التأريخ النصّيّ و الزخم التعبيري عند جواد زيني

 



د أنور غني الموسوي

بينما تعمد الرمزية المعهودة الى توظيف التأريخ الخارجي للمفردة  و الاعتماد على ذلك التأريخ ، فانّ في القصيدة السردية يتحقّق للمفردات تاريخا نصّيا مبتكرا من قبل المؤلف و بفعل النص ، و بفعل هذا التأريخ النص يصبح للمفردات الوصفية في النص ثقلا تعبيريا غير مسبوق محققا لزخم تعبيري لا تمتلكه تلك المفردات خارج النص ، حيث الجمع  بين الرمزية و التوصيلية في المفردة الواحدة . بعبارة أخرى بينما المفردات في النص عادة ما تكون توصيلية او رمزية بالاساس ، فانّ المفردات في السرد التعبيري و اللغة المتوهجة تجع بينهما في وقت واحد ، وهذا من الاساليب الصعبة و المتقدمة للكتابة الشعرية .
التوهّج و اللغة القوية تحتاج الى تموّج تعبيري ، اي انّ النص و تراكيبيه تتموّج بين اللغة التوصيلية و اللغة الرمزية و بفعل هذا التموج تتراكم التواريخ و الزخم النصي للمفردات مما يحقّق التوهّج ، و ينتج عن هذا التموج التعبيري و ما يكون عنه من توهج و نظام رمزي-توصيلي  احالات و دلالات غائبة و حاضرة في وقت واحد مقصودة او غر مقصودة واعية او غير واعية ، وهذا ما يحقق نظام غيابي متجلّ في النص يمثل المسكوت عنه فيه الا انه يمكن تتبعه و ادراكه و الشعور به من خلال وحدات النص الحاضرة .
سنتناول هنا تجربة الشاعر جواد زيني في قصائد نثر حقّقت درجات عالية من تجلّي التأريخ النصّي و الزخم الشعوري .
في قصيدة أوّل الهذي المنشورة في مجلة تجديد الادبية ( 9\5\2016)
 نجد الصور الموضوعية للتوهّج بلغة متموجة تصنع تأريخا نصيّا و تنتج زخما تعبيريا للمفردات و ثقلا فكريا و ذهنيا جديدا لها .
( في أوّلِ رحلةِ امتطاء غمامةٍ من هذي شيخوختي المباغتة حدثَ الاصطدام بنورس غِرٍّ أغفل ربط حزام الأمان !…تداخلت عظامي الهشَّةُ وعظام النورس وها أجنحته عندي لكنّه فقد ريشَ ذيلِهِ إلا بعضَ زَغَب . أنا و هو ألآن كيانٌ واحدٌ نحلّقُ باتجاه واحد برؤيتين اثنتين هو مغامري عتمدُ حِسَّه الفطري وأنا أمحّص الخيارات المتاحة لتلك اللحظة الهاربة من بعض يقظة، ليقظة كاملة، مازال صراعنا قائما لاختيار بقعة افضل لهبوط آمن .كيفَ يريدُ هبوطاً امناً منزوعُ الذيل إلا من بعض زغب ؟!…..كانَ الإرتطامُ . )
تتميّز نصوص جواد زيني   بالتركيز العالي على الفكرة ، و الدخول الفوري و المباغت في الرسالة و الخطاب الجوهري للنص ، وهذا يمثل شكلا من اشكال الكتابة المعاصرة البعيدة عن التشتيت و التطويل و الترهّل . و هنا يدخل المؤلف في عمق تجربته من دون مقدمات  بحيث يفاجئنا الاصطدام و شخوص النص من نورس غرّ و شيخوخة مباغتة ، وهذه كلها اصوات متعددة في النص و مع عظام المؤلف و عظام الطير و الانا و الهو و اللحظة الهاربة  من اليقظة  و ارادة الهبوط الامن مع الارتطام ، هذه التقابلات و الكم الكبير من الارادات و الرغبات مع ما يقابلها من واقعيات و حالات ممانعة و ممتنعة ، تخلق نصّا بوليفونيا متعدد الاصوات ، و تخلق تأريخا نصيّا للشخوص الرئيسية في النص وهم ( الرحلة ، و انا ، و النورس ) و تخلق لغة متموجة تتناوب فيها التوصيلية و الرمزية ، و تخلق لغة قوة متوهّجة تجمع مفرداتها في وقت واحد بين التوصيل و الرمز .
 و مع أنّ  الرحلة الاولى كشخصية نصية  قد تجلّت في النص بشكل محسوس و منطقي ، و بصدق عميق ، فانها أيضا اكتسبت بعدا نصيّا من خلال ذلك البوح ، و في الواقع لو قلنا أنّ ذلك هو غاية الكتابة الجميلة لكان حقّا ، وهو التعبير عن اللحظة الشعورية بأدق و أصدق تعبير و الذي يتجلّى بوضوح و من دون أيّ غموض يتعب القارئ و الذهن  ، و الذي اضافة الى كشفه الحالة الانسانية في الكتابة فانّه يخلق مجالا معنويا و تعبيريا  جديدا يوسّع  طاقات اللغة و مفرداتها التعبيرية .
لقد كان الشاعر واضحا  و واسعا في بيان رحلته الأولى بحيث يمكن أن نعدّ هذا البيان للتجربة الاولى التي عانها المؤلف بيانا تعبيريا يعطي للاشياء معنى آخر مختلفا ، هو أعمق و أوسع من الفهم العادي لها ، و بما يحقّق الصدمة و الابهار ، ليس من خلال المجاز العالي و التشظي التعبيري بل من خلال التأريخ النصّي و الزخم التعبيري للنص  ، و يتجّلى  ثقل التأريخ الذي صنعه النص و الزخم التعبيري له من خلال تجمّع كتل التجربة و المعاناة في نهاية الارتطام حيث ينتصر صوت التساؤلات و الترددات على صوت التسليم و المماشاة .
انّ التأريخ النصّي الذي يبتدعه خيال المؤلّف و الزخم التعبيري للنصّ  الذي يوسّع المدارك باللغة و مفرداتها هو المجال الخصب و الساحة الواسعة التي تنتج لنا أدبنا عذبا و عميقا يجمع بين الوضوح و السلاسة و بين الابهار و الدهشة  ، وهذه هي غايات الادب  عموما و الشعر و قصيدة النثر خصوصا .
و في قصيدة اخرى بعنوان ( باب السراب ) المنشورة في مجلة تجديد في  20\4\2016
نجد ثقل التأريخ النصي و الزخم التعبيري حاضرا ايضا
( بابٌ بِلا صَريرْ، موصَدةٌ على أُفْقٍ غائمٍ حٓيثُ اللّاشمس، يطرقها حالمٌ هاربٌ من جحيم اليقظةِ يراوحُ في كسرةٍ من يابسة على لجّةِ فٓراغٍ مُحدقٍ بالطّٓفْوِ، ليس خلف الباب سوى الغياب….من يفتحُ باباً لطارقٍ لا يجيدُ عبورَ سِياج الوهم ؟!! )
و يحضر هنا أيضا التكثيف و التركيز و سرعة بيان الرسالة و الخطاب و الصدق و الوضوح من دون تشظي و لا تشتيت ، و من خلال التركيز على الحالة الشعورية و وصفها و انبعاثها من العمق و اطلالتها من الذات يحقق النص التعبيرية  النموذجية ، و من خلال ما يتحقق لمفردات من زخم تعبيري و ثقل شعوري و قدرات و طاقات عالية في نقل الاحساس الذي يسابق الفهم يتحقق شكل من اشكال التعبيرية التجريدية  .
تأريخ الباب في هذا النص يتصاعد باعتبارها شخصية نصيّة  و تتكاثر انظمة العلاقات و توصيفاتها فهي بلا صرير و موصدة على أفق غائم حيث اللاشمس ، و يطرقها حالم هارب من جحيم اليقظة ، و ليس خلفها الا الغياب ، و ليس هناك من يفتح الباب .   
انّ ما ذكرنا من شعر جواد زيني و غيره مثله يمكن ان نسميه بالشعر التعريفي ، و الذي يحاول ان يعطي للاشياء تعريفا  شعوريا جديدا فينما في ( اول الهذي) قدم النص تعريفا شعوريا خاصا للرحلة الاولى و الارتطام ، فهنا في ( باب السراب ) يقدّم تعريفا شعوريا خاصا لباب من وهم و طارق واهم .
و في سردية تعبيرية نموذجية محققة للصورة النموذجية لقصيدة النثر المعاصرة يتجلّى التأريخ النصّي و الزخم التعبيري في قصيدة (ظمأ) المنشورة في مجلة تجديد  في 11\3\2016
( ألجَدْولُ الصَغير اعتادَ عبورَ قطعان الظباء بينَ ضفتّيه ،لم يكُن عميقاً ليثيرَ فيهّن الخوفَ . قاعهُ قريبةٌ من رقابهنَ، لكنَّهُ لا يطربُ لرنينِ أجراسهّن الراقص على عموده الفقري ، يُنصِتُ لنبضاتِ خافقِه حينَ تعبُرُ ظبيةٌ مع القطيع دون أن تبتلَّ ! إحدودبَ ظَهرُ الجدول ومازالَ يبحثُ عنها في سَقْفِه بينَ الغيوم يجمَعُ ريشَها المتهاوي بأحلامِه لوسادةِ نَومه الوثيرةِ . ما أشقى الجدول الظمآن ! )
و كالعادة يدخل المؤلف في صلب القضية و الحكاية ، و يبدأ من حيث النهاية ، فالجدول في البداية هو الجدول الضمآن في النهاية  ، هو الذي يرى كل هذا الفضاء و تلك الانغام و تلك الاجواء الساحرة ، وهو الذي يدع الاشياء تجري حسب رغباتها و يتحمل كل ّ المعاناة و النظرات ، و الحلم و البحث ، في جوّ من الصدق و العذوبة .  و يحمّل المؤلف بصدقه المعهود و بسرده العذب و وصفه العالي جدوله تأريخا نصيا و زخما تعبيرا  غير مسبوقا .
و يتجلّى التأريخ النصّي و الزخم التعبيري في قصيدة في منتهى العذوبة و البيان  حيث ( ربيع القذى ) نترك للقارئ التأمل في ما اضفاه النص و المؤلف على وحداتها و مفرداتها من طاقات تعبيرية و البس شخصياتها تواريخ نصيّة و زخم شعوري باهر
(ربيع القذى )
 ( كلَّما فتَحْتُ عيَنَ القذى بكأسكَ تتسلّقُ أَجفاني حبَّةُ رَمْل . أَكتَنِزُ الكثيرَ من اللؤلؤ في أصدافي، يرُّجُّ الكأسَ خُطَبٌ وشِعاراتٌ ومسيرُ خُطى الوَراء .مُخيفٌ الربيعُ * ألربيعُ لا يحتاجُ الهامشَ والمَتْنُ خَراب ! )
لقد نجح الشاعر بسرده العذب و وصفه الهادئ الرقيق و الدقيق تحقيق غايات اللغة  المتوهّجة الجامعة بين البوح و الابهار بتواريخ نصيّة جليّة و زخم شعوري تعبيري للمفردات مؤثر ، و من الواضح أنّ في النصوص أبعادا ابداعية  فنيّة و جمالية  و انساقا تعبيرية كثيرة الا أننا و كما هو معروف نتناول و نركز على جانب واحد لأنّا وجدنا أنّ هذا هو الاسلوب هو الامثل لأجل تطوير النظرية الأدبية و  تعميق فكرتنا عن أسلوب المؤلف و الظاهرة الأدبية .


الواقعية التعبيرية في شعر كريم عبد الله

 
 
إنّ وطأة الأحداث و ما تمرّ به شعوب الأرض عموما و العربية و الاسلامية خصوصا ، لا يترك مجالا للكتابة الرومانسية و الذاتية ، بل يدفع و بشكل واع و غيرواع نحو تصوير المأساة و ندب الواقع المرّ لهذا العالم الأعمى . و بخلاف الواقعية القديمة التي ازدهرت في القرن التاسع عشر المعتمدة على محاكاة الطبيعة و التصوير المطابق للخارج ، فإنّ تناول الواقع و المأساة الخارجية في الكتابات المعاصرة إنّما يعتمد التصوير التعبيري و طرح الموضوعات بصبغة ذاتية و داخلية (1) ، وهذا جمع فذّ و متقدّم بين الواقعية بتناول الخارج و الموضوعي و التعبيرية بطرح الموضوعي بصيغ و اشكال داخلية و ذاتية . و من هنا صح أن نسمّي الكتابة الجديدة التي تناول الواقع بأنها واقعية جديدة لإختلافها تقنيا عن الواقعية القديمة و صحّ أيضا أن نصفها بالواقعية التعبيرية لهذا المزج بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي .
لقد أشرنا  في مناسبات كثير و في مواضع عدّة من كتابنا ( التعبير الأدبية )(2)  أنّ الكتابة ذات الملامح الإنتمائية و المرتبطة بالواقع و الخارج تمثل شكلا من أشكال الأدب الرسالي . و أنّ هذه النصوص الرسالية  و بمحافظتها على المستوى الفني العالي الذي وصلته الكتابة المعاصرة و ما صاحبها من تغيّر في الوعي تجاه اللغة عموما و الكتابة خصوصا و الأدب بشكل أخصّ ، تحقّق أدبا رفيعا عذبا يضرب بعيدا في جهات عدّة أهمها تجاوز اخفاقات الحداثة و عزلة الأدب عن الناس ،  بالأقتراب منهم و الكتابة بلغة قريبة بعيدة عن التحليق و التحصينات الرمزية العالية ، و من جهة أخرى أنّها تقدّم أدبا عذبا مبهرا و بنكهة عالمية يمثّل المرحلة و يواكب عصر العوالمة و تداخل الثقافات و من جهة ثالثة مهمّة أنّها في الشعر خاصة تقدّم نموذجا عالميا لقصيدة النثر ، يعتمد النثروشعرية ( 3) و البناء الجمالي المتواصل بكتابة شعر سردي على شكل المقطوعة النثرية بعيدا عن التحسينات الشكلية المعتادة للشعر ، و إنّما الاعتماد الكلي على توهّج اللغة و عمق نفوذها و موسيقها الداخلية و عذوبتها الظاهرة .
كريم عبد الله ، الحائز على جائزة القصيدة الجديدة السنوية لعام 2016 (4) ، يكتب نصوصا تتسم بالرسالية و تحافظ على الفنيّة و الشروط المطلوبة لكتابة قصيدة النثر ، ببناء جملي متواصل و سردية تعبيرية (5) ظاهرة و نثروشعرية جليّة . فالهمّ الوطني و الانساني حاضر دوما في كتابات كريم عبد الله ، كما أنّ الهمّ الأدبي و الجمالي حاضر أيضا بكتابة النص المواكب للقصيدة العالمية المعاصرة ، و تحضر أيضا تلك العناصر المميزة للسرد التعبيري .
لقد تناولنا كثيرا من هذه المظاهر و المضامين الرسالية و الفنية و الجمالية في كتايات كريم عبد الله في كتابنا ( التعبير الأدبي )    و في غيره لأهمية هذا الشاعر  ،  هنا سنعمد الى بحث أسلوبي في تجلّ تلك المظاهر الواقعية التعبيرية في شعر كريم عبد الله ، و بالضبط نظام و حالة المزج بين ما هو واقعي و ما هو تعبيري في الوحدات الكلامية من النصوص ، و لقد بينا في مناسبة سابقة (6) أن الواقعية الجديدة في الشعر ، لها أشكال منها النص البسيط كما عند أنور غني و منها القصيدة السريالية كما عند فريد غانم و منها السرد التعبيري كما عند كريم عبد الله ،  و أشرنا هناك أنّ الجامع لذلك هو  اللغة المتموجة التي تتنقل بين التوصيلية و الرمزية و بين الواقعي و الخيالي .
 و من المهمّ الأشارة هنا أنّ تلك التصنيفات و التسميات التي نعتمدها إنما هي وليدة الحاجة و الضرورة لأجل مواكبة النص المعاصر و القصيدة المعاصرة ، حيث  أنّا في كتبتنا و بحثنا - و كما يعلم الكثيرون - نتجه من النص الى النظرية و ليس العكس كما يفعل البعض بالنزول من النظرية الى النص بأحكأم مسبقّة و ممارسة وصاية فنية و جمالية ، لأنّ وظيفة النقد و البحث الأدبي هي متابعة النص و ملاحقته و النظر اليه كظاهرة انسانية بتجرد و بحريّة من دون اسقاطات و لا تكلفات ، وهذا ما نسميه النقد الصادق الذي لا يرى في النص الا ما فيه و لا يحاول أبدا تطبيق نظرية جاهرة على النص كما في المدارس البنوية و ما بعدها من تفكيكية  و أسلوبية و التي لا يمكنها الصمود أمام سعة تجربة و ثراء القصيدة المعاصرة ، بل لا بدّ من اعتماد نقد منفتح و حرّ و مرن و أمين  و مؤمن بالنص ، يضعه في المقدمة ليس فقط باعتباره مادة بحث فقط بل باعتباره منجماً للعطاء و الاضافة  مع اعتماد السهولة و الوضح في الافكار و التعابير . وهذا ما يمكن أن نصفه ( بمابعد الأسلوبية ) في النقد و البحث الأدبي  .هنا سنتناول مقاطع من مجموعة قصائد للشاعر كريم عبد الله نشير فيها الى ملامح الواقعية التعبيرية ( الواقعية الجديدة ) في الشعر كنماذج أسلوبية و أشكال كتابية  . و هذه القصائد كلّها منشورة في مجلة تجديد الأدبية المكرّسة بالكامل لقصيدة النثر السردية الأفقية ( 7) .
من الموضوعات الحاضرة في شعر كريم عبد و كنموذج للرسالية و التعبير الانتمائي هو الحزن و الأسى للخراب و آثار الحرب ، اذ لا تجد نصّا له الا و تجده معجونا بهذا الحزن .
في تعبيرية عالية لواقع مرّ و أعمى يحضر الظلام فيه و الأسى و يتخفّى خلف كلماته الفاعل المخرّب كحالة من المسكوت عنه و نظام من الغياب و الحضور للمعاني و الدلالات   ، حيث يقول كريم عبد الله في قصيدة (خيانةٌ في تلافيفِ العقل )
(شمسٌ سوداء تتشمّسُ عليها خيانة أسئلةٍ مِنْ مقابرها الموغلةِ في أعماقِ الأنا . تتسلّلُ بلا صوتٍ بعنادٍ ترفضُ الظلامَ / دويٌّ يمعنُ حفراً في أخاديدِ تجاويفِ الروح يسرقُ الأمانَ لا يورّثُ إلاَ أرتالاً مِنَ المتاريس / كالشياطين تتراقصُ تُحكِمُ أقفالها على منافذِ رحلةٍ ملغومة تشدُّ إلى نفقٍ كابوسهُ طوييييييييييل ..)
انّها الشمس السوداء المظلمة  ( نظام رمزي )  و أسئلة خائنة متجذرة في عمق الأنا ( نظام تعبيري)  في نظام مجازي رمزي ، تتسلل بلا صوت عناد يرفض الظلام  ، انه الخواء و وجه الخراب ( نظام توصيلي ) ، في ( نظام سردي ) . ثمّ ترجع اللوحة بصورة أخرى ( فيسفسائية تعبيرية ) (دويٌّ يمعنُ حفراً في أخاديدِ تجاويفِ الروح )  ( خيالية رمزية ) هنا مرآة و ترادف معنوي للجملة الأولى  ( مقابر موغلة في عملق الأنا ) ، مما يحقق الفسيفسائية . ثم هو ( يسرقُ الأمانَ  ) ( واقعية )  وهنا شرج للشمس السوداء وهو ايضا فسيفسائية تعبيرية  فهو ( لا يورّثُ إلاَ أرتالاً مِنَ المتاريس ) ( توصيلية و واقعية ) وهنا يحضر خيط الى المسكوت عنه من حيث الارتال و المتاريس وهي وطأة الحرب .
في ما قدّنمناه من استقراء أسلوبي كشف عن انظمة معقدة تعبيرية ، تصف واقعا محزنا و آثارا مدمرة  و ظلاما يتجذر في النفس ( الكلية ) ، بلغة متموجة تتراوح بين التوصيلية و الرمزية و بين الواقعي و الخيالي ، و بسر تعبيري بقصد الايحاء و الرمز و ليس بقصد الحكاية و القص ، مع توظيف للفسيغفسائية تجذيرا لرسالة النص و تمكينا للفكرة و مزيد بيان لوطأة و عمق المأساة ، فانّ من أهم داعي الكتابة الفسيفسائية هو تجذرير الرسالة و تعميقها في نفس القارئ .
 
و تحضر الواقعية التعبيرية بصور الحزن و الأسى و الخواء و الخراب في قصيدة  (قيامةُ الأدغالِ المرتجفة
 ( تفقّدَ أضلاعَ أيامهِ ../ كانَ ضلعٌ أعوج يتمطّى ../ تركَ القفص مهجوراً ../ بلا جدوى ……….. غاباته الغارقة بأسى الشفق ../ أمطرتْ بـعشراتِ الحكايات ../ فشبَّ في النهاراتِ حريق ../ …………… / لكنَّ مساحات الندم ../ إفترشتْ لوعةَ القنوط المواعيدُ على غيمةِ الرحيل / التذاكر مسرقةٌ في كفِّ العطش .. حقولُ القمحِ فوقَ الصدرِ تحلمُ بنيّسان ـــ المناجلُ جرّحتْ أخاديدَ جوع الينابيع على هاويةِ الحزنِ الساكت ../ شربوا الملذّات بكأسِ التشفّي )
و هنا أيضا و بسرد تعبيري  و نثروشعرية ظاهرة و لغة متموجة تتنقل بين الواقعي و الخيالي و التوصيلي و الرمزي ، يوثق لنا كريم عبد الله الواقع المر و الخارج الموضوعي السقيم ، فالقاموس اللفظي لهذا االمقطع  - وحده فقط - ينقل القارئ  الى الحقول المعنوية المرتبطة بالخواء و الخراب و الحزن و الأسى ، و لقد بينا في مناسبة سابقة ( 7) أنّ القاموس النصي يمكن أن يوظف كمعادل تعبيري (9)  دون الحاجة الى التراكيب الجملية المعنوية ، بمعنى  عدم انحصار التعبير بالجمل المفيدة بل ان مزاج النص و فضاؤه العالم و العالم الذي سيعيش فيه القارئ يعتمد كثيرا على قاموس الألفاظ التي يختارها المؤلف ، و أنّ من خلال العلاقة بين القاموس النصي و معاني الجمل و رسالة النص يمكن استخراج عدد من اشكال الانظمة التعبيرية المركبة و المعقد و التي تؤثر في وعي القارئ وهذا ما سنتناوله في مقالات قادمة ان شاء الله .
و أيضا من الأساليب التي يجيدها كريم عبد الله و التي هي من علامات الكتابات الواقعية هو توظيف المفردة اليومية و الحياتية حتى انه احيانا يستعمل المفردات العامة  كما هو معروف لمتابعيه ، و كثيرا ما يستعمل أكثر المفردات حياتية و يومية و التي تخرج عن الشعر الرمانسي بالمرة يطعم بها الانظمة الرمزية    . في قصيدة (منشارٌ على قارعةِ الحكاية )
نجد العنوان منشار وهو خارج نظام القصيدة الرمانسية و الكتابات الانتقائية ، وهو مختار بشكل متعمد كما يختار عيره من المفردات اللاشعرية في الشعر ، وهذا يذكرنا بحركة ( الشعر ضد الشعر ) بأن يكتب الشعر بمفردات غير شعرية هي في منتهى البساطة و اليومية و الحياتية او التقريرية فنجد القصيدة التقريرية او الاخبارية او اليومية و كل هذا هو من الواقعية الجديدة ان صيغت بشكل جيد و وظفت برمزية و ايحائية تكسبها التوهج و الابهار .
في هذه القصيدة (منشارٌ على قارعةِ الحكاية ) يقول كريم عبد الله
(الحظوظُ شعثاء تحرّكُ شطوط الألم تنقلُ هوادجَ حزنِ الأرض ، خَبَرتْ حنكةَ منشارٍ حاذقٍ يدمنُ لعبةَ إقتناص المغانمِ الوفيرة مبتسماً يمارسُ طقوسَ المكائدِ الساخنةِ ، طوّفتْ في درابينهم الهاربة ، تسارقُ بيقينِ قطّاعِ الرقاب ، يتغلغلُ القحطُ في حكاياتِ أولادِ الدموعِ الرخيصة مذ كان الغراب يتوضأُ بالخطيئةِ هيّجَ إستعراض الجيوشِ الهائجةِ خيولَ الغزوات ، تستحلبُ الضواري تقاويماً تستدرجُ الآلامَ في مزادٍ مجانيٍّ مرضعتهُ رثّةُ الضرعِ تروفُ وقتاً شحيح الألفةِ يتقافزُ على خارطةِ الزمنِ العجول ينزُّ مِنْ طيّاتهِ نحسٌ يذرقُ مبتهجاً في ماسورةِ الحلمِ يحلمُ أنْ يكونَ متأنقاً مرفوعَ الرمح تعلوهُ فضيحةُ الدسائسِ خيانةٌ مسعورةٌ تحشرجُ في أحاديث ملساءَ كجلدِ افعى تدفنُ بيوضها في صحراء تافهة تشتاقُ كثبانها نزعةَ توترٍ تعتصرُ نشوةً عجفاءَ بواعثها مركونة الى أجلٍ أعمى تسبحُ فيهِ رائحةُ القلق الخشن متخبطاً باللامبالاةِ تفخخه الاعلانات تحدُّ كتلٌ إسمنتية صماءَ . )
في هذا المقطع العالية النثروشعرية و بناء جملي متوصل ، يحقق النص شكل جديدا من التموج اللغوي ، ليس من حيث التراكيب المعنوية بل من حيث المفردات فالنص يتنقل بين مستويات من الانشاء للمفردات فمن كلمة عالية الشاعرية الى كلمة يومية و بسيطة جدا وهكذا . فوسط الكلمات المنتقاة و العالية الشعرية  نجد كلمات ( منشار ، درابين ، الاعلانات  ،  اسمنتية) .
و هنا تحضر ايضا الواقعية التعبير بما تقدم من مفردات يومية و بحضور الحزن و الأسى و الخراب و الخواء  ، ساء على مستوى قاموس المفردات ام على التراكيب المعنوية و الافادات . فمفردات ((الحظوظُ شعثاء  ،  شطوط الألم ، هوادجَ حزنِ الأرض ،  منشارٍ حاذقٍ ،  المكائدِ الساخنةِ ، ،  درابينهم الهاربة ، تسارقُ بيقينِ ، قطّاعِ الرقاب ، يتغلغلُ القحطُ ،  يتوضأُ بالخطيئةِ ،  تستحلبُ الضواري ، تستدرجُ الآلامَ ،  مرضعتهُ رثّةُ الضرعِ  ، وقتاً شحيح الألفةِ ،  الزمنِ العجول ،  نحسٌ ،  فضيحةُ الدسائسِ ، خيانةٌ مسعورةٌ ، تحشرجُ ،  أحاديث ملساءَ ،  كجلدِ افعى ، صحراء تافهة ،  نشوةً عجفاءَ ،  أجلٍ أعمى ، القلق الخشن ، متخبطاً باللامبالاةِ ،  تفخخه الاعلانات   )
انّ كريم عبد الله هنا كشف عن قدرة تعبيرية مهولة ، حيث انه لم يترك اية امكانية للغة الا و وظفها لأجل بيان رسالته ، فالالفاظ مختارة بشكل يمكن من القول ان الشاعر كان يعيش اللحظة الشعرية الغارقة التي تفيض بالتعابير ، فما من مفردة الا وهي معبأة بالألم و معبرة عن الخواء و العمى باكبر قدر من طاقاتها بحيث انه لا يمكن أداء تلك المعاني بغير تلك الالفاظ . كما انّه قدّم هنا مقطوعة تعبيرية لم تدع شيئا ذكرته الى و وجهته توجيها ذاتيها و تطرفت في وصفه و بالغت في نعته و حاله وهذه من معالم التعبيرية الحقّة ، و لو أنّا اردنا تقديم نموذج للتعبيرية في الشعر فانّ هذا سيكون أحدها ليس على مستوى الشعر العربي بل العربي أيضا .
كما أنّ هنا أساوبا آخر استخدمه المؤلف وهو تعدد الاصوات  . حيث نجد تعدد الرؤى واضحا ، و لكريم عبد الله قصائد بوليفونية  متعدد الاصوات كثيرة ( 10) . و نجد الرؤى و الاصوات المتعددة المحققة للبوليفونية 
الصوت الاول : الحظوظ الشعثاء : ( ((الحظوظُ شعثاء تحرّكُ شطوط الألم تنقلُ هوادجَ حزنِ الأرض ، )   فالتحريك و النقل افعال فاعلة تعبر عن تبئر خارجي و محايد للمؤلف و يتجلى صت الفاعل .
الصوت الثاني : المنشار : ( خَبَرتْ حنكةَ منشارٍ حاذقٍ يدمنُ لعبةَ إقتناص المغانمِ الوفيرة مبتسماً يمارسُ طقوسَ المكائدِ الساخنةِ ،)  فحاذق و مقتنص للمغانم و مبتسم كلها تعبر عن جهة و رؤية الفاعل و الشخصية النصية  و ليس  المؤلف بالطبع .
الصوت الثالث : النحس : (  ينزُّ مِنْ طيّاتهِ نحسٌ يذرقُ مبتهجاً في ماسورةِ الحلمِ يحلمُ أنْ يكونَ متأنقاً مرفوعَ الرمح تعلوهُ فضيحةُ الدسائسِ )  فالنحس يذرق مبتهجا و يحلم ان يكون متأقنا مرفوع الرمح ، وهذه كلها  من بؤرة الشخص الثالث  الذي لا يتدخل و يحايد  بينما عبارة ( تعلوه فضيحة الدسائس ) هي من انطباع و رؤية المؤلف . و هكذا  في باقي النص . و من الواضح أن البوليفونية و تعدد الاصوات و الذي هو من سمات الرواية اساسا ، غالبا ما يكن في الشعر ملتصقا بالرسالة و الانتماء و بيان الواقع و اداة تعبيرية للتعبير عن الخارج و الموضوعي و يختلف جدا عن التعبيري الغنائي و الرمانسي الغارق في الذاتية .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
2-    أنور الموسوي التعبير الأدبي الجزء الاول و الثاني   https://ar.scribd.com/user/292534301/Dr-Anwer-Ghani
 
3-    النثرشعرية تعني تكامل النص شعرا و نثرا ، بأن تكتب القصيدة بشكل النثر و بتقنيات النثر من بناء جملي متواصل و جمل و فقرات و فوارز و نقاط و من هذا النثر ينبثق الشعر بالتوهج و الإيحاء و التصوير و الخيالي و السرد التعبيري  و النثروشعرية من مقومات قصيدة النثر العالمية  . لمزيد من القراءة  http://anwerganiblog.blogspot.com/search/label/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AB%D8%B1%D9%88%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D8%A9
4-    جائزة القصيدة الجديدة هي جائزة سنوية تمنحها مؤسسة تجديد الأدبية عن قصيدة النثر السردية الأفقية ، و كانت جائزة السنة الاولى عام 2015 للشاعر الفلسطيني فريد غانم و جائزة هذه السنة للشاعر كريم عبد الله ، و أهمّ مميزات الجائز اضافة الى أمور اعتبارية كثيرة أنّها تشتمل على كتاب نقدي عن تجرية الشاعر . لمزيد من القراءة  https://tajdedliteraryinstitute.wordpress.com/2016/04/22/جوائز-مؤسسة-تجديد/
5-     السردية التعبيرية هي كتابة النص بلغة و اسلوب سردي لكن ليس بقصد الحكاية و القص و محاكاة الموضوعي و إنّما بقصد الرمزية و الايحاء و التوهّج و التأثير ، بسرد ممانع للسرد يخلو من الخبكة و يكسر الحدثية و يمنع مركزية الشخوص السردية . و السردية التعبيرية أهم أدوات قصيدة النثر التي يكتبها شعراء مجموعة تجديد الأدبية .للمزيد من القراءة http://anwerganiblog.blogspot.com/search?q=%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%A9
6-      أنور غني الموسوي ؛    الواقعيَّةُ الجديدةُ في قصيدة نثرِ ما بعدَ الحداثة (قصيدة "حرب" للشاعر فريد غانم نموذجًا)   http://aladebalarabai.blogspot.com/2016/06/blog-post_8.html
7-      مجلة تجديد ؛ كتّاب المجلة : كريم عبد الله  https://tajdeedadabi.wordpress.com/category/كريم-عبد-الله/
8-      القاموس النصي في قصيدة ( اميرة من ضوء ) للشاعر شلال عنوز بوصفه معادلا تعبيريا    http://anwerganiblog.blogspot.com/2016/05/blog-post_9.html
9-     المعادلات التعبيرية هي الانظمة النصيّة من مواد و اساليب التي يستخدمهتا المرلف للكشف و التعبير عن العوامل التعبيرية اي الانظمة الجمالية العمليقة لمزيد من القراءة http://anwerganiblog.blogspot.com/search?q=%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%84%D8%A7%D8%AA
 
10-                        البوليفونية هي تعدد الرؤى و الاصوات في النص بحيث يكون المؤلف محايدا و يتكلم من يؤرة الشخص الثالث كما في الرواية احيانا لمزيد من القراءة  http://aladebalarabai.blogspot.com/search/label/البوليفونية
 
 
 
 
 
 
 

الواقعية الجديدة في قصيدة نثر ما بعد الحداثة ، قصيدة ( حرب ) للشاعر فريد غانم نموذجا



 

في خضم كل هذا الزخم المعرفي و الضغط المادي و السطوة العلمية و التداخل الثقافي  في عصر العولمة ، ما عاد كافيا و لا مستساغا الاعتماد على المجاز و الاستعارة كمركز للصورة الشعرية ، و اتخذ النص الشعري منحى جديدا و مميّزا بتوظيف الصورة الواقعية البعيدة عن المجاز المحلّق و الاستعارة الشاعرية الحالمة .

ان القصيدة العالمية المعاصرة بقدر محافظتها على الابهار و الادهاش ، فانها تحقّق ذلك من خلال توظيف تعبيري و أسلوبي للغة واقعية ، تحمل في جوفها الصدمة و الايحاء ، انه أسلوب الجمع بين واقعية الصورة و عمق الايحاء  و لاتناهيه .  هذا النظام التعبيري التوهّجي  الجامع بين تناهي الصورة و بين لاتناهي الايحاء يختلف تماما عن الشكل المعهود بل يعاكسه حيث انّ المجاز و الاستعارة و التشظّي التركيبي يحقق لاتناهيا صوريا مع تناه في الايحاء وهذا معروف لكلّ أحد . و من هنا تمثّل هذا الظاهرة التوهّجية  او ما نسميه أدب ( الواقعية  الجديدة ) شكلا  متميزا و مختلفا عن السائد من الكتابات الشعرية المعتمدة على الاستعارة المحلقة  و المجاز العالي .

ما عادت القصيدة المعاصرة تستسيغ اللغة  المحلّقة  و لا المجاز العالي ، بسبب وطأة الزمن و الاحداث  التي تضرب عميقا في نفس الانسان وسط كمّ هائل من التحكّم و التسلط العلمي و السياسي  و الاقتصادي مما يحتّم ظهور أدب واقعي في موضوعاته و تعبيراته ، انّه زمن الواقعية الجديدة وهو ما يميّز قصيدة نثر ما بعد الحداثة .

للواقعية الجديدة  صور و اشكال منها التعبير العميق البسيط كما في كتابات أنور غني و منه السردية التعبيرية كما عند كريم عبد الله  و من صورها هو السريالية الواقعية كما عند فريد غانم ، و الجامع لكل تلك الاساليب هو اللغة المتموجة التي تجمع بين التشويق و العذوبة و الابهار و سعة الدلالة .

في قصيدة ( حرب ) للشاعر فريد غانم -


 

-         تبرز ملامح قصيدة نثر ما بعد الحداثة بالشاعرية الواقعية ، و اللغة المتموجّة  و سريالية موظفة لأجل خلق النظام الشعري من الوحدات التعبيرية الواقعية ، بما يحقق شاعرية واقعية  في أحدى اساليبها .  تتحقق اللغة المتموجة في السريالية الواقعية من خلال الجمع بين  ذوات واقعية و يومية في نظام سريالي حالم موظف لأجل الايحاء و التعبير . حيث انّ القارئ يتنقل من وحدة واقعية توصيلية الى وحدة خيالية تعبيرية فتكون القراءة موحية ، يتنقل الذهن فيها بين الواقعية و الخيالية . انّ المجاز الذي تشتمل عليه السريالية الواقعية و اللغة المتموجة بشكل عام يختلف عن المجاز الصوري المحلق للاختلاف في الوظيفة  ، فيبنما المجاز المعهود يصار اليه لأجل بيان خصائص الذات و المعنى المشبّه ، فانّ وظيفة المجاز التعبيري في اللغة المتموجة هو لأجل تعظيم طاقات اللغة و الايحاء الى الفكرة العميقة دون النظر و التوقف كثيرا الى ما صاراليه نظام التشبيه وهو استخدام متطور للمجاز يعطيه صبغة واقعية رغم خياليته  ، بينما لا تتوفر هذه الواقعية في المجاز المعهود .

 

في مقطع متموج  توصيلي يتبادل الخيال مع الواقعية في نظام سريالي  :-

( يمامَةٌ مُبرقشةٌ بالأسوَدِ، يطيرُ بياضُها من رأسي كُلَّما أفاقَتِ الحَربُ )

يمكن ملاحظة ثلاثة مقاطع في هذه العبارة : (يمامَةٌ مُبرقشةٌ بالأسوَدِ ) وهي صورة واقعية  ، ثمّ  (يطيرُ بياضُها من رأسي ) و هي  صورة خيالية ، ثمّ  (كُلَّما أفاقَتِ الحَربُ ) وهي مجاز قريب يقترب من الواقعية  . فليدنا نظام سريالي مركب من ثلاثية تعبيرية:

 ( واقعية –  خيالية – واقعية )  .

هذا النظام من التعبير هو شكل من اشكال الوحدات الاساسية للغة المتموجة .   

في نظام آخر تموجي لكنه رمزي .

( صوتٌ يسقطُ من نافذةٍ مُحملِقَةٍ في الفراغ المُكتظِّ بالهَشاشةِ والتَّفاهاتِ، وينكسِرُ على الشَّارع المَصدوع. )

نجد عبارة خيالية (صوتٌ يسقطُ من نافذةٍ مُحملِقَةٍ في ) ثمّ عبارة مجازية قريبة من الواقعية  (  الفراغ المُكتظِّ بالهَشاشةِ والتَّفاهاتِ، )  ثم عبارة مجازية  قريبة من الواقعية (  وينكسِرُ على الشَّارع المَصدوع. ) فيتكون لدينا نظام ثلاثي ايضا لكن بالشكل التالي

( واقعية – خيالية – خيالية )

وهذا شكل آخر للغة المتموجة و هناك اشكال أخر لها نواتها التبادل بين الواقعي و الخيالي و الرمزي  التوصيلي .

من خلال هذين المقطعين نلاحظ انّ التموّج التعبير تحقق على مستويين ، مستوى العبارات بتناوب التوصيلية و الرمزية و مستوى الجمل الجزئية داخل كلّ عبارة بتناوب الخيال و الواقعية .

هذا التمّوج التعبيري اضافة الى عذوبته و ابهاره ، و بيانه و كشفه عن المقصود بطريق قريب من دون اغلاق او ابهام ، فانّه يحقق أحد أهم انطمة الشعر في قصيدة النثر الا وهو التوهّج و بكفاءة عالية . و من هنا يمكن ان نلاحظ انّ التموج التعبيري الذي حققّته الشاعرية الواقعية هو أحد تقنيات قصيدة ما بعد الحداثة لاحداث التوهّج في المفردات و تعظيم طاقات اللغة . وهكذا نجد هذا الاسلوب حاضرا في باقي فقرات القصيدة التي نترك للقارئ متعة تتبع تلك الانظمة السريالية و اللغة المتموجة و الشاعرية الواقعية في قصيدة ( حرب ) لفريد غانم التي هي نموذج لقصيدة ما بعد الحداثة .

 

حَرْبٌ//

بقلم   فريد غانم

****

يمامَةٌ مُبرقشةٌ بالأسوَدِ، يطيرُ بياضُها من رأسي كُلَّما أفاقَتِ الحَربُ؛

صوتٌ يسقطُ من نافذةٍ مُحملِقَةٍ في الفراغ المُكتظِّ بالهَشاشةِ والتَّفاهاتِ، وينكسِرُ على الشَّارع المَصدوع. صدأٌ يتعمشقُ على أشجارِ حَديقةٍ راحَت تُرخي شَعْرَها وتدلقُ أصباغَها وتبيعُ ماءَها وهواءَها على قارعةِ الطّريق. شتلَةُ نعناعٍ تسيلُ لُعابًا أخضرَ في البالوعةِ. جِمَالٌ تحمِلُ ماءً ومِلْحًا وحماسةً قبليَّةً وتنفُقُ في آخر الصّحراء، من شدَّةِ العطَشِ والجَعير. حُزَمُ أوراقٍ النّقدِ المقدّسةِ تصعدُ بلا رائحةٍ نحوَ الحَلَقةِ الديجيتاليّة، في لولَبةٍ عمرُها في عُمْرِ خنجرِ قابيل. ملائكةٌ يوزِّعونَ الرَّسائلَ في سوقِ البُورصا. وحِمَارٌ لا مُبَالٍ ينهشُ كُتُبَ التّاريخِ التي يحملُها، منذُ جفَّ الطّوفانُ، فوقَ رَسْمِ الصَّليب.

ثمَّ، فيما يواصلُ النّهْرُ الجُحُودَ ونسيانَ الظِّلالِ الّتي مرَّتْ بِهِ، ويضَعُ الصَّدَأُ لمستَهُ الأخيرةَ على خارطةِ العَودَةِ إلى العَدَمِ، يخرجُ طفلٌ من جِلدِهِ المُحروقِ ويلملمُ بسمتَهُ التي وقعَت سهْوًا تحت الأحذيةِ المستعجلةِ في آخرِ حربٍ. فتحطُّ الحمامةُ المبرقشةُ وتبِيضُ في ماسورةِ مدفَعٍ معطُوب.

ثمَّ تفيقُ الحربُ، مرَّةً أخرى.

 

متشابه الحديث ؛ الاربعون حديثا الاولى



كتاب متشابه الحديث ، الجامع للاحاديث غير النقية حسب منهج عرض الاخبار على القران و السنة .
يتكن من أجزاء و فصول كل فصل أربعون حديثا . وهنا الفصل الأول منه .

متشابه الحديث ؛ الاربعون حديثا الاولى




















.