الحاضرة دوما في الكتابة الابداعية هي التي تضرب في عمق النفس و تجعل الكتابة الادبية مميزة ،  و بمقدار تجلي عناصر و اشياء تلك العوالم و تلك الابعاد يتحدد وقع القراءة و مقدارها التعبيري . النقد التعبيري هو المجال الذي يبحث الانظمة المتحققة من تفاعل تلك الابعاد و ما ينتج عنها من مواضع و قيم تعبيرية في فضاء الكتابة و عوالمها .  ان التشخيص الدقيق و عالي الكفاءة للبعد الجمالي للكتابة بواسطة ادوات النقد التعبيري و تحديد المقادير الكمية و التشكلات الكيفية للبعد الجمالي للنص يمكن من تشخيص عالي المستوى لقيم النصوص جماليا مما يعد مدخلا علميا للظاهرة الجمالية و الاستجابة الشعورية تجاه الجمال .  

تعتمد التعبيرية في اللغة على التوظيفات في ثلاث مستويات كما بيناه سابقا في مقالاتنا ، مستوى النص كقول و كتركيب لفظي معنوي ، و مستوى التجربة كعالم من المعاني و الحقول الفكرية المعنوية ، و المستوى الوسيط الرابط ينهما ، فبينما الجمالية في عناصر النص التعبيرية تعتمد على انجازات فردية اسلوبية على مستوى المفردات و التراكيب كوحدات كلامية ، فانّ عناصر الجمالية اللغوية في حقول المعنى الفكرية العميقة  و العامة تكمن في اشكال تمظهر و تجلّي لمناطق و افراد تلك الحقول ، و اما العنصر الوسيط فهي عملية ذهنية رابطة تنتج عن عملية القراءة ، بمعنى اخر لدينا ثلاثة عوامل تنتج اللحظة الجميلة و الادهاش المصاحب : عناصر كتابية  نصية و عناصر التجربة  العميقة و عناصر قراءاتية  و سيطة بالمعنى المتقدم  ، هذا التناول هو شكل من اشكال النقد التعبيري ،و الذي بتجاوز  اخفاقات النقد الاسلوبي في منطقتي العناصر القراءاتية الوسيطة و عناصر  التجربة  اللغوية العميقة .

2-  السردية التعبيرية
ان ما يقابل الشعر هو النثر و ليس السرد كما يعتقد البعض ،السرد يقابله التصوير ، و الشعر حينما يكتب بشكل نثر فانه بالنهاية سيكون شعرا ، و المميز بين النثر و الشعر ليس الوزن كما هو معلوم   ،و لا الصورة الشعرية و المجاز العالي كما اثبتته قصيدة النثر السردية بالكتلة النثرية الواحدة ، انما المميز بينهما ان الشعر يشتمل على السردية التعبيرية و لا يقصد الحكاية او التوصيل  ، بينما النثر اما قصصي حكائي يقصد الحكاية او توصيلي بشكل خطاب و رسالة. بمعنى اخر ان الفرق بين الشعر و القص و اللذين يشتملان على السرد  ،   ان السرد في القصة حكائي قصصي يقصد الحكاية و الوصف  ولو خيالا ،بينما السرد في الشعر تعبيري هو سرد لا بقصد السرد هو السرد الذي يمانع و يقاوم السرد ،انه السرد بقصد الايحاء و الرمز ونقل العاطفة و الاحساس لا الحكاية و الوصف.

السرد لا بقصد السرد ، السرد الممانع للسرد ، السرد لا بقصد الحكاية و القصّ ، السرد بقصد الايحاء و الرمز و نقل الاحساس و العاطفة ، هذه هي ( السردية التعبيرية ) .

 مظاهر السرد التعبيري و الذي يكون القصد منه ليس  الحكاية و الوصف و بناء الحدث ، و انما القصد الايحاء و نقل الاحساس ، و تعمد الابهار ، فيكون تجل لعوالم الشعور الاحساس بمعنى اخر ( ان الميزة الأهم للشعر السردي الذي يميزه عن النثر وان كان شعريا هو التعبيرية في السرد ، فبينما في النثر السردي يكون السرد لأجل السرد و الحكاية ، فانه في الشعر السردي يكون  موظفا لأجل تعظيم طاقات اللغة  التعبيرية. ) ( انور الموسوي 215)


3-  اللغة المتموجة و وقعنة الخيال

جمال الأدب يكمن في طريقة التعبير و أسلوب الدلالة ،  و لكل تعبير أدبي قدرة معينة على الكشف عن جماليات بدرجات مختلفة  ، هذه هي المرتكزات الاساسية للنقد التعبيري ، اي البحث الواسع في اسلوب التعبير الادبي ، و لا بد من الاشارة انه لا علاقة للنقد التعبيري بالمدرسة التعبيرية و انما هو منهج اسلوبي موسع . مما تقدم من اهمية طريقة التعبير و الدلالة و تدرج تجلي عناصر الجمال  تتبين قلة الاهمية في مبحث المداليل كهدف اساسي لأنه لا يعين المكمن الحقيقي للجمالية الادبية و ايضا تتبين لا واقعية فكرة الوجود التام و الفقدان التام لحقيقة الوجود الدرجاتي للعناصر الجمالية في العمل الادبي .
ان الواقعية مهمة في كل معرفة تقريرية و النقد معرفة تقريرية ، و هذه الواقعية  تحتاج الى عنصرين الوضوح و التجريبية ، فما لم يكن هناك وضوح و ما لم يكن هناك قدرة على الاستقراء و التجريب فانه لا مجال لبلوغ الواقعية في النقد ، ولا تدخل الكتابة حيز الجدية و العطاء . ان النقد التعبيري ، بتركيزه على اسلوب التعبير و النظرة الواسعة الى العنصر الادبي ، و الانطلاق من امور بينة كالتعبير و الاستجابة الجماليات و المؤثرات الجمالية من معادلات و عوامل جمالية ، كل ذلك يعطي للنقد التعبيري درجة عالية من الوضوح و التجريبية و الاستقرائية .
وفق مفاهيم النقد التعبيري فان القراءة في جوهرها اندماج و عيش في النص ، و اذا لم يكن النص مقنعا فانه لا تتحقق هذه الغاية . على النص ان يحمل القارئ اليه و ان يجعله يعيشه ، و لا يقال ان المجاز العالي يعرقل  ذلك ، بل العكس صحيح انما المجاز هو وسيلة لتعظيم طاقة اللغة و النص و اعطائه قدرة اكبر على التأثير و التقريب من نفس المتلقي .
الفنون الأدبية تعتمد الخيال في بناءها ، ليس فقط في ما ترمي اليه من معان ودلالات وانما في طريقة التعبير ، و ما الانزياح الا شكل من اشكال التعبير بوساطة الخيال ، اذ ان العلاقة الانزياحية خيالية كما هو حال المجاز ، اذ ريب ان هناك لاألفة بين المجاز و ذهن القارئ ، لذلك لا بد على النص ان يطرح مجازه بشكل واقعي ، طرح المجاز وهو علاقة خيالية بصورة واقعية هو (  وقعنة الخيال ) ، و وقنعة اشتققناها من كلمة  واقعي ، و يمكن وصف حالة تحقيق الألفة لللاألفة التي يتميز بها الخيال التعبيري  بانها حالة وقعنة له ، فالخيال المجازي  في علوه و بعده و لاألفته  الذهنية  حينما ينجح المؤلف في تقريبه و الباسه ثوب الواقعية و الحقيقية فانه يكون طرحه بصورة واقعية وحقيقية .
ان اللغة المتموجة التي توفرها السردية التعبيرية ، و التي تتناوب بين مفردات و تراكيب توصيلية و اخرى مجازية  انزياحية  ، يعطيها ميزة لا تتوفر في الشكلين الاخرين من الكتابة ، اقصد السردية القصصية و الشعرية التصويرية ، فالاولى ليس لها الا ان توغل في  التداولية و التوصيلية وتخفّض من مجازها  و الثانية ليس لها الا ان تتعالى في المجاز  . و لا يظن ان ذلك مختص بالبناء الشكلي اللفظي للنص بل انه ينفذ عميقا الى الجذور المعنوية و الدلالية و الفكرية له ، اذ ان الكتابة في كل واحد من تلك الاشكال  تتصف بتلك الفوارق في كل مستوى من مستوياتها المختلفة .
       لطالما تحدثنا عن لغة قوية تصل و تنفذ الى اعماق النفس الانسانية و في الوقت نفسه تحافظ على فنيتها العالية ، و يمكن ان نرى بوضوح ان السردية التعبيرية تحقق هذه الغاية فانها تخضع المجاز و الانزياح باي درجة كان  الى الواقعية و الحقيقية و القرب ، انها جمع حر بين الالفة و اللاألفة انها جعل الشيء غير الأليف أليفا . و ربما لا احد يستطيع ان يقلل من قيمة الاسلوب الذي يتمكن بحرية و سلالة  ان يجعل غير المألوف مألوفا ، السردية التعبيرية بكل  حرية و سلالة تحقق ذلك . 

 ان التعبيرية المتموجة بين الواقعية و الخيالية  في بناء نصوص السرد التعبيرية تحقق اللغة التي تنفذ الى الاعماق مع المحافظة على فنيتها العالية . و من الواضح ان الفهم و التصور الذي يقدم النقد التعبيري  عن العناصر التي يشير اليها كما في الخيال المجازي هنا و وقعنته و تحقيق السردية التعبيري لتجليات عالية له و التموج التعبيري ، يمثل درجات عالية من الجدية و الواقعية في منهج النقد التعبيري بادواته الاسلوبية التعبيرية . كما ان وضوح عدم امكانية بلوغ مثل تلك الدرجات من الظهور و التجلي لحالة وقعنة الخيال في الشعر التصويري و السرد القصصي ، لضعف تجلي التموج التعبيري فيها يدل بلا ريب على التجريبية العالية و الاستقرائية البينة في النقد التعبيرية ، مما يمثل بابا واسعا و حقيقيا نحو بناء علمي للنقد الادبي .

4-  التوافق النثروشعري
المعهود من الكتابة الأدبية ليس فقط التمييز بين الشعر و النثر ، بل رسوخ فكرة تضادهما فالكتابة التي تميل الى الشعرية و توظف تقنيات الشعر تضعف فيها النثرية ، و هكذا العكس في الكتابة التي تميل الى النثرية و توظف تقنياتها فان الشعرية تضعف فيها . هذا التضاد و التناسب العكسي بين الشعر و النثر هو المعروف و الراسخ في الكتابة  لمئات السنين ، و لقد مثل الشعر الصوري المعهود النموذج الاوضح لهذه الظاهرة ، اذ كلما  تعالى النص  في شعريته ابتعد و نأى عن النثرية وهذا ما لا يحتاج الى مزيد بيان .
لكن الذي يبدو و كما بيناه في مقالنا ( اللغة المتموجة و التوافق النثروشعري ) ان هذا التضاد ليس ناتجا عن امر ذاتي و اساسي في نظام الشعر و النثر ، بل هو نتاج اسلوب الكتابة و الفكر السائد عنها . اذ قد بينت نصوص السردية التعبيرية ، وهو السرد الممانع للسرد و السرد لا بقصد السرد ان حالة التوافق بين الشعر و النثر ممكنة و واقعية ، و ان التناسب الطردي  و التكامل بينهما ايضا ممكن و واقع .
ان السردية التعبيرية بسعيها نحو الغاية القصوى لقصيدة النثر في تحقيق الشعر الكامل بالنثر الكامل و تحقيق حالة الشعر المنبثق من وسط النثر ، وفرت الامكانية و القدرة على تحقيق نظام ( التوافق النثروشعري ) . و لا بد من التأكيد ان  فكرة التوافق بين الشعر و النثر و لا ذاتية تضادهما هو نتاج اصيل و مستقل للسردية التعبيرية و غير مسبوقة في هذا الفهم و ان كان تلمس اشكال من تجليات نظام التوافق النثروشعري في سرديات تعبيرية عالية كالقران الكريم و ملحمة جلجامش .
هنا سنتعرض الى ملامح التضاد النثروشعري و نظام التوافق النثروشعري في نصوص   من الشعر الصوري المعتمد على الصورة الشعرية و من الشعر السردي المعتمد على السردية التعبيرية للشاعر العراقي حسن المهدي الذي يكتب  الشكلين الشعريين .

لقد وفرت السردية التعبيرية امكانيات كبيرة للنص لبلوغ هذه الغاية و تحقيق هذه اللغة ، اذ ان السرد يتطلب و بشكل قاهر عذوبة و قربا و سلاسة تحقق الفة للقارئ ، و تحقق التعبيرية ابحارا و صعودا و تحليقا و تعمقا يحقق الادهاش و الابهار الشعري.  و من الجدير بالذكر ان اية سردية تعبيرية مستوفية لشروطها تحقق هذه الغاية ، لكن نصوص السرد التعبيري تتباين في مستوى النفوذ و الابهار ، اذ ان اسلوب الكاتب و قاموسه اللفظي و ميله التعبيري و البنائي يحدد درجة الميل نحو النثرية و انخفاض الشعرية او ميله نحو الشعرية و انخفاض النثرية. وهذا الميل ليس لحقيقة التضاد بين النثر و الشعر في النص السردي التعبيري ، و انما هو بفعل معالجة المؤلف و طاقاته التعبيرية ، فانه في قبال هذه الصورة يمكن تحقق التصاعد التناسبي الطردي بالنثرية و الشعرية في السرد التعبيري ، اي تحقيق درجات تصاعدية في كلا الجانبين في وقت واحد . وهذه الحالة التي يتحقق فيها علو فني  لشعرية النص و نثريته في آن واحد يمكن ان نسميها (التوافق النثروشعري) وهي الحالة الفريدة و الوحيدة ربما التي يتحقق فيها تطور و تجل اكبر للنثر مصاحبا و ملازما لتطور وتجل اكبر للشعر ، فمع كل درجة شعرية اعلى يحققها الشعر تتحقق معه درجة نثرية اعلى للنثر .وهذا بخلاف حالة التنافر و التضاد بينهما في الكتابات الاخر و منها الشعر الصوري المعهود اذ ان حالة ( التضاد النثروشعري ) هي السائد بحيث ان كل تقدم و ميل نحو الشعرية في النص يقابله نقصان و تراجع في نثريته وهكذا العكس . 
من اوضح الاساليب التي تحقق حالة التوافق النثروشعري هي اللغة التي تتموج بين القرب و التوصيل و بين الرمز و الايحاء ، و بين التجلي و التعبير ،   هذه اللغة هي اللغة المتموجة بين التوصيل و الايحاء والتجلي ،  بين المنطقية الانحرافية التركيبية اي بين واقعية الاسناد اللفظي و بناءاته و بين خياليته ولاالفته فتحصل حالة  (وقعنة الخيال ) اي اظهار الخيال بلباس واقعي مما يعطي النص عذوبة و قربا و الفة و يزيل عنه اية حالة جفاء او جفاف او اغتراب يطرا عليه بفعل الرمزية و الايحائية. ان السردية التعبيرية باللغة المتموجة تبلغ درجات متقدمة من التوافق النثروشعري ، و تصل ساحة الشعر الكامل بالنثر الكامل . 
5- اللغة الحرة و النص الحر

ان اللغة الحرة و النصوص الحرة العابرة للاجناس و التي ستكون و بلا شك  الشكل المستقبلي للادب لن تاخذ شرعيتها بسهولة و بفترة قصيرة لأمور كثيرة اهمها تجاوزها الاجناس الادبية و تحطيمها لأعراف سائدة في اللغة و الادب . لقد بقي الادب يعاني من سطوة الناشر فكان يفارق رغبة المؤلف و رغبة القارئ لاجل ان يعجب الناشر فاهدر الكثير من الوقت و الجهد لتلبية تلك الارادات اللافنية و اللاعلمية ،اما الآن و بفضل النشر الالكتروني و امكانية النشر بشكل حر و تحرر مواقع نشر كثيرة من تلك الافكار ، صار الوقت مناسبا لظهور الادب الحر و اللغة الحرة و النص الحر العابر للاجناس ،فلا يكون امام عين القارئ سوى ما يريد ان يقوله و لا شيء سوى اللغة التي يريد استعمالها ،من دون وصاية لا فكرية و لا موضوعية و لا سلوبية ، بلا و لا ادبية فالمهم الكتابة و لا يهم ما جنسها و ما تصنيفها ، و الجمهور هو الحكم. لقد انتهى عصر الوصاية الادبية و بدا عصر الادب الحر و اللغة الحرة.
لقد اثبتت الكتابات الأدبية في العشرين سنة الأخيرة انه لا اهمية تذكر لتجنيس النصوص ، و صارت الكتابات الأدبية تتداخل حتى انها تصل الى حد لا يمكن تصينف النص الى جنس ادبي معين و يختلف في تجنيسه  ، ممل مهّد لظهور النص الحر العابر للاجناس . و السردية التعبيرية بامكانتها الواسعة يمكن ان تكون البوابة الواسعة نحو النص الحر . و لا بد من تأكيد الفرق بين النص الحر العابر لاجناس الادببية و بين القصيدة الحرة ، التي تعتمد نمطيات و تقنيات الشعر الصوري   . نعم النص الحر قريب جدا من قصيدة النثر  ، الا انه ليس قصيدة نثر حرة ، بل هو نص ، قد يراه البعض شعرا و البعض قصة و البعض خاطرة و الاخر رسالة ، ان النص الحر يحرر المؤلف و القارئ  و يحرر نفسه .

6- اللغة التجريدية

التجريدية في التعبير و اللغة هو استعما اللغة في نقل الاحساس و الشعور و ليس الحكاية ، فتتخلى الالفاظ عن وظيفة نقل المعنى الى نقل الاحساس المصاحب له كمركز للتعبير ، فيرى القارئ الاحاسيس و المشاعر المنقولة اكثر مما يرى المعاني .
و انطلاقا  من فكرة انّ الابداع اللغوي و خصوصا الشعر لا يتجه بالأساس نحو البناء المعرفي  و المفاهيم ، و انّ محور الابداع هو عالم المعنى و الشعور و الاحساس  ، فاننا يمكن فهم اللغة التجريدية بانها اتجاه عميق نحو صور خالصة و مجردة وكلية  لموضوعات الادب و عوالم  الجمال و الشعور و الاحساس و المعنى ، التي تعصف بنفس الشاعر و تلهمه ، و تختلف هذه التعبيرية بشكل واضح عما يتجه نحو الجزئي من تجرية و جماليات و موضوعات قريبة  ، و ينعكس ذلك بشكل ملحوظ على لغة التعبير لان خصوصية الموضوع لها تاثيرها الحاسم في شكل اللغة التي تتحدث عنه ، فبينما  الجلاء و الوضوح و القرب و الاحتفاء و المجاز التعبيري وحتى الرمزية الموظفة من سمات اللغة المعبرة عن التصورات الجزئية لموضوعات الابداع و الجمال الجزئية  بلغة تعبيرية جزئية تشخصية  ، فان التجسيد الخالص ، و التصورات الكلية و  الرمزية   المبتكرة و التحليق الحر و العمق البعيد من سمات اللغة التي تتجسد فيها  التصورات الكلية لموضوعات الابداع و الجمال الكلية  بلغة تعبيرية كلية تجريدية .
لا بد من القول و بشكل حاسم و واضح ان الانطلاق بالكتابة من العوالم العميقة و الكلية للمعنى و الشعور لا يكفي لتحقيق التجريد ، بل لا بد من ان يظهر اثر ذلك في اللغة ايضا ، و لا تكفي الرمزية مع توظيفها و حكايتها و وصفيتها ، بلا لا بد ان تكون في وضع الاشعاع و التوهج المرئي بدل الحكاية .
 بالاضافة الى عناصر الابداع من الفنية و الجمالية و الرسالية التي يجب توفّرها في العمل الشعري الناضج ، لا بدّ ان تتصف اللغة التجريدية بصفات محددة اهمّها ان تكون تعبيرا عن عالم عميق للمعاني و الاحاسيس ، بوجوداتها الخالصة الحرة ، البعيدة عن التشكل و القصد ، ببوح كلي و كوني و انساني عميق ، بمفردات و تراكيب لا ترى فيها الا تجليات و تجسيدات لتلك العوالم و عناصرها من خفوت شديد للقول و الحكاية و التوصيل ، بلغة  تشع و لا تقول . حينها نكون امام لغة تجريدية لغة الاشعاع التي تتجاوز مجال القول و التشخّص .