العوامل الجمالية في السرد التعبيري عند ندى الأحمد




لقد مكّنت القصيدة المعاصرة الشاعرة من التقاط الصورة الشعرية العميقة بحريّة كاملة ، و ساعدته أيضا في تعظيم طاقات اللغة ، و هذا أمر واضح للعيان و لا يصحّ انكاره . و من بين تلك الأساليب هي السردية التعبيرية ، حيث السرد ليس لأجل الحكاية و القصّ بل لأجل الرمز و الاحياء ، و هنا ينبثق الشعر من وسط النثر فتتحقّق قصيدة النثر بأبها صورها ، و هنا يتجلّى بوح الشاعر الفريد ، فتتحقّق التعبيرية العميقة .
انّ من أبهى و أرفع صور الشعر النثري هو الشعر السردي حيث السرد التعبيري الذي تتسلسل فيه الصور و الافكار كماء نهر عذب هادئ و حيث تتجلى اعماق الروح كأضواء تتكسر فوق سطح ذلك الماء .  و من المظاهر الاسلوبية للسرد التعبيري هو تجليات العوامل الجمالية ، التي يبحر الشاعر عميقا في تحصيلها و التقاطها ثم يقدمها في صورة معادل تعبيري نصّي . أي أنّ العامل الجمالي هو ذلك الكيان الجمالي العميق المتشكلّ في الروح و الذي يصل الى المتلقي عبر النصّ . فليس الشعر كلاما جميلا فقط ، بل هو كلام جميل يحمل معانِ جميل ، و لا نقصد بالمعاني الجميلة هنا معاني الكلمات بل نقصد بها تلك الكيانات العميقة الماوراء- نصّية و التي التقطها الشاعر من اعماق التجربة الانسانية . بهذا الفهم يكون الشاعر بحّار يبحر نحو الجزر البعيدة ليرى العجائب و من هناك يغوص نحو الاعماق ليأتينا بأجمل النفائس الانسانية .
ندى الأحمد شاعرة تتميّز بالقدرة العالية على التقاط الصور العميق و التعرّف على العوامل الجمالية و المؤثرة ، و تجيد الابحار في التجربة الانسانية و الغوص في أعماق الروح . وهنا سنتعرّف على مظاهر و أساليب تعبيرية استطاعت الشاعرة ندى الأحمد بتجربتها الشعرية من التقاطها فتتجلى فوق جناحها العوامل الجمالية العميقة بصورة فكر مجردة تهزّ النفس و تحرّك المشاعر بوجود مغاير للصورة الشعرية اللفظية و مختلفة عنها و ان كانت محمولة فيها .


في قصيدة ( يسألونك عن الروح ) تحضر الموجّهات الدلالية كقيم تعبيرية و كثقل جمالي يعظّم من طاقات اللغة و يكشف عن شعور عميق باللغة ،حيث تقول الشاعرة:
( حين تمّ السؤال عند قارعةِ الكلام، أجبتُ بأنّ الغيابَ لم يعد غيابًا، هو كذلك مذ ذلك الحين الذي عرّت فيه الذكرى كل التفاصيل! وبَدَت تقاسيمُ الحياةِ المنصرمة تسجّل أقوى حضورٍ لها، ذلكَ التابوت الذي حاولَ مرارًا أن يزفّ موتاه لم يفلح أبدا في أن يواري البسمة الموعودة، أو أن يحدّ الصورة بإطار الموت! )

نجد في هذا النصّ تجليا واضحا للثقل الجمالي للموجهات المعنوية من اشارات زمانية و مكانية تنقل التأثير  الى مجال آخر اعمق و أقوى و هذا لا ينتج الا عن شعوري تعبيري قوي باللغة و هو من مظاهر اللغة التعبيرية و احد اشكال العوامل الجمالية في الكتابة . فنجد الثقل الشعوري لكلمة ( حين ) في (حين تمّ السؤال عند قارعةِ الكلام ) اذ من الواضح الفرق الشعوري و التأثيري بين هذا التركيب و التركيب الخالي من كلمة (حين )  . و بصيغة أخرى من هذا الاسلوب وهو ما يمكن أن نسميه أسلوب ( النقلة التأثيرية بالموجهات الدلالية ) نجد لفظتي ( هو كذلك ) في عبارة (هو كذلك مذ ذلك الحين الذي عرّت فيه الذكرى كل التفاصيل )  فانّ لهذه الاضافة اللفظية تأثيرا شعوريا يعظّم طاقات اللغة في ايصال الرسالة . و ايضا نجد (مذ ذلك الحين ) في عبارة (مذ ذلك الحين الذي عرّت فيه الذكرى كل التفاصيل ) فانها بغيابيتها تصنع حلما فكريا داخل ذلك العالم الغيابي ، انها ايغال في الغياب ، و هذا هو الشعور القوّيّ بالبعد التأثيري للكلمات ، بحيث تكون القيود و الموجهات ليس فقط لتكامل المعنى اللفظي و لا لاتمام الافادة المعنوية بل لاجل بعد تعبيري و جمالي . و ايضا نجد الايغال في الفكرة الحالمة المتباعدة التي تتموسق معها النفس و تتناغم في عالمها المشاعر كلمة ( ذلك ) في (ذلكَ التابوت الذي حاولَ مرارًا أن يزفّ موتاه ) فان البعد التناغمي و الموسيقي العميق ، و الاغتراب و التباعد الاشاري كلها تخلق تحليقا فكريا منعشا و عذبا يهزّ النفس و يحرّ الشعور . و ايضا تحضر صيغة أخرى تتمثل بكلمة ( أبداً) في عبارة (  لم يفلح أبدا في أن يواري البسمة الموعودة ) فانها بتشكلها التصويري البياني و اضافة الى نقلها القارئ الى عالم من الابدية و الجزم فانها تجلّ واضح و صريح لروح الشاعر و لفكره و لتصوره الخاص جدا في هذا الجزء من التعبير .
انّ هذا الادراك بالقدرة التأثيرية و الجمالية للقيود و الظروف و الموجهات الدلالية هو أحد اشكال العوامل الجمالية في الكتابة الادبية .

من الاشكال الشعرية التعبيرية المعروفة للعوامل الجمالية هي الالتقاطات العميقة و الشعوري القويّة بالعلاقات الخفية بين الاشياء و رؤية العالم كوحدة واحدة تتبادل الصفات و الهيئات ، وهذا اللون من أهم المظاهر او الاشكال التعبيرية للعوامل الجمالية ، و بها يتميّز الشعر التعبيري عن غيره . في قصيدة  (تأمّل ) تقول الشاعرة :
(ما لهذا العقرب القافز من بؤرته يصارع نفسه، يدور حول أخيه الأكبر ويعيد النهاية للبداية، وما لهذا الصمت يتعفّر، وفي جبينِ الوقت يتعثّر، هل أدركَ مداه،  وهل تنبّه لنمنمات الفجر الرفيعة المقبلة بعد لحظات، ربما سيدرك بعد قليل أن الضوء لم يعد كذلك، وأنهُ انسلاخٌ جزئي من العتمة، وسيوقن أن عليه انتظار وضح أكبر، ليثني عِطفه عن إدارة رحى الزمن مجددا. ) . نجد هنا بعد عالم و منظومة العلاقات الادراكية و الحياتية بين عقارب الشاعة و ما صنعته الشاعرة لهما من علاقات ، فانا نجد عالما أكثر تعقيدا و عميقا و ايغالا في الخيالية يجمع مجموعة من الاشياء تتجاوز حالة العلاقة بينهم المجاز اللفظي و الانزياح اللغوي ( فالصمت يتفعر ، و جبين الوقت يتعثر ،  حيث ماده ، و حيث يتنبه لنمنمات الفجر ، الرفيعة ، انه صمت يدرك الفجر و الضوء ، و يعرف الحقائق ، و انه يعلم ما عليه ، انه يعيش تحت وطأة رحى الزمن ) هذه التشيئية و العلاقاتية و التفاعلية كلها ادراكات شعرية عميقة و اسقاطات تعبيرية تجعل للعالم الخارجي صورة مغايرة ثائرة و طالبة للخلاص و التغيير ، و هي الرسالة الجوهرية لكل كتابة تعبيرية .
و أيضا نجد هذا الاسلوب في قصيدة (تهنئة  ) حيث تقول الشاعرة :
(صار هذا اليوم أحمرًا، وأنا أقيسُ الفرحةَ ببعض الأمتار المسيّجة لعلاقتنا، ظننتُها لا تُمطرُ الدمع، والظّن بعضهُ كاذب! ربّما تاهَ حرفي لوهلة، لكنني وجدته أخيرًا، فارهًا راقصًا. ).
 نجد في هذا العالم الملوّن و الزمكاني حيث تختلط الالوان بالمسافات و القياسات و بالاسيجة و بالمطر ، و بالظن ، و حيث الغياب الذي يتيه معه الحرف ، الذي يتجلى أخيرا في عالم من البهجة راقص . انّ الشاعرة في بوحها الصادق ، قدّ تجلت في عباراتها المتسارعة موجة من الانفعالات التعبيرية عكست و بكل وضوح انفعالات شعورية ، و استطاعت الشاعرة ان تنقل المشاعر و الاحاسيس بدل المعاني . ان ما يراه المتلقي هنا ليس كلمات و الفاظ بل احاسيس و مشاعر و هذا ادراك للبعد التجريدي للغة و هو فنّ نادر  و قويّ من الكتابة .

من الأشكال النصّية للعوامل الجمالية هو اللغة الفسيفسائية ، او لغة المرايا و التناص الداخلي ، حيث ان المؤلف يوغل في بيان فكرته و تجليها بتعابير مختلفة الصور الا انها تتجه نجو غاية واحدة صانعة لوحة فسيفسائية . في قصيدة (أماه، ماذا بعد! ) تقول ندى الأحمد :
1-     في ليلي المتكبّد من العناءات، المتعفّر بآلة السواد، المستنير بخرافة بلهاء، بعودة ميت!  )
2-     ( أفي النجم جرأة أن يبرق والضجيج يطحن في اشتياقاتي! )
3-   (  أفي الحلم قدرة أن يهدّأ روعةً والتياعا! دعيني أستقبل في مرضك هذا كرامة نسيان، أو لعله عطاء وهّاج، دعيني ألقي بأسورة الشكوك وأذيب عصبيتي ولأول مرة في وادٍ غير ذي حق، دعني أدور حول نفسي علّني أجدها، وعندما أفشل أقتلها، ربما في محبرتي الحل وربما عند نهايتي يستوي مضجع مجاور!)
4-    نتسامرُ هناك، نتناجى في غربة أخرى، كما اغتربنا في دنيانا معا ذات يوم، كما حملتكِ على أكتاف الصبر. أتذكرين حينما نسيتِ اسمي؟ أتعلمين كم مرة احتضرَت نفسي في محضر مرضك!)

وهكذا النص يستمر في عباراته و صوره نحو غايات الغياب و الغربة و الاغتراب و الحزن و السؤال ، و مع انّ المقطع الثالث و الرابع في نفسه احتوى تناصا داخليا في عبارات مترادفة الغايات فسيفسائية الا ان المقطع كله يتناغم و يتفاعل مع باقي المقاطع ، لاجل طاقة بوحية اكبر و خلق تناغم و موسيقى عميقة خفية بين المعاني ،و الفسيفسائية من أهم الاضافات التي حققتها السردية الشعرية لكتابها .

من المظاهر النصيّة للعوامل الجمالية هو البعد التعبير لقاموس المفردات في النصّ ، بحيث ان الرسالة و البوح يصل الى المتلقي اضافة الى معاني الجمل و افاداتها فانه يصل اليه عن طريق قاموس مفردات النص التي تخلق مزاجا شعوريا ،اذ ترجع في تناسقها الى مجال معنوي واحد  . نجد هذا الثقل التعبيري لقاموس المفردات  في قصيدة ( حنين ) حيث تقول الشاعرة :

( ولثمتُ أشواقي عند ليل حزين، تنفستُها بصمت، أناشيدُ العاشقين تعزف سيمفونية الوصال، هناك تحت دفءٍ عابرٍ وبين قيود الهوى سرَحت خيالات دفّاقة، وانهالت بين جنبات الاشتياق روعة أخاذة للقياك، لرضاك، للصدق المتربّع على جبين الزمن. وأنّات النياط تصدر أزيز اضطراب، دكّ أقفاص الحب فانهالت تباشير زرعٍ وطلعٍ توّاق لمقدمك، بدت الرجفة تنبؤ عن ميعاد مرتقب، عن قداسة عقد! ومن بين جنبات الجمال اكتوى محرابنا بتبتل ناشز!
بدت المواجهة صعبة للقدر، هذا الذي يحفر أخاديد سيرنا، يزرع السنابل تارة ويهيل الترب تارة أخرى! بقيت أنت هناك تغني على ليلاك، وبقيت أنا أعيشها؛ ليالي المحبين طوال.
)

لا نحتاج الى كثير كلام لبيان ان النص مشحون و مملوء بالفاظ الحنين و الشوق و ان الشاعرة لا تترك مجالا للنفس و الفكر الا و تتحفه بواحدة من تلك الالفاظ لتتحقق مزاجا حنينيا و اشتياقيا للنص . و انما اودّ ان اشير الى البوح الاقصى الذي حققته الشاعر بقاموس مفرداتها في هذا النص ، فان الشاعر لم تكتف بما اشرنا اليه من مفردات الحنين و الشوق بل عمدت الى تطرف شعوري و بوح اقصى في هذا الحنين و الشوق بالفاظ تمثل غايات ذلك الشعور و اقصى حدوده و درجاته متمثلا بـ (لثمتُ \  تنفستُها \ سيمفونية \ قيود الهوى \ دفّاقة، \انهالت \ أخاذة \المتربّع \ نّات \ النياط \ أزيز \ اضطراب \  توّاق \ \ قداسة \ اكتوى \ناشز )

و من الواضح انّ لهذه الفاظ تأثيرا شعوريا و جماليا و قدرة واضحة في خلق البوح الاقصى و بلوغ الكتابة غايات تلك المشاعر و الاحاسيس ، وهذا ما اسميناه اسلوب ( البوح الاقصى) .


قصيدة حب


سأكتب عن الحبّ بقوّة ، فأنا اختصار كوني لعشق لا يعرف مكانه الا الفلكيون الجدد . انهم يبحثون عنّي في المسارات ، يا للغرابة كيف يمكنهم رؤيتي و أنا كوكب جليدي قد ذوبته الرياح ؟ منذ ذلك الحين و أنا أتلاشى في نهر من الدموع، كل ما أجيده أني أنزل كل يوم من ينابيع شديدة الربيق نحو واد ضبابي لا يعرف شيئا عن الحكايات . رسائلي لا تُقرأ ، و سنيني شيء لا يمكن تصوّره، انّها مجرد ذكرى من زمن الأضواء المطفأة ، كلّ شيء هنا يدور كعجلة تائهة، و أنا تلك الشجرة الغريبة ، أقف هناك و على رأسي تاج من شوق ، أتطلّع الى الطريق عسى أن تأتيَ ولو بشكل غيمة. انني أبكي كل يوم لكلّ هذا الشوق ، أبكي لأنني أتيه في عالمك الفسيح. إنني أبكي بقوة لأنني سعيد جداً بك.
















كتاب ( الاسلام دين الفطرة )


تم و الحمد لله كتاب ( الاسلام دين الفطرة ) للدكتور انور غني الموسوي  و هو  الكتاب الخامسون الثلاثون له الكترونيا .


الاسلام دين الفطرة PDF

الاستعارة التعبيرية عند عادل قاسم





الاستعارة قديمة قِدم الأدب و الشعر ، بل قدم الكتابة ، فما الكتابة الا استعارة رموز بصرية لتدل على الالفاظ . و لقد احتلت الاستعارة مكانة مركزية في الدراسات الادبية الكلاسيكية و خصوصا البلاغية ، و كانت و لا تزال احد أركان الشعر و التعبير الادبي . و مع ان التعاريف المتأخرة للاستعارة  تنتهي الى حقيقة انها  تشبيه حذف احد طرفيه (1) و تقسم عادة  الى  تصريحية و مكنية و تخييلية و تمثيلية (2) الا ان الفهم الحقيقي للاستعارة هو   نقل المعنى من أحد لفظين إلى الآخر كنقل الشيء المستعار من شخص إلى الآخر.  (3) . و أهم هذه التقسيمات و انواعها و التي تخدم البحث الأسلوبي المعاصر للنص المعاصر هي الاستعارة التخييلية التي تبحث في ماهية طرفيها من حيث المادية و المعنوية و الحسية و الذهنية (4) و بسبب التوسع الكبير في الاستعارة في الادب المعاصر كان البحث في جهة الملائمة بين طرفيها و عدمها هو الاهم من بين تلك الابحاث من حيث كونها عامية واضحة الملائمة او خاصية تحتاج الى تأمل (5) و من المعلوم ان النص المعاصر يعتمد الاستعارة التخييلية الخاصية التي تعتمد المناسبة التخييلية و يحتاج تبين الملائمة الى تأمل .
اننا و من خلال متابعة الكتابات المعاصرة و خصوصا الشعرية منها و بالأخص قصيدة النثر، فانا نجد اشكالا من الاستعارة و اساليب فيها لا تستوعبها الحدود و المفاهيم المتأخرة بل لا بد من التوسع في فهم الاستعارة حتى تصل الى معناها اللغوي وهي استعارة معنى من لفظ الى آخر (6) وهي بذلك تنتهي الى الرمزية و تستوعبها بسير. و حينما تنطوي الرمزية على عمق فردي و تميز ذاتي و اضافة شخصية على التصور و الفهم اللغوي فانها تنتج التعبيرية .
و التعبيرية هي الافصاح الخاص عن الرؤية العميقة الفردية للأشياء ، فهي تنطوي على التفرد و الاختلاف في الرؤية و البيان (7)، انها لا تعكس ازمة الفرد من خلال بيان ازمة المجتمع بل تعكس ازمة المجتمع من خلال تمثلها و تلبسها في الفرد (8) فالكاتب تعبيري يندب المجتمع الميت بالكتابة عن نفسه الميتة و يندبها  و، وهنا تكمن جمالية التعبيرية ، و تميزها الاسلوبي ، و لو  قلنا ان الادب و خصوصا الشعر هو افصاح تعبيري لما كان خطأ ، بل لو قلنا ان الاسلوب هو تميّز تعبيري و بدرجات مختلفة لما كان خطأ ايضا . و اننا نرى انّ النص الادبي العربي المعاصر و خصوصا الشعري منه يتبنى التعبيرية بحذافيرها بوعي او من دون وعي ، فان أدباء التعبيرية يهتمون في الأساس بالمضمون والإرادة والموقف الأخلاقى. و التجربة الداخلية للفنان والأديب لابد من أن تظهر على السطح في شكل طاغ من خلال التعبير عما يدور في داخله (9) . و لو تفحصنا كتابات الشاعر عادل قاسم  لوجدنا طغيانا لهذا الشكل من الأدب (10)
و من هنا يكون واضحا ان التوظيف الاستعاري اذا اتصف بفردية و تميز خاص ، و اشتمل على المغايرة و الاعتراض الواضح على الخارج و السائد ، مع تلبس المؤلف بالمأساة و ندب نفسه بغاية ندب المجتمع و الواقع  كانت تلك تعبيرية  و مع التخييلية و الخاصية في المجاز و الاستعارة تكون لدينا استعارة رمزية تعبيرية  ، و بهذا الفهم يمكن فهم الاستعارة على انها اسلوب تعبيري ، و هنا سنبحث شكلا من الاستعارة تتجلى فيه التعبيرية الى حد يخرجها من النمطية المعهودة و ينقلها الى عالم تعبيري  جدي و اصيل و تجديدي  و هو ما اسميناه ( الاستعارة التعبيرية )، و ستكون كتابات الشاعر عادل قاسم انموذجا لهذه الاساليب لما بيناه من تجلي الاستعارة الاسلوبية في كتاباته بشكل واضح.
فالاستعارة التعبيرية اضافة الى ما تتصف به الاستعارة عموما فانها تحمل طاقات تعبيرية و رمزية و تفردات اسلوبية متميزة ، و يمكن ملاحظة و متابعة شكلين واضحين من الاستعارة التعبيرية في الشعر و كتابات عادل قاسم خصوصا ، هي ( الاستعارة التعبيرية التوافقية ) وهي التي يتوافق فيها الرمز مع الرؤية و الرسالة  اي ان المؤلف يقول في رمزيته ما يوافق مراده و يمكن ان نسميها ( الاستعارة الرمزية ) بشكل عام ، و( الاستعارة  التعبيرية التضادية ) و هي التي تشتمل على معاندة و تضاد بين الرمز و القصد اي ان المؤلف يقول عكس ما يريد برمزيته  فهي من قبيل الاستعارة التلميحية و يمكن ان نسميها الاستعارة التبادلية و قد بحثناها سابقا في اللغة التبادلية في شعر انور غني الموسوي ( 11).
في قصيدة (قدمي اليمنى ) المنشورة في مجلة تجديد الأدبية  (12) يقول عادل قاسم

( قَدَمي اليُمنى )
عادل قاسم
(( يتوارى خلفَ جُدران الحروفِ السميكة ،كلبٌ يتربصُ بالغبار ، ماعادت الأشرعةُ ولا مراكب الرغبةِ تقودُنا لمناراتِ الخلاص، إنطفأت المصابيحُ وتهاوت الفنارات، تحتَ بساطيلِ القراصنة، مسافرون على غير هدى ًنتبعُ ضياءَ نجمةٍ ميتة، عسى ان ترشدَنا لراية يكحُلُها الندى، كنتُ متوقفاً على حافةِ الصراط، أراقبُ بِدهشةٍ كيفَ يمر عليه المجانين بثقة، وضعت قدمي اليمنى مرتعباً، وانا أنظرُ أسفلَ الوادي السحيق وزفيره الذي يميزُ من الغيظ . لأجري أخيراً برشاقةِ المجانينِ وخِفتِهم..!
يَقف دونما حراكٍ ،ذلك العجوزُ يقلبُ الايام ،المساءآت، التي تنطفئ، ليزدادَ انحناءً، ذاتَ مساءٍ تخشبَ جَسدهُ الطري أصبحَ زَورقاً صغيراً، يُبحرُ في شواطئٍ من الغبار .))

هذه القصيدة السردية العذبة التي تتجلى فيها   الشعرية  و تقنياتها من انزياحات و عمق و تلميحات ، مع رمزية قريبة و رسالة واضحة ، و مجاز و استعارات لفظية كثيرة ،  نجح الشاعر في توظيفاته الرمزية و استطاع ان يبعث رمزية نصية في المفردات و خرج المفردات من مرجعيتها ، فصار لديه مجال تشبيهي و استعاري متعدد الروافد ، و لا يمكن مطلقا تناول هكذا كتابات بالفهم البلاغي للاستعارة و التحديدات التي وضعها البلاغيون ، و هذا كما يشير الى قصور التناول الاكاديمي البلاغي للنص الادبي فانه ايضا فيه اشارة الى عجز باقي التناولات الاكاديمية للنصوص الادبية كاللسانيات حيث ان الاستعارة في الشعر المعاصر     تتسع بسعة الشعر ، فتكون هي الشعرية و تكون الشعرية هي الاستعارة ، و من هنا فجميع الانزياحات و التفردات الاسلوبية في النص هي في جوهرها استعارة حيث استعارة المؤلف شيئا لشيء وهذا ما نشير اليه كثيرا بالتوظيفات و التقنيات الشعرية ، و نص ( قدمي اليمنى )  المتقدم مليء بالتوظيفات الانزياحية التي يسع وقت تتبعها .
ان الاستعارة الرمزية التوافقية تبرز في استعمالات معينة في النص ، حيث يتطابق المراد و الاستعمال  و الانزياح الاستعاري فتكون كلها في اتجاه واحد ، و هذا في قبال الاستعارة التضادية التبادلية التي تتقاطع و تتعاكس تلك الجهات . فمن الاستعارات الرمزية في النص
((  كلبٌ يتربصُ بالغبار ، ما عادت الأشرعةُ  تقودُنا ،  يقلبُ الايام ،المساءآت التي تنطفئ،   تخشبَ جَسدهُ الطري ، يُبحرُ في شواطئٍ من الغبار )) من الواضح الاستعمال الاستعاري في هذه المقاطع سواء بالفهم الخاص البلاغي او بالفهم العام الذي بيناه كما انه من الواضح الرمزية التي توحي و تدل عليها المقاطع ، و من الواضح التوافق في المقاصد و الاستعمالات و الرسالة .
في جهة خرى نجد استعمالات استعاري تلبسية و تبادلية يضع المؤلف الاشياء و نفسه في موقع الاخر فبينما تتصدر القصيدة وصف للحال الجماعية فان الشاعر ينتقل الى مشهدين الاول عن الذات المتكلم و الثاني عن شخصية العجوز . فهنا ثلاث شخصيات في النص ( الجماعة ، الانا ، و العجوز )  و بينما يكون الوصف المأساوي و التراجعي موافقا لرسالة الخلاص  في النص في شخصية ( الجماعة )   و ايضا الى حد ما في الشخصية الثالثة العجوز ، الا ان تلبس هذه التراجعية و تلبيسها الذات هو من الرمزية التبادلية وهو استعارة تعبيرية واضحة . و اضافة الى مقاطع رمزية تستعير فيها التراكيب الجملية المركبة معاني اخرى ، فان الاستعارة حاصلة هنا على مستوى المفردات . و من قبيل الاول أي الاستعارة الجملية التركيبية التمثيل الرمزي الذي تلبس به المؤلف و الازمة الذاتية التي يصفها النص و التي يراد بها الاخر و الخارجي في قوله   (كنتُ متوقفاً على حافةِ الصراط، أراقبُ بِدهشةٍ كيفَ يمر عليه المجانين بثقة، وضعت قدمي اليمنى مرتعباً، وانا أنظرُ أسفلَ الوادي السحيق وزفيره الذي يميزُ من الغيظ . لأجري أخيراً برشاقةِ المجانينِ وخِفتِهم..! ) فهنا مركبين جمليين استعمل فيهما الظاهر المعنوي الاستعمالي بخلاف القصد المرادي ، فلا توقف هنا حقيقة و لا ثقة ، و انما جو يغلي و جنون اعمى . و من الثاني أي الاستعارة المفرداتية عبارات ( كلبٌ يتربصُ بالغبار ،  عسى ان ترشدَنا لراية يكحُلُها الندى، ، لأجري أخيراً برشاقةِ المجانينِ وخِفتِهم ،  يقلبُ الايام ،المساءآت ، أصبحَ زَورقاً صغيراً)
لقد اشتمل هذا النص على تقنيات شعرية و انزياحية و استعارية كثيرة و كبير ، و وظفت كل تلك الاشتغالات لأجل تعظيم طاقات اللغة و لبلوغ النص غاياته ، و من خلال تلك الانجازات التي حققها المؤلف في النص من حيث الفنية العالية و المعقدة ، و الرسالة الواضحة  و العميقة ، و العذوبة و السلاسة الكتابية ، بلغ بالنص حالة النص الكامل .و ربما نكون قد تفردنا في تناول الاستعارة التركيبية للجمل و لم نقتصر على الاستعارة في المفردات ، حيث اننا نرى ان الاستعارة لا تحتاج الى الوضع في اصل اللغة ، و انما تحتاج الى وعي بالمعنى يرتكز عليه ، وهذا السبب ذاته أي فقد الاصل الوضعي للمركبات هو الذي منع الاخرين من بحث الاستعارة التركيبية للجمل و الاقتصار على الاستعارة المفرداتية .



1-    http://olomtec.blogspot.com/2016/03/blog-post_30.html#.V_ZdCP6KTIU
2-    http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=76346
3-    http://www.abc4web.net/vb/archive/index.php/t-10601.html
4-    http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=76346
5-    http://forums.roro44.net/497355.html
6-     http://www.abc4web.net/vb/archive/index.php/t-10601.html
7-     https://ar.wikipedia.org/wiki/تعبيرية
8-     http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=10815
9-    https://ar.wikipedia.org/wiki/تعبيرية#.D8.A3.D9.87.D9.85_.D8.A3.D8.AF.D8.A8.D8.A7.D8.A1_.D8.B9.D8.B5.D8.B1_.D8.A7.D9.84.D8.AA.D8.B9.D8.A8.D9.8A.D8.B1.D9.8A.D8.A9
10-                        https://tajdeedadabi.wordpress.com/category/عادل-قاسم/
11-                       https://tajdeedadabi.wordpress.com/2016/01/27/د-أنور-غني-الموسوي-؛-المشترك-التعبيري-و/
12-                        https://tajdeedadabi.wordpress.com/2016/09/28/قَدَمي-اليُمنى/