ملحمة جلجامش اللوح الخامس






ملحمة جلجامش
سين ليقي اونيني





اللوح الخامس : القتال مع خمبابا

ترجمها الى الإنجليزية أندرو آر جورج 1999
ترجمها عن الإنجليزية الى العربية  د أنور غني الموسوي  2015
النسخة النموذجية البابلية لملحمة جلجامش ( هو الذي رأى العمق)


وقفا هناك متعجبين عند الغابة
يحدّقان في الأرز السامق
يحدّقان في مدخل الغابة
 حيث  خمبابا  قد ذهب و جاء ، فكان له هناك  أثر ٌ
الدرب كانت مستقيمة ، و الطريق سالكة
لقد شاهدا جبل الأرز ، عرش الألهة
في وجه الجبل ، يكثر الأرز بوفرة
كان ظله لطيفا ، و مليء بالبهجة
كثيفاً و متشابكاً كان الشوك
.... أرز ، أشجار البلوكّو ....
فوراً الخناجر .....
من أغمادها
الفؤوس كانت ممسوحة
بلطة و خنجر في ....
واحد ....
استرقا . ...
خمبابا ....
جلجامش فتح فاه ليتكلّم
قائلاً لإنكيدو
ماذا ؟ با صديقي ...
لأجل إنليل.....
إنكيدو فتح فاه ليتكلّم
قائلا لجلجامش
صديقي ، إنّ خمبابا ...
واحد لواحد ...
كسائين ، إلا أنّه ...
رغم شدّة المنحدر ، إستطاع إثنان التغلب على ذلك
إثنان .......
حبل بثلاث طيات لا يقطع
حتى الأسد العظيم يستطيع الاثنان التغلّب عليه
نحن وصلنا الى مكان لا يجب للانسان ان يبلغه
دعنا نضع أسلحتنا في طريق خمبابا
إنكيدو  أوضح ذلك لصديقه
إنّ خمبابا هجمة عاصفة
كإله العاصفة سيطرحنا أرضا
( وبعد نقص في اللوح الخامس يظهر البطلان وجها لوجه مع خمبابا)
خمبابا فتح فاه ليتكلّم
قائلا لجلجامش
( دع المغقلين يأخذون نصيحةً ، جلجامش مع المتوحّش الغليظ )
لماذا أتيت الى هنا ؟
تعال ، إنكيدو ، أنت ـ كفرخ سمكة ،  الذي لا يعرف أبا
يافع كسلحفات ، لم يرضع حليب أمّ
في شبابك رأيتك ، لكنّي لم أقترب منك
هل .... ملأت بطني
الأن بخيانة أتيت بجلجامش
و تقف هنا يا إنكيدو كعدو غريب
أنا سأنتزع حلقوم جلجامش
سأطمع لحمه للطيور الكاسرة و النسور المفترسة .
جلجامش فتح فاه قائلا لإنكيدو
ملامح خمبابا قد تغيّرت
و رغم إنّا تجاسرنا و أتينا الى عرينه للتغلّب عليه
الا ان فؤادي لن..... بسرعة ....
إنكيدو فتح فاه
قائلا لجلجامش
لماذا يا صديقي تتحدّث كالضعيف
بكلماتك الضعيفة هذه أنت تجعلني كئيبا
الأن يا صديقي ، ليس أمامنا الا مهمّة واحدة
النحاس قد صبّ في القالب
لنضرم النار ساعة ، و .... الجمر لساعة .
لتبعث بالطوفان لأجل أن تصدّع جلده
لا ترجع الى الوراء و لا تتقهقر
إجعل ضربتك قويّة
*
ضرب بقوّة الأرض ، و توجّهَ بوجهه قدما
عند اقدامهم تشققت الأرض
لقد خطّموا بصراعهم جبال سيريون و لبنان
الغيوم البيضاء أصبحت سوداء
أمطرت عليهم موتاً كسديمٍ
شَمَش هيَّجَ ريحا عاصفة هوجاء على خمبابا
ريح جنوبيّة ،  ريح شماليّة ،  ريح شرقيّة ، و ريح غربيّة
اعصار ، تيفون ، زوبعة ، عاصفة
ريح الشرّ ، ريح الغاب ، ريح هوجاء ، تورنادو
ارتفعت ثلاثين ريحاً ،حتى اظلمّ وجه خمبابا  
فلا يستطيع أن يهجم الى الأمام ، و لا أن يرفس الى الخلف .
بعدها نالت أسلحة جلجامش من خمبابا
في استعطاف طالبا للحياة ، قال خمبابا لجلجامش
أنت فتيّ جدا يا جلجامش ، أمّك ولدتك فقط
الا أنّ الحقيقة أنّك ابن البقرة البريّة نِنسُن
بأمر شَمَش  أنت سوّيّت الجبال  
يا سليل أوروك ، جلجامش الملك
...يا جلجامش ، الرجل الميت لا يستطيع ...
.... حيّاً لأجل مَلِكه
إبقِ على حياتي يا جلجامش
دعني أبقى هنا لأجلك في غابة الأرز
الأشجار ككثيرين ستكون طوع أمرك
و سأحاميك ...
الأشجار ستشعر بالفخر أنّها ستكون من سراياك
إنكيدو فتح فمه ليتكلّم
 قائلا لجلجامش
لا تصغ يا صديقي لكلمات خمبابا
لا تستجب لإستراحمه
خمبابا فتح فمه ليتكلّم
قائلا لإنكيدو
أنت خبير في طرقات غابتي
و أيضا تعرف كلّ فنون الكلام
يتوجّب عليّ أن التقطك ، و اجعلك تتدلّى من شجيرة في طريق الغابة .
و سأطعم جسدك للطيور الكاسرة ، و النسور المفترسة .
الآن يا إنكيدو ، إطلاق سراحي يقع على عاتقك
قل لجلجامش أن يبقي على حياتي
إنكيدو فتح فاه لتيكلّم
قائلا لجلجامش
صديقي ، خمبابا هو من يحمي غابة الأرز
اجهز عليه ، و اسلبه قوّته
خمبابا هو من يحمي غابة الأرز
أجهز عليه ، و اسلبه قوّته
قبل أن يسمع إنليل المبجّل بما نفعل
الإلهة العظيمة ستتحدّث عنّا بغضب
إنليل في نيبرو ، و شَمَش في لارسا
سجّل ذكراً خالداً لا يمحى
كيف أنّ جلجامش صرع المفترس خمبابا
خمبابا سمع ما قاله إنكيدو
رفع رأسه و .....
خمبابا فتح فاه ليتكلّم
قائلا لإنكيدو
أنت تجلس أمامه كراعي غنم
كأجير عنده تنفذ أوامره
الآن إنكيدو ، على عاتقك يقع إطلاق سراحي
اطلب من جلجامش أن يبقي على حياتي
إنكيدو فتح فاه
قائلا لجلجامش
خمبابا هو من يحمي غابة الأرز
أجهز عليه ، و اسلبه قوّته
قبل أن يسمع إنليل المبجّل بما نفعل
الإلهة العظيمة ستتحدّث عنّا بغضب
إنليل في نيبرو ، و شَمَش في لارسا
سجّل ذكراً خالداً لا يمحى
كيف أنّ جلجامش صرع المفترس خمبابا
خمبابا سمع ... فلعنهما بمرارة
(( ليت أنّ أيّا منهما لا يطول به العمر
، و لا أحد  يواري جثمان إنكيدو غير جلجامش   ))
إنكيدو فتح فمه ليتكلّم
قائلاً لجلجامش
صديقي ، أنا اتحدّث اليك وانت لا تصغي
بينما هذه اللعنات....
دع تلك اللعنات ترجع الى فمه
جلجامش سمع كلمات صديقه
فاستلّ خنجره
 و طعنه في عنقه
إنكيدو ... بينما هو انتزع رئتيه
منبثق ....
من الرأس ، أخذ الانياب كغنيمة
المطر انهمر على الجبال بغزارة
... انهمر على الجبال بغزارة
إنكيدة فتح فاه ليتكلّم
قائلا لجلجامش
صديقي نحن قد أطحنا بشجر الارز الباسق
الذي يناطح السماء
ساصنع باباً ، ستة  خيزرانات ارتفاعه ، وخيزرانتان عرضه
وذراع سمكه
ركائزه و قمته و قاعدته كلها ستكون  قطعة واحدة .
*
( و بعد نقص في اللوح)
*
ربطا الطوف ببعضها ، و وضعا عليها الأرز
إنكيدو كان مدير الدفّة
و جلجامش حَمَل رأس خمبابا .


(انتهى اللوح الخامس )

فلسفة الموت والحياة في (ومضات ) \ بقلم محمد رضا شنيشل

فلسفة الموت والحياة في (ومضات )
د أنور غني الموسوي
قراءة في الانزياح الاسلوبي
( الجزء الاول )
الوجود اهم قضية شغلت العقل البشري منذ ان احس بها , فتناولها بطرائق مختلفة من دراسات فلسفية ونظريات افتراضية وبحوث تطبيقية .... والموت لغة وجودية , بل هو( مركز التفسير الفلسفي ونقطة الاشعاع في النظرة الى الوجود والطور الحالي من اطوار الحضارة الاوربية يؤذن بوجوب قيام هذا المذهب لانه طور نهاية الحضارة وأذانٌ بقيام حضارة جديدة ) /الموت والعبقرية عبد الرحمن بدوي / , والشاعر انسان له رؤيته الخاصة باختزال تلك المنظومة الكونية وتفتيتها وخلقها من جديد بأدوات عصره ليصيرها وفق ما يرغب هو لا وفق ما ترغب هي , فيسبغها بروح عصره ويسبر غوره بمستحدثاتها , والدكتور غني الموسوي في مطولته(ومضات الموت والحياة) وفي جزئية الموت يستجلي تلك الافاق وينظر زيف المادية بلغة الانزياح واسلوب الخرق اللغوي في الخطاب الذي يفند ايقاعات اللغة التقليدية حيث يستدعي اللغة الحاضرة بكل مضامينها وارهاصاتها المتجددة
أناشيدُ الشتاءِ تغرقُ في الضباب
تتركُ في ذاكرة الشوارع نشوة لا تُنسى
زواياه الباردة تحفل بالصمت
فأتجمد في حلمي كشجرة غاب قديمة
أستهل الشاعر مقطعه الأول انه ازاح الغرق بالضباب بمدلول كوني وهيأ الذاكرة الجمعية بالفعل المضارع (تترك) لما للفعل من جدية في الحركة والتنقل , وانتقاله من الاسم الى الفعل مع الحفاظ على روح الانزياحية , فليس من العقل ان تغرق الاناشيد , كما ان ليس للشوارع ذاكرة ونشوى , وكلاهما غير عاقل , لكنه اراد ان يعد المتلقي نفسيا لخطابه اللاحق لفكرة الموت / زواياه الباردة تحفل بالصمت / ولينطلق معه بذات اللغة والوصف ويبين الحقيقة بذات الانزياح / فاتجمد في حلمي كشجرة غاب قديمة / ليطلق صفة التجمد بفضاء النص وبروح الحلم الذي يستحيل بلغة المعيار الى القِدم

الصوت ينحني
يتلاشى في الفضاء العريض
ليس للكلمة إلا ان تسقط في الوحل
السفن البائسة تخترق اذني
تلك الازاهير تبتعد
تتقيأ الالم السرمدي
تورثه الاجيال والحلم
يبتدأ الشاعر خطابه الانزياحي باسلوب العرض المكثف ليصنع صورة لمسمياته محاورا بها عقل المتلقي باستقراءات واقعية مُزاحة تسبح في ملكوت النص بصيغ شعرية غير مألوفة , فانحناء الصوت امر لا يُعقل والازاحة بالانحناء تعد مفهوما آخر لمعنى الافول , والتهرم , والكلمة حينما تسقط في المعيار اللغوي قد يُعوض عنها بترادف آخر او بلفظةٍ قُربى , والشاعر هنا اسقط (الكلمة )واسقط (الصوت ), فخرق اللغة في تقليدها مرة اخرى وكانه روض انهمار الانزياح بزاد قليل من المعيارية في اواخر المقطع, ويتواصل الشاعر مع نصه , فكلما تزاحمت الرؤى تزاحم معها الاسلوب , /السفن البائسة تخترق اذني / علاقة الانسان بالكون , وطردية الموقف الشعري الذي كلما تعقدت الحياة , ازدادت الرؤية الشعرية غرابة واسلوبا جديدا / تلك الازاهير تتقد/اذ ليس معقولا هذا الاتقاد , لكنه واقعي بلغة الشعر وما وصلت اليه معالم الحياة من انحطاط في الجمال / تتقيأ الالم السرمدي / تقدح الشعرية وتحلق في فضائها مستذكرة الالام البشرية بالتفاتة الانزياح حينما تتجمع معالم الالم وتنصهر في بودقة واحدة , وحينما تتفاهم الانزياحية مع المعيارية , ويلتقي التضاد تخرج صورة مثالية تؤطر مفهوم الحداثة وتؤكد عمق الثراء في توظيفه اذا ما اكدت حقيقة كونية , وهذا ما آل اليه الشاعر بقوله / تورثه الاجيال والحلم /
حكايات الحضارة تغرق في المحيط
قبل حتى مياه البحر , بما فيها من اساور وتواريخ
قد التقمها الذباب في لحظة أسارة , فصارت معدته
ينابيع دافئة
التربص بالاحداث يحتاج الى لغة مفعمة بالتأويل والدلالات , وفي هذا المقطع خلطة اسلوبية من الخطاب الادبي والكوني الذي ما زال يستحضر المتلقي ويملي عليه انزياح الاسلوب بطريقة التكثيف فيشيد الشاعر حضارته البلاغية عن طريق الانزياح ليبين سرعة السقوط وزيف تلك الحضارة / حكايات الحضارة تغرق في المحيط / ثم يستأنف خرقه اللغوي عندما يجعل الكل يسقط قبل الجزء / قبل حتى مياه البحر , بما فيها من اساور وتواريخ / فيصور الذباب بلغة الغرابة انه يلتقم وهو ليس كذلك ويجعل له معدة , فيخرق اللغة مرة بعد اخرى بلحظة ممتعة عند ذلك الكائن المتطفل
قلب العالم يتقاعد كأرملة
لا مكان لحلم الانسان
لا دفء لا نشيد
سنبل القمح تعري ساقيها
تنحني خجلة فما في رؤوسها سوى الهواء الثقيل
أجل للمغيب الف اغنية , لا يعرف عنها الفلاحون
شيئا
عندما نجد احدى الاساليب البلاغية في نص ما بتلك الكثافة وهذا الخطاب هذا يعني سحب المقطع كله بواسطة بلاغية مثلما يحصل في اول جملة باستخدام حرف الجر ( ك ) وانزياحه من مفهومه النحوي الى مفهومه البلاغي ليتعدى عمله الى( التشبيه ) حيث خلق تنازعا ابديا بين ان تنتج او لا تنتج / قلب العالم يتقاعد كأرملة / اشارات عاجزة بلغة الخطاب والدلالة والنفي المطلق المكرر المؤكد / لا مكان لحلم الانسان / لا دفء لا نشيد / ناهيك عن الانتهاك والهتك / سنابل القمح تعري ساقيها / فهي بلغة الخطاب الادبي فارغة تماما / تنحني خجلة فما في رؤوسها سوى الهواء الثقيل/وبأسلوب التقديم والتأخير البلاغي يُنهي الشاعر هذا المقطع بالحفاظ على الطبيعة الفطروية / أجل للمغيب الف اغنية , لا يعرف الفلاحون عنها شيئا /
السنين ترتجف
قد اكل قشرتها الاطفال
فلم يبق للإنسان فسحة تسع ابتسامته
كلا من الكذب جدا اتهام الجسد بآثام الانسانية
فحب القمر غير محتاج لدم الطبيعة
يواصل الشاعر ذمه للمفاهيم الحضارية المادية فهو لا يؤمن بالتجريد ( ترك التفاصيل ) لفداحة الامر وعظم الموقف فيتواصل بتكثيف لغة الخطاب والخرق / السنين ترتجف /وشكلت الجوانب النفسية جزءا من تلك القراءة وعملية التقديم والتأخير البلاغي افضت باللغة ان تتخلى عن تقليديتها وسطحيتها الى بلاغتها وعمقها لتكون معنى آخر مغاير/ قد اكل قشرتها الاطفال / وبما ان الحياة اصبحت ضاغطا ماديا ما زال الشاعر في طوره البلاغي معتمدا اسلوب التقديم والتأخير بتكثيف اللغة الخطابية جوابا / فلم يبق للإنسان فسحة تسع ابتسامته / ثم يستطرد في خطابه مستذكرا النظريات الفرويدوية التي يراها كاذبة وبالنتيجة فهي قائمة على الاباحية ولا تتفق مع فلسفة الشاعر , وتلك الجملة معيارية بامتياز ليربط ما قبلها بما بعدها / كلا , من الكذب جدا اتهام الجسد بآثام الانسانية / يفند النظرية بعدم تشويه الجمال الفطري بذات الاسلوب الانزياحي

ليس لي إلا ان احتضر
وليس للحضارة الغالية الا تسأم كل قطرة صفراء في
المحيط
للشمس اشراقة تجعل الشجر قصائد ساكنة لا تعرف
شيئا عن الخلود
هكذا تكذب الحضارة
تتكاثر في اوردة غادرتها الاجراس
تتمدد شارعا قديما , اثلجه قلة السائرين
عندما يستثني الشاعر نفسه من هذا العالم يجعل من لغته
الشعرية
ذات صدىٍ في فضاء المتلقي الذي تعود ان يرى اقحام الحضارة للشاعر عنوة وخطابه الشعري الرافض يعلوا بفضاء النص /ليس لي إلا ان احتضر/ ويكرر رفضه بذات التأكيد وبنفس اسلوب النفي والعطف والتنبيه والانزياح / وليس للحضارة الغالية ألا تسأم كل قطرة صفراء في المحيط / ثم يقلب الانشائية الى شعرية مستأنفا التقديم والتأخير ليحافظ على شعرية المقطع فيستجلي ابعاد تلك الاشراقة بمنظوره الفلسفي / للشمس اشراقة تجعل الشجر قصائد ساكنة لا تعرف شيئا عن الخلود / بعدها ينعت تلك الحضارة بأبشع النعوت وكأنه يكثف من تلك اللغة ليعري بها اكثر فاكثر /هكذا تكذب الحضارة / ثم يعاود الاستعارة كذاك المتمكن من لغته وانزياحه , فجعل التكاثر في الاوردة وجعل المغادرة في الاجراس ليبين استخفافه وقلة احترامه لتلك الحضارة الزائفة / تتكاثر في اوردة غادرتها الاجراس / بعد ذلك يعلوا الخطاب مرة اخرى لينهي الاستعارة في هذا المقطع بتقادم الحضارة / تتمدد شارعا قديما , اثلجه قلة السائرين /

هناك الابتسامة باردة
ترتجف كنعامة تكاثر رأسها تحت الارض
في أذنيها ينبت الشوك والجياع
الدماء تملأ السواقي
تلتهم عروق الاشجار
فيتلاشى الحلم كبقرة هزيلة
كلا قلب الفلاح لا يعرف الكذب
ابتدأ الشاعر خطابه باسم الاشارة هناك , وهو بهذا أراد الاختصاص لمجتمعات بعيدة بذاتها / هناك الابتسامة باردة / لكنه يثير وبشده مَعلَما اسطوريا عندما يوظف بعض المرويات ويرمز للخوف بطائر النعام وهو يضع راسه تحت الرمال فيقلب الحقيقة بازاحة الاسلوب لكي تصل الفكرة للمتلقي / ترتجف كنعامة تكاثر راسها تحت الارض / وبغرابة اللغة يظهر الانزياح عندما تتحول الاذن من حاسة سمع الى مكان ينبت فيه الفقر ونبات الشوك , (لاحظ كيف تمكن الشاعر من خلق التضاد الضمني بين بيئة الشوك وبيئة النعام , ليفهم المتلقي العربي معاني الصحراء وقساوتها ) فتحول الخطاب من العالمية الى القطرية وبطريقة بلاغية في التقديم والتأخير / في أذنيها ينبت الشوك والجياع / حتى انه يعمم هذا الخطاب ويستحضر الدلالة ليربطها بما سبقها استذكارا / فحب القمر غير محتاج لدم الطبيعة / الدماء تملأ السواقي / تلتهم عروق الاشجار / يعود الشاعر للتشبيه لضمان ترسيخ الصورة الشعرية وبنائها الدرامي لاحظ كيف استخدم الشاعر الفعلين المضارعين (تلتهم ) (يتلاشى) الجملة الفعلية الاولى حركة بداخل الجملة , والثانية , اجابة لهذه الحركة , او ردة فعل رابطة فاحدث القدحة الشعرية باسلوبه الانزياحي المعتاد فليس من العقل ان يتلاشى الحلم كبقرة هزيلة لكن الواقع فرض على الشاعر هذا النعت والتشبيه وهذا الحكم / فيتلاشى الحلم كبقرة هزيلة / نظريات اللغة تؤكد فلسفة الشاعر , التي تأبى ان تسند الفعل القبيح للقلب , فاستخدم نفيان في جملة واحدة دلالة التأكيد وارجاع الانسان الى اطواره الاولى / كلا , قلب الفلاح لا يعرف الكذب /
المدينة تسعل
تتقيأ الجمال
تصنع من لعب الاطفال بنادقا واجسادا معتمة
النساء تستطيل , تنتفخ بالصوت
الحضارة تسعل
تبتدع تاريخ الدموع
كلا الجمال شيء آخر
يستنفر الحدث لغة الشاعر وتكثيف خطابه الشعري بلغة الدلالة فالمرض هو بداية لفقدان الجمالوحلول العجز/ المدينة تسعل / تتقيأ الجمال / ولا مكان للعاطفة والبراءة , اراد الشاعر ان يثبت بها صدق اعتقاده فعمد الى اللغة الاقتصادية المضغوطة المكثفة / تصنع من لعب الاطفال بنادقا واجسادا معتمة / يثبت الشاعرالقبح بالاستطالة والصوت بالانتفاخ ليشكل خرقا لغويا /النساء تستطيل , تنتفخ بالصوت / ثم يكرر دلاليا اول وجه للموت , المرض والحزن واللاجدوى /الحضارة تسعل / تبتدع تاريخ الدموع /وهذه ليست حضارة/ كلا الجمال شيء آخر/
كل شيء يدور بلا رحمة
حتى الازهار اصبحت شاحبة
الارصفة تتقيأ الموتى
خلايا رأسها تعفنت
في احضانها يتفجر الشيطان كقنبلة ــ هناك وببرود ــ
تقتل الشمس
لابد من استخدام لغة تليق بالحدث وتوظيف دلالات اقناعية , وها هو شاعرنا يودع هذا الجزء بكثافة من المفردات لتصدق نبوءة الموت , الشاعر يعي ان هنالك دوران يؤدي الى الحركة ولكن من النوع الذي يستعبد الانسان / كل شيء يدور بلا رحمة / الموت يدب في الطبيعة / حتى الازهار اصبحت شاحبة / وفي العلامات الني تربط الانسان بالكون /الارصفة تتقيأ الموتى / خلايا رأسها تعفنت / بعدها تتشكل اللغة من جديد , ليضع في هذا الجزء آخر علامة للتشبيه ومزيحا تلك الالفاظ باسلوب سلطة التلقي بقتل الحياة / في احضانها يتفجر الشيطان كقنبلة ــ هناك وببرود ــ يقتل الشمس
استطاع الشاعر ان يتعامل مع النص وجوديا , حينما جعل المتلقي جزءا من ذلك الوجود , وفند له كل مسميات المادية وزيف ادعائها من حضارة وحرية مفرطة والتقدم العلمي الذي يضر ببيئة المخلوقات بلا رحمة , وبين استعباد الانسان لاخيه الانسان والتنبأ بموت تلك الحضارة
محمد شنيشل فرع الربيعي
 

تجلّي التجربة النقدية في شعر الشعراء النقّاد


تجلّي التجربة النقدية في شعر الشعراء النقّاد
بقلم د أنور غني الموسوي


( وحده الماء يشبهني  \ والضوء في عتمة الليل \ انا الكلمات عارية تحوم حول الحقيقة \ صوتك يأتي من بعيد \ مع المطر...)
ناظم ناصر


تمهيد

لأجل أنّ في هذا المقال وصفا  لرؤى و متبنيّات فكرية قد أقع في خطأ فهمها عن الكتّاب الكبار الذين ذكرت أسماءهم و آراءهم  ، فانّي قد عرضت المقال على جميع الاخوة الذين تناولتهم الدراسة ، و تمت المقالة وفق تقريراتهم و تأييداتهم و تعديلاتهم بذلك الخصوص ، لذلك لم يكن هناك حاجة للاقتباس من ناحية  الافكار. امّا النماذج الشعرية فاني تحدثت عن ملامح واضحة يجدها القارئ في اعمال هؤلاء الشعراء بأدنى اطلاع و تأمل ، و جميع اشعارهم تصلح ان تكون نموذجا و مثالا للطرح الموجود وللموضوع الكلي التنظيري قيد البحث . فلا مبرر للأطالة في زمن صار لا يحبّذ فيه ذلك.
لطالما علمنا انّ الشعر اعتراض ، و انّه فكر و ليس مجرد فنّ و كلمات ، لذلك قيل عن النقد انه اعتراض في اعتراض . وهذا يشير الى ان عملية النقد ليست فقط قراءة فذّة و لا تفسيراً لجماليات الابداع و لا عيناً عارفة و مميزة . انّ النقد كما الشعر رؤية و ابداع ، لذلك ليس مهما كثيرا ان تسبر غور العمل الابداعي بقدر ان تحقّق القراءة النقدية رؤية متميزة و واضحة تجاه الأدب .هذا الجانب الاشراقي في الناقد يتجلّى بوضوح عند النقاد الشعراء ، لان كتابة الشعر تعني في جوهرها بوح و رؤية ،  وكشف شفيف لعوالم الروح و كسر رفيع لحجب الصمت فيكون مصدرهما واحد .
من هنا كان نقد الناقد الشاعر مختلفاً ، و السؤال هل انّ نقدية الشاعر تؤثّر على كتابته الشعرية ؟ و في الحقيقة لا يبدو جواب هذا السؤال سهلا دون التعرّف على الملامح العامة للكتابة الشعرية للشعراء النقاد ، ووفق منهجنا الاستقرائي و الانطلاق من الجزئي نحو الكلي و من التطبيقي نحو النظري سنعمد الى تمعّن مجموعة كتابات شعرية لشعراء نقاد كنموذج لهذه المعارف و العوالم الابداعية ، سنطرحها بشكل موضوعات انتزاعية ذات تشكّل مفاهيمي مقتربين قدر الامكان من مظاهر تلك المعارف في الاعمال الابداعية و سنقتصر هنا على الشقّ الثاني اي ملامح الكتابة الشعرية للشعراء النقاد ، بل على جانب منه وهو تجلي التجربة النقدية  في كتابات الشعراء النقاد ، اما ملامح الكتابة النقدية لهم فربما ستكون في موضوع اخر ان شاء الله في دراسات نقد النقد .

فكرة الكتابة الشعرية

ونحن نتناول موضوع تجلّي التجربة النقدية للشاعر الناقد  في شعره  ، فانّا نتوخى فيه اعلى درجات الدقّة ، اذ ليس الأمر فقط قراءة جمالية اجتهادية ، و انما تحقيق واقعي في عملية التفكير و ميكانزما الكتابة . و لهذا فانّا سنعمد الى المعارف المطروحة بموضوعية كبيرة ، فحينما تتوفر لدينا ادلة كافية للاقرار بمعرفة معينة حينها ستكون في سياق الكتابة العادية لان الاصل فيها ذلك ، اما اذ بقيت المسألة في حيز الفرضية و لم يكن لها ظهور جيد فانّا سنشير الى ذلك و الى الحاجة الى ادلّة داعمة لها.
و من المعلوم ان الناقد ليس متذوّقا جماليا بأدوات معرفية معروفة ،  او خبيرا بنظرية الأدب و النقد و تطبيقاتهما فقط ، بل هو مفكر صاحب رؤية تجاه الأدب عموما و الشعر خصوصا ، وهذا جليّ في كتابات النقاد و اختياراتهم .بل ان النقد التطبيقي على النصوص هو في واقعه تطبيق لتلك الرؤية و تبيين ملامحها.
و قبل الولوج في الأعمال الفنية الخارجية الجزئية لابد من التأكيد على امور كلية ذكرناها في مقالات لنا سابقة في النقد النظري أهمها  ( جماليات اللغة المتوهجة و قانون الابداع  و تجلي رؤية القارئ في الكتابة )  من اهم تلك الامور :
اولا  : رؤية الكاتب و القارئ عند الكتابة  ، اذ انّا قد بينا في محله ان عملية الكتابة تتأثر برؤية الكاتب بما هو قارئ ، اي انّه يمارس العميلتين معا اثناء الكتابة ، ولان الناقد له رؤية متميزة تجاه الشعر فان عملية الكتابة عنده تخضع لتلك الرؤية النقدية. ومن هنا يكون لموضوعنا   – أي تجلي التجربة النقدية في شعر الشعراء النقاد - وجه واقعية و يخرج عن مجال الفرضية.
الثاني : ان تجلّي التجربة له حضوره الجمالي ، وهو من عناصر الابداع في العمل الفني ، فتتجلي التجربة بشكل طبيعي و مستمر في كل كتابة ، ولانّ تجربة الناقد الأدبية تختلف عن تجربة الشاعر ، و لانّ التجربة تتجلى في العمل كما قلنا ، فانّ حضور صور و اشكال و ملامحة التجربة الفكرية و المعرفية تحضر ، الا انه ليس بالمستطاع تحديد قوة الحضور تلك و شدة التجلي ، حتى انه يمكن القول بامكانية عدم ظهورها او تلمسها كشيء خارجي مميز. بمعنى اخر  انّه رغم عدم انفكاك الكتابة من تجلي تجربة الناقد ، الا انه ليس من الضروري ان تكون واضحة المعالم ، و من الواضح ان موضوعنا هو التجربة المتجليّة واضحة المعالم و البينة الظهور و ليس الحالة الاولى .
الثالث :  وهو الاهم ، وهو كيفية تحقق عملية الكتابة ، و ماهيّة عملية تحقق الانزياح و المجاز و اللجوء الى الايحائية ، و العمق ، وهذه العوامل كما هو معلوم   من اهم ملامح الكتابة الشعرية . وفي الحقيقة  - و هو الواضح لكل من يمارس عملية الكتابة -  انه لا يوجد تصوّر واضح عن كيفية تحقق الكتابة الشعرية ، بل انّ سبب الحاجة الى الكتابة و العوامل المحفزة عليها ايضا يشوبها شيء من الضبابية ، و لذلك لا نستطيع القول ان الكتابة الشعرية عملية فكرية ، بل انّها شيء اعمق من ذلك واوسع ، فالواقع لا يساعد على دعوى خضوع كتابة الشعر لعملية فكرية اختيارية، ولا يعني ذلك ان الشعر محض هذيان او انه بمعزل عن تفكير الشاعر، و انّما يعني ان اسلوب التعبير الشعري ليس له ضوابط فكرية محددة ، و لا يخضع لعملية اختيار في تمظهره  ، وان كان انتقاء الموضوعات و الزمان و المكان و حتى المفردات امور اختيارية ، و مما يؤكد ذلك،  ان لكل شاعر لغته المميزة و ان حصل فيها تطوّر او تغيّر الا ان ملامحها العامة تكون بينة بحيث من السهل معرفة  انتساب المقطع المعين الى ايّ من الشعراء الذين يعرفهم القارئ الخبير و خصوصا في الشعر الحديث.

منهج البحث

 مع انا اثبتنا مبدأ حضور الفكر النقدي في شعر الشاعر الناقد ، الا ان هذه الحقيقة تمنع من الجزم بالحكم بتمظهر و تشكل اختياري لذلك الحضور ، فتبقى تلك الحقيقة في عالم الامكان و الثبوت ، و تحتاج الى دلائل لأجل التصديق و الاثبات.
و من هنا يكون بحثنا في النصوص غير منطلق من حقائق مفروغ منها ، وانما  هو بحث تجريبي استقرائي ، و ربما سيكون هذا البحث من اوضح صور النقد التجريبي الاستقرائي الذي ندعو له .
و لكي يتسم البحث بالعلمية سنعمد هنا الى تناول اعمال كتّاب متفق على تكامل شاعريتهم و نقديتهم الواضحة ، ولنا اطلاع واسع على اعمالهم الابداعية الشعرية و كتاباتهم النقدية ، وهذه الشروط لم تكن اعتباطية و لا مزاجية و انما مهمّة لتبيّن التأثير الممكن للفكر النقدي على العمل الشعري .

تأثّر النوع الشعري بالفكر النقدي للشاعر الناقد

يبدو لي ان هذه المسالة من الواضحات ، و من اللاموضوعية وصف ناقد تذوّقَ الجمال و عرفه ان يتعصّب لشكل من اشكال الكتابة وهو على دراية بجمالية الاشكال الاخرى ، اذن فتبنّي شكل شعري معين ينطلق من أسس فكرية نقدية لأسباب جمالية بحتة .
بينما نجد شعراء دار النقد- قصيدة النثر ،  كناظم ناصر و محمد شنيشل و هشام ايوب  يتصدون للقضية كمنظرين لقصيدة النثر ، نجد  فالح الحجية و ضمد كاظم وسمي يلتزمون كتابة العمودي رغم نظرتهم الثاقبة في الشعر النثري ، بل و النص المفتوح و تعدد القراءات كما عن ضمد كاظم في ( النص و المعنى)  ومع ذلك يصرح انه لا يكتب الا العمودي حاليا  ،  مع انه قد كتب قصيدة نثر و اصدر مجموعة شعرية في قصيدة النثر عنوانها ( طيف الاصيل ) ، و بينما يكون الطبيعي ان يتجه الشاعر من قصيدة الوزن الى النثر كما حصل معي ، فان ضمد كاظم اقتصر على الموزون بعد كتابة قصيدة النثر وهذا لا يمكن رده الا الى الفكر النقدي و الرؤية الخاصة للشعر و جمالياته .
و نجد علاء الاديب و انور غني اللذين يتلمّسان الجمال في جميع اشكال الشعر ، فلا تمييز مدرسي لديهما بينها  ، نجد كلّا منهما يميل الى كتابة مختلفة  ، فيكتب علاء الاديب شعر التفعلية ، و يكتب انور غني الشعر النثري. بينما يتفرد هاني عقيل بطيف واسع من التجربة العملية ، فلا زال يكتب في جميع اشكال الشعر من عمودي و تفعلية و قصيدة نثر ، مع تجربة متميزة  في التوظيف الفني .

تأثّر الأسلوب الشعري بالفكر النقدي

بينما نجد الفخامة اللفظية و سمو التراكيب و المجاز التوظيفي و التوصيلية العالية في شعر  فالح الحجية و ضمد كاظم ، نجد التقنية العالية و الايحائية عند هشام ايوب و هاني عقيل و محمد شنيشل ، وطبعا من السهل ردّ ذلك الى متبنيّات فكرية نقدية .
وبينما نجد الاعتراض الادبي و أدب القضية عند علاء الاديب وهو منطلق من فكرته التي يصرح فيها عن الادب ، نجد العمق الرقيق و اللغة القويّة عند ناظم ناصر و انور غني ، وهو ما يمكن اعتباره  ناتجا من فكرة الاهتمام بما وراء اللّغة و الحديث عن عوالم  و بناءات  جمالية هناك .

تأثّر القاموس اللفظي و المعنوي  بالفكر النقدي .

لا ريب ان كتابة الشعر العمودي أكثر تلوّناً من حيث قاموس المفردات  ، حيث انّ طبيعة الالفاظ تتحدد بالغرض ،  فحينما يكتب غزلاً غير ما يكتب حماسة ، و تلوّن القاموس اللفظي ظاهر في اشعار  فالح الحجية و ضمد كاظم و علاء الاديب ، وهو ايضا مشتمل على تلوّن القاموس المعنوي للسبب ذاته  ، ومع ان هذ التنوع اقل ظهورا عند من يتبنى قصيدة النثر ، الا ان ما يجب تأكيده ان توهّج اللغة و اعطاء الكلمات طاقات تعبيرية اضافية هو من سمات لغة   قصيدة النثر فيكون هذا انجاز حقيقي ، فيكون لدينا قاموس نصّي و مرجعية نصيّة ، و ربما يمكن ردّ ذلك ايضا الى الفكر النقدي.

تأثّر اشكال البوح بالفكر النقدي

من الواجب التأكيد على انّ اسلوب البوح  ، و الذي هو من اهمّ ملامح الكتابة الشعرية ، لا يصحّ ان يؤخذ كوصف كلي للقصيدة ، و انما هو حالة انتزاع مقطعي تشريحي ، بمعنى اخر ان القصيدة الواحدة قد تشتمل على اشكال متعددة من البوح ، ومن هنا يبرز تساؤل مهم في اهمية مفهوم القصيدة ، فبينما يتجلى البوح الومضي المجانّي في اشعار معينة لأنور غني و هشام ايوب و علاء الاديب  و ناظم ناصر ، و بينما تتجلى الوحدة الغرضية في اشعار فالح الحجية ، نجد التزاما بمفهوم القصيدة عند هؤلاء أنفسهم و عند الاخرين ممن ذكرنا ، و ردّ ذلك الى رؤية خاصة و فكرة نقدية ليس أمرا واضحا. وان كان مفهوم القصيدة مهزوزا عندي و الاعتماد يكون في الأساس على الشعرية .
يتجلى البوح التوصيلي عند فالح العطية و علاء الاديب و ضمد كاظم وسمي ، بينما الرمزيّة تأخذ مساحة واسعة عند هاني عقيل و محمد شنيشل و هشام ايوب ، اما لغتي ناظم ناصر و انور غني فتتجلى فيها التعبيرية العميقة ، و في الواقع يمكن اعتبار هذا من خصائص الكتابة الشعرية و مستقلاتها الواضحة ، اذ لا يمكننا تلمّس موارد و مصادر فكرية في نقد هؤلاء في تلك الامور ، ففالح الحجية و ضمد كاظم مثلا لديهم اقوال فذّة في نظرية الادب متجاوزة فكرة البوح التوصيلي ، وتجربة ضمد كاظم في قصيدة النثر التي ذكرناها شاهدة ،  و نجد محمد شنيشل و هشام ايوب بمنهجية واسعة مقتدرة تتسع لجميع اشكال البوح .

الفنيّة  العالية

من الملاحظ على شعر الشعراء النقّاد ، انّه يتميز بالفنية العالية  ، وهذا امر منطقي جدا ، فنجد التوظيفات في غاية الدقّة ، و اللغة مستوفية لأعلى درجات الفنية وهذا شيء نردّه و بشكل جازم الى الفكر النقدي لهؤلاء الشعراء  ، و في الواقع على أيّ شاعر لكي ينتج فنّا حقيقيا مؤثرا ان يقرأ نقداً بقدر ما يقرأ شعرا . هذا و انّ جميع اشعار من ذكرنا نماذج للتقنية العالية و الفنية المكتملة ، الا انّ ذلك يبدو ظاهرا جدا عند فالح الحجية و محمد شنيشل و هشام ايوب .

اللغة الحرّة

ربما يكون هذا الموضوع بخلاف ما تقدّم من انّه يعكس ضعف تأثير الناقد على شعره و اطلاق العنان  للشعرية ، مبحرة في عالم طلِق لا يعترف بشيء و لا يفكّر بشيء ، الا انّ هذا ايضا يمكن ردّه عند التأمّل الى الرؤية . و نجد اللغة الحرّة و كسر النمط واضحا عند هاني عقيل و انور غني فلغة( مواسم الوجع ) الهايكوية لهاني عقيل تختلف كثيرا عن لغة غيرها من الشعر النثري وهذا يختلف عن شعره  الموزون . و لغة ( راعي الغنم ) لأنور غني  تختلف عن رسومات وهذي عن ومضاته . و بينما يمكن فهم ذلك بانه تبدّل بالرؤبة للغة الشعر او سعة التذوق الجمالي ، الا انه يمكن فهمه ايضا بانه طغيان لصوت الشاعر على الناقد .
و في كل الأحوال الشاعر الناقد ليس شاعراً ناقداً ولا ناقداً شاعراً و انما هو شاعر و ناقد ، تستقل الشخصية في الاثنين ،و هذه الدراسة كانت لبيان عملية التأثر ، و ليس بيان خضوع احدهما للأخرى ، لذلك حينما نتحدّث مثلا عن الشاعر ناظم ناصر يختلف عن حديثنا عن النافد ناظم ناصر وهكذا الحال في غيره من الشعراء و النقاد . و الحمد لله رب العالمين
كتب في الحلة بئر العلم في 20/2/2015