النقطة التعبيرية







للنص الادبي ابعاد ثلاثة ، فاضافة الى بعده  الكتابي البنائي كنص بمفردات و جمل و فقرات متجاورة   ، فان له بعدا  ابداعيا اسلوبيا  يتمثل بالفنية و الجمالية و الرسالية ، و له ايضا بعد لغوي  دلالي يتمثل بتجلّي اللغة و النص و المؤلف و القارئ .  ما يحصل اثناء الكتابة هو تقاطع خطوط هذه الابعاد و تقابلها و تلاقيها في النهاية في نقاط تعبيرية .  بينما يكون تتبع عناصر البعد الابداعي الاسلوبي هو من  القراءة الاسلوبية  ، و تتبع عناصر البعد اللغوي الدلالي هو من القراءة الدلالية اللغوية  ، فان تتبع نقاط تلاقيهما التعبيرية يكون بالقراءة التعبيرية بادوات النقد التعبيري . و من هنا يتجلى الفرق الواضح واصالة النقد التعبيري و تميزه عن الابحاث الدلالية و الاسلوبية و ان كانت جزء منه و مستفيدا من ادواتهما .
 و من هنا ايضا يظهر  ان التصور السائد كون النص  كيانا زمانيا ترتب عناصره في الزمن لا يتسم بالواقعية ، بل ان النص كيان ثلاثي الابعاد  ، بعد كتابي نصي و بعد لغوي دلالي و بعد اسلوبي ابداعي . يعتمد وضوح و تجلي هذا الشكل على مدى ظهور و  قوة نقاط ابعاده المتقدمة اثناء القراءة .
 حينما تحدث عملية القراءة فانها تتطور من مستوى المفردة الى مستوى الاسناد او التجاور المفرداتي الى مستوى الجملة الى مستوى الفقرة ثم الى مستوى النص بكله .  اثناء كل مستوى يحضر البعد اللغوي الدلالي و البعد الابداعي الاسلوبي ، و بمجموع ما يتم من انظمة احتكاك و تقابل و التقاء و تقاطع و بفعل مستوى النقطة التعبيرية لكل بعد تحصل في الفكر و النفس مواضع تعبيرية لكل وحدة كتابية فيه يقابله بعد رابع خاص بالقارئ هو البعد الشعوري و الاستجابة الجمالية ، بعبارة اخرى بينما يكون النص ككيان مكتوب شكلا ثلاثي الابعاد ساكنا لا حراك فيه ، فانه ككيان مقروء يكون كيانا  متحركا له اربعة ابعاد البعد الرابع هو البعد الشعوري ويمثل بعد الحركة الذي يخرج النص من السكون . فتكون القراءة هي العملية التي تعطي للنص روحا و تخرجه من الموت الى الحياة ، وهذا ما نسميه ( حركة النص )
ان النظام الجامع للأبعاد الثلاثة في القراءة التعبيرية يتجلى بالوحدة التعبيرية المتكونة من علامة تعبيرية ( كيان تعبيرية او معادل تعبيري ) يحدث الاثارة التعبيرية  ( كيان شعوري او معادل شعوري ) بواسطة عملية فكرية و عقلية تحليلية هي الوسط  او العامل التعبيري )  . الوحدة التعبيرية يمكن ان ينظر اليها من جهة جمالية باعتبار المعادل التعبيري معادل جمالي ، و بواسطة العامل الجمالي  يحدث الاثارة الجمالية ، وهذا ما يمكن ان نسميه الوحدة الجمالية . ان الوحدة الجمالية و الوحدة التعبيرية هي غير الوحدة الكلامية او الكتابية او الاسلوبية او الدلالية . واهم ما يشير اليه نظام الوحدة التعبيرية ان الاثارة و الانبهار بالنص لا يقتصر على الاثارة الجمالية و الذوقية و انما هناك اثارة فكرية تعبيرية قد اشرنا  في مواطن عدة الى صور تجليها كالتنقل بين حقول المعنى و الدلالة و نحو ذلك من انظمة عميقة فكرية .

القراءة ما هي الا عملية مشاهدة و تلقي تبحر فيها النفس في عوالم النص و الكتابة ،و  الفكر و اللغة ، و الخيال و الابداع ، و  الشعور و المتعة . هذه العوالم الاربعة الحاضرة دوما في الكتابة الابداعية هي التي تضرب في عمق النفس و تجعل الكتابة الادبية مميزة ،  و بمقدار تجلي عناصر و اشياء تلك العوالم و تلك الابعاد يتحدد وقع القراءة و مقدارها التعبيري . النقد التعبيري هو المجال الذي يبحث الانظمة المتحققة من تفاعل تلك الابعاد و ما ينتج عنها من مواضع و قيم تعبيرية في فضاء الكتابة و عوالمها .  ان التشخيص الدقيق و عالي الكفاءة للبعد الجمالي للكتابة بواسطة ادوات النقد التعبيري و تحديد المقادير الكمية و التشكلات الكيفية للبعد الجمالي للنص يمكن من تشخيص عالي المستوى لقيم النصوص جماليا مما يعد مدخلا علميا للظاهرة الجمالية و الاستجابة الشعورية تجاه الجمال .  

الرمزية التعبيرية عند هاني النواف




 



تمهيد
منذ اطلاعنا على التعبيرية  الالمانية و اهمها نصوص جورج تركل الذي كنت قد ترجمت له قصيدة ( صيف ) ، لم نجد هذا المستوى الرمزي و التعبيري الا في نصوص لشعراء من المغرب العربي كنصوص الشاعرة و الروائية  التونسية عفاف السمعلي  و الشاعر التونسي لطفي العبيدي  . و لا بد من القول بان الرمزية التعبيرية اكثر تطورا في المغرب العربي منها في مشرقه ، و لقد تناولنا هذا الامر مع الشاعر و الناقد الدكتور علاء الاديب فعزى السبب الى الاحتكاك الكبير لادباء المغرب العربي بالادب الغربي   و هو تام كما يبدو . و لم نجد في كتابات ادباء المشرق العربي رمزية تقترب من تلك الرمزية الا في متفرقات ، لكن لدينا شاعر عراقي فذ يكتب برمزية تعبيرية عالية تقترب من مستويات التعبيرية الالمانية  ألا و هو الشاعر هاني النواف . سنبين هنا ملامح و مستويات و عمق تلك التعبيرية كظاهرة متفردة  واضافة ادبية .
أهمية التفرد الاسلوبي و واجب النقد تجاهه
ليست المهمة الكبرى للنقد في متابعة تحقق المعايير في نصوص معينة ، و انما النقد المهم هو ما يشير و يدلل على الاضافات المهمة للنصوص . ان الظاهرة الادبية لها مستويات و درجات تجلّ تختلف فيها النصوص ، و لا تكون الاشارة النقدية مقنعة ما لم يصدقها تجل عال للثيمة في العمل الادبي المعين . من هنا يكون للتفرد الاسلوبي باعتباره تجل عال للتجربة اهمية من جهة احداث الاضافة ، يكون لزاما على النقد متابعتها لأجل تكامل الادب و تطوره و الاحتذاء بالتجليات  العالية .  
الرمزية التعبيرية
التعبيرية مدرسة معروفة في الفن و الادب ، و  لقد توجّها و ابدع فيها الالمان ، حتى انها صارت احيانا تنسب اليهم فيقال ( التعبيرية الالمانية ) . و التعبيرية وان كانت حركة مضادة للتأثيرية و الانطباعية ، الا انها حملت الحقيقة و الاخلاص للأدب و الانسان . و مع ان التعبيرية تُحصر عادة في فترة زمنية معينة ، الا ان المتتبع يجد ان اسلوب التعبيرية بمعاييرها الريادية لا زال مستمرا ، كم ان معظم الكتابات الشعرية العربية و غيرها تشتمل على درجات من الرمزية التعبيرية ، وان اختلفت درجات تجليها .
لقد ابدعت التعبيرية في جعل الانسان هو المحور ، و احترمت الفردية . ان التعبيرية بهذا الفهم يمكن ان تكون منطلقا لفلسفة واسعة عن الحياة تحترم الانسان و حرياته و حقوقه .  و فيما يخص الادب فان التعبيرية قد وسعت من  قدرة الكتابة و مناهلها ، و لقد بينا في مواضع سابقة ان من التعبيرية ما يكون فيه توسعة  في علاقات التجاور اللفظي و الاسنادي  ( التعبيرية التركيبية  ) ، اذ ان الرمزية تستوجب مجازات و انزياحات لأجل تأديتها  ، مما يؤدي الى خلق علاقات جديدة بين الوحدات الكلامية غير مسبوقة ، و منها ما يكون فيه توسعة مفهومية عميقة تنفذ في جوهر المعنى و اسميناها ( التعبيرية المفهومية ) و التي تحدث توسعا مفهوميا عميقا في المعنى و الفكرة .
الفنية التعبيرية و جمالياتها وفق ادوات النقد التعبيري
النقد التعبيري  بادوات بحثه و تتبعه في جهات الابداع بالاسلوبية التعبيرية يتناول النص منهجيا من ثلاث جهات :  1- فنيته و 2- جماليته و 3- رساليته .
بخصوص الفنية التعبيرية  فانها تتجلى في ركنين : الاول الرمزية العالية و الثانية  الانفعالية الفردية تجاه الحياة و امورها ، و لا يمكن عد الكتابة محققة للتعبيرية ان لم تشتمل على هذين الشرطين اعني ( الرمزية ) و ( الانفعالية الفردية ) . و الجمالية اضافة الى التوظيفات و الانزيحات فانها تحقق توسعة علاقاتية على مستوى التركيب  ( التعبيرية التركيبية  ) بفرادة اسلوبية تركيبية و علاقاتية بين المفردات  و على مستوى الفهم ( التعبيرية المفهومية ) بطرح فهم و تعريف خاص و فردي للاشياء  كما اسلفنا . و اما الرسالية فانها تتمثل في مركزية الانسان في التعبيرية  و محوريته و تحريره و احترام رؤاه و افكاره و البحث عن الخلاص و العالم الاصدق و الاكثر جوهرية .
تجليات التعبيرية في نصوص هاني النواف
هاني النواف شاعر عراقي يتميز شعره بتجل عال للتعبيرية قل نظيره ، من حيث عمق الفكرة و عمق العلاقة الانزياحية بين الوحدات الكلامية . ان شعر هاني النواف يحقق مستويات عالية من التعبيرية بالفنية المتكاملة من حيث الرمزية و الفردية و الجمالية المتكاملة من حيث التعبيرية التركيبية و المفهومية ، و الرسالية المتكاملة من حيث الانسانية و الكونية في أدبه . وهنا نورد نماذجا  لتلك التجليات في قصيدته ( حين أستدار النعاة ) وهي قصيدة نثر حرة مكتوبة بلغة سردية التعبيرية اي بالسرد الممانع للسرد ، السرد لا بقصد الحكاية و السرد  .
1- الرمزية
الرمزية في هذه القصيدة تكون باشكال مختلفة و واسعة :
 يقول الشاعر :
(الرَّعشةُ الحُبلى فَارِغةُ السّقوطِ...وهادِئَةٌ اعصابُ الطَّيْنِ...
والوجْدُ يُباكرُ فِتْنَةً، تَمُدُّ نَفْحَةَ المآذنِ، وعَفَنَ الأزقةِ المُجهَدِ، بكوابيسِ الرَّيبةِ، وعُبوسِ دِثَارِ يَقِينٍ مُرتَعِشِ اليَباسِ، يُنْعِشُ هدأةَ الظّلالِ العَميقةِ...ويَغزلُ انخطافَ العُروقِ، لشوارعِ الطحلبِ الجَوفاءِ، واخْضِلالِ التَّحوُّلِ العَقيم ِ..... )
نجد هنا رمزية متجلية وقوية و بصور اسلوبية مختلفة .  فنجد  الرمزية الخارجية  التوظيفية  و التي تكون بتوظيفات الرمزيات العرفية و الخارجية  ككلمات ( المآذن و الازقة و الشوارع )
الرمزية التكاملية و تكون باعطاء رمزية اضافية لما له رمزية خارجية ككلمات ( الرعشة و الوجد و الظلال )
الرمزية النصية الداخلية   و تكون باعطاء رمزية خاصة و نصية للاشياء ككلمات (الطين و اليباس و الطحلب ) .

2- الانفعالية الفردية
اللغة التعبيرية دوما تحاول نقل الاحساس بالشيء و الانفعال به قبل نقله و محاكاته . انها ترسم الاشياء و تصورها كما نحسّ بها و بما تعني لنا لا بما هي في الخارج . انها  تقدم العالم بنظرة خاصة و بفكرة فردية و تضفي على الاشياء معان  خاصة ، و تحاول نقل الاحساس بالشيء اكثر من نقل معناه الى المتلقي .
يقول هاني النواف :
(كانَ أبي يُقرفصُ بالتعبِ الأشيبِ،...ويأكلُ مُتَّكئاً، نخاعَ العَتمةِ، وحماماتِ الفَجْرِ السَّوداء،.. يَمضغُ صدغَ اللحظةِ الموشَّى، بعَمَاءِ الصَّحْوِ العَفْوِيِّ، ويَغتسلُ بجُوعِ القَمْحِ المُهادنِ للصبّارِ، وهَشَاشَةِ النَّقَاءْ المَنْقُوعِ بخطايا النَّهْرِ...  )
نجد نقاط انفعال حادة في ( كان ابي يقرفص بالتعب الاشيب) ان هذه العبارة تبلغ اقصى مدى ممكن للتعبير و الانفعال ، انها تنجح و بقوة بنقل احساس الشاعر لنا . و مثل ذلك في عبارة ( يغتسل بجوع القمح المهادن للصبار ) . و يقدم لنا النص التصور الخاص عن الاشياء  المغاير للتصورات العامة و الخارجية مع عمق تعبيري واضح (   حمامات الفجر السوداء ، الصحو العفوي ، النقاء المنقوع بخطايا النهر ) .

3- التعبيرية التركيبية
تتجلى التعبيرية التركيبية بالاضافات العلاقاتية التركيبية واهمها صور الانزياح الفذ و العالي . ويكون ذلك على مستوى التركيب الاسنادي بين المفردات و على مستوى التركيب الجملي بين اجزاء الجملة  و على مستوى التركيب الفقراتي بين الجمل  و على مستوى التركيب النصي بين فقراته .
نجد تجليات التعبيرية في نص هاني النواف  على مستوى التركيب الاسنادي  (فَارِغةُ السّقوطِ ،  اعصابُ الطَّيْنِ ، نخاعَ العَتمةِ ، صدغَ اللحظةِ  ، جُوعِ القَمْحِ ) وهكذا كثير.  و نجدها في التركيب الجملي (الرَّعشةُ الحُبلى فَارِغةُ السّقوطِ. ،   هادِئَةٌ اعصابُ الطَّيْنِ. ، عُبوسِ دِثَارِ يَقِينٍ مُرتَعِشِ اليَباسِ ، الحَبلُ السَّريُّ، يَزْفِرُ خِلسةَ الشِّتاءِ المُعتمِ ) و هكذا غيرها .
ان النص يعتمد السرد التعبيري ، و من خلال الرمزية التعبيرية ، يتحقق مزج و ثنائية تعبيرية ، تتميز بالعذوبة و العلو ، ظاهرة و جلية . ان اهم ما تقدمه السردية التعبيرية للنص هو   اضفاء عذوبة و حلاوة لدى المتلقي  ، و عذوبة الرمزية بالسرد التعبيرية واضحة في هذ النص و جميع فقراته شاهدة على ذلك .
اما التركيب النصي ، فمع ما تقدّم من المزاج و الجو العام العذب  للسردية في النص ، فاننا يمكن ان نلاحظ التقابل التعبيري بين الفقرات و انها تدور حول فكرة عميقة  مركزية ، و كأن النص وهو بشكل قصيدة نثر حرة مقسم الى فقرات متناصة ، كل هذه الفقرات تحاول ان توصل الى المتلقي فكرة مركزية ، هذه الحركة الدورانية و التعابير المتقابلة و المترادفة في فكرتها و التي نسميها ( التناص الداخلي )  تحقق اسلوب لغة المرايا و ( النص الفسيفسائي )  و ان لم يكن في تجل عال كما في نصوص شعراء اخرين كالشاعر كريم عبد الله و د انور غني الموسوي .
4- التعبيرية المفهومية
بينما يكون الابداع في التعبيرية التركيبية على مستوى التركيب و العلاقات البنائية بين الوحدات الكلامية ، فان التعبيرية المفهومية تنفذ عميقا في المعنى و الفهم للاشياء ، فتعطي فهما جديدا لها و خاصا .
نجد في هذا النص الفهم الخاص و الفردي في اشياء منها ( رعشة حبلى ، سقوط فارغ ، طين له اعصاب ، يقين مرتعش اليباس ،العتمة التي لها نخاع ، اللحظة التي لها صدغ ، القمح الجائع ،  النقاء المنقوع بالخطايا ، الضباب المنبوذ ، صيحات الانوار ، ضوضاء صافية الخاطر ) وهكذا غيرها . ان هذه الاسنادات اضافة الى توسيعها لفاهيم تلك الاشياء و النظرة الخاصة و الفردية تجاهها ، فانها ايضا تعمل على تغيير تجنيسي لها بوصف السمعي بصفة بصرية و وصف المكاني بصفة زمانية و وصف الزماني بصفة مكانية ، و الباس الضد صفات ضده ، وهكذا ، و هذا اعمق اشكال التعبيرية كما هو واضح .
5- التعبيرية الرسالية
من اولى و واضح اشكال الرسالية في التعبيرية هو لغة الاعتراض و الخروج على واقع الاشياء بالاسلوب التعبيرية و الرمزية العميقة  وهذه تحقق الرسالية الادبية و الاجتماعية .  كما انها تتجلى في طلب الخلاص و نشدان واقع افضل  ، اضافة الى ان حقيقة صدور النص التعبيري كمرآة و صورة لعمق المؤلف و انفعالاته و عواطفه  و آلامه فانه دوما ينطوي على رسالة و خطاب . بمعنى آخر ان الرسالية متأصلة في النص التعبيرية . و النص هنا معبأ بالهم و الحزن و لا يترك أية مناسبة الا و بثّ فيها ما تحمله النفس و تراكم داخلها  تجاه واقع محزن بماض تعٍب و حاضر مرّ  و مستقبل ضبابي . هذه الرسالة  تأسر جميع فقرات النص و تتجلى واضحة في قول الشاعر (بؤسٌ قديمٌ،.. يَقتاتُ مَواسِمَ الشَّتاتِ، وتَراتيلَ أجراسِ التَّعبِ المُثقَلةِ، باحتمالات الرَّحيلِ الأخيرةِ لِمَائِك.... يَا صَوتَ الضَّلالِ الكئيبِ!،..الشَّمْسُ مُتعبةُ الآتي، وَحقولُ العُشبِ عَطشى لِسَماءِ الظِّلِ، ومَوتِ الوَردةِ، في حُمْرَةِ إنصَاتٍ مَلهوف... )

النص
( حين استدار النعاة )
هاني النواف

26\7\2015

الرَّعشةُ الحُبلى فَارِغةُ السّقوطِ...وهادِئَةٌ اعصابُ الطَّيْنِ...
والوجْدُ يُباكرُ فِتْنَةً، تَمُدُّ نَفْحَةَ المآذنِ، وعَفَنَ الأزقةِ المُجهَدِ، بكوابيسِ الرَّيبةِ، وعُبوسِ دِثَارِ يَقِينٍ مُرتَعِشِ اليَباسِ، يُنْعِشُ هدأةَ الظّلالِ العَميقةِ...ويَغزلُ انخطافَ العُروقِ، لشوارعِ الطحلبِ الجَوفاءِ، واخْضِلالِ التَّحوُّلِ العَقيم ِ.....
كانَ أبي يُقرفصُ بالتعبِ الأشيبِ،...ويأكلُ مُتَّكئاً، نخاعَ العَتمةِ، وحماماتِ الفَجْرِ السَّوداءِ،..يَمضغُ صدغَ اللحظةِ الموشَّى، بعَمَاءِ الصَّحْوِ العَفْوِيِّ، ويَغتسلُ بجُوعِ القَمْحِ المُهادنِ للصبّارِ،وهَشَاشَةِ النَّقَاءْ المَنْقُوعِ بخطايا النَّهْرِ...
يَصرخُ بي : اغلقْ علينا الباب!...قبلَ أن يَبْتَلَّ الصَّيفُ بأَنْقَاضِ الظّنونِ، وحَرائقِ السَّحابِ... يلوِّحُ حَاسِرَ الرَّأسِ، بكلِّ اتجاهات الكبتِ ، وصَوتِ الشَّغفِ المَحجوبِ العِتقِ...
فالغرفةُ مازالتْ تلبسُ ثَوبَ الضَّبابِ المَنبوذِ، وَرائحةَ أخشابِ الخَوْفِ المُتَناثِرِ، تُراوِغُ تَضاريسَ الوُقُوفِ وصَيحاتِ الأنوارِ المُراقةِ ، تَجتاحُ عُمْقَ الوجوهِ، بضَوضاءٍ صَافية الخَاطِر، كمِلحِ الموجةِ الشهيّةِ، وابتهاجِ الصَّدى المَخمورِ في سَقفِ الرِّيح...
بؤسٌ قديمٌ،.. يَقتاتُ مَواسِمَ الشَّتاتِ، وتَراتيلَ أجراسِ التَّعبِ المُثقَلةِ، باحتمالات الرَّحيلِ الأخيرةِ لِمَائِك....
يَاصَوتَ الضَّلالِ الكئيبِ!،..الشَّمْسُ مُتعبةُ الآتي، وَحقولُ العُشبِ عَطشى لِسَماءِ الظِّلِ، ومَوتِ الوَردةِ، في حُمْرَةِ إنصَاتٍ مَلهوف...
والحَبلُ السَّريُّ، يَزْفِرُ خِلسةَ الشِّتاءِ المُعتمِ ، وما تَبَقَّى من السّؤالِ الكَليلِ، لابتسامِ الدَّليلِ، حين َاستدارَ النُّعاةُ...

نظرية علم اصول الفقه الحلقة الثالثة ( تعليل الحكم الشرعي و علة الحكم )





تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و اله الطيبين الطاهرين .
التعليل من الامور المستفيضة في النصوص الشرعية  سواء الاعتقادات او الاحكام الفقهية  . و اهمية التعليل لا تكمن فقط في اشارته الى علة الاعتقاد او التشريع   ، بل ان التعليل في الاحكام الفقهية يكشف و يبين حقيقة مناط  الحكام  وهو امر بغاية الاهمية في فهم النص و بيان مدى موضوعية ما تبدو له الموضوعية و مدى عمومية الحكم لغير المورد  . و مع ان الفقهاء  يشيرون الى التعليلات في كلماتهم الا ان اهمية هذا المبحث و سعة تطبيقاته و تفصيلاتها يوجب ان يكون له بحث مفرد و تنقيح خاص سواء في مباحث العقائد لأجل المعارف الاعتقادية التي يكون للتعليل قوة بيانية   ،  او في اصول الفقه لأجل استناط الاحكام و بيان مدى موضوعية المواضيع التي فيها علل حكمية باعتباره قرينة بيانية كاشفة عن حقيقة المراد   وهذه المقالة خاصة بهذا الجانب .

فصل  : تعريف علة الحكم
  في معجم اللغة المعاصرة :  عِلَّة :- جمع عِلاّت وعِلَل :  1 - مَرَضٌ ، عكسها بُرْء :- أصابته عِلَّة ، - شفاه اللهُ من عِلَّتِه ، - لكُلِّ عِلَّةٍ دواء :-  على عِلاّته : كما هو بعيوبه ، بدون تغيير . 2 - سببٌ ، حُجَّةٌ ، مُبرِّرٌ ، يتوقَّف عليه وجود شيء :- عِلَّةٌ واهية ، - لا تصطنع العِلل وأنت مُخطئ ، - عِلَّة أقبح من ذنب ، - لا معلول بدون عِلَّة :- • عِلّة الوجود : مُبرِّره . 3 - ( الفلسفة والتصوُّف ) كُلُّ ما يصدر عنه أمر آخر بالاستقلال أو بوساطة انضمام غيره إليه .   و في المعجم الوسيط :  العِلَّة : المرض الشاغل . و العِلَّة ( عند الفلاسفة ) : كل ما يصدر عنه أمرٌ آخر بالاستقلال أو بوساطة انضمام غيره إِليه فهو عِلَّة لذلك الأمر ، والأمر معلولٌ له . و العِلَّة من كلِّ شيء : سببه .)   وهكذا في غيرهما  و كذا هب عند العرف .
و لا يظهر في الشرع استحداث معنى لهذه اللفظة او تخصيص فيه ، بل ولا عند المتشرعة فان العلة في الشريعة ( هي ما يجب الحكم به معه ) وهي مصداق للمعنى اللغوي و العرفي كما هو ظاهر . و عرفت بانها ( مناط الحكم  ) بمعنى ما أضاف الشرع الحكم اليه وناطه به ونصبه علامة عليه  .  و العلة عند البعض ( انها الوصف الظاهر المنضبط المعرِّف للحكم ) وهي وان لم تكن موافقة لكثير من  صور العلة الا انها ايضا ليست الا مصداقا للمعنى اللغوي . و من هنا يظهر ضعف القول بالفرق بين العلة و السبب في الاحكام . ومع ان تعليل الاحكام صار ينصرف الى التعليل العقدي للاحكام  ببيان المصالح منها، فان بيان علة الحكم فقهيا من المهام التي يهتم بها في مبحث علم الاصول و الاستنباط  ، وهي بيان سبب الحكم  فقهيا ، لذلك يكون من المفيد للتمييز بين القسمين ان يشار الى الاولى ب( تعليل الاحكام العقدي ) المعرفي في مجال المعرفة و الى الثاني ( تعليل الاحكام الفقهي ) العملي في مجال العمل  ، الاول موضع بحثه ابحاث العقائد و الثاني موضع بحثه اصول الفقه ، وقد يشار الى الاول بالتعليل الكلامي و الى الثاني بالتعليل الاصولي ، وهو جيد بنسبته الى العلم الذي يبحث فيه ، الا ان ما اشرنا اليه بيان قريب  لذات المعنى و مستقل عن موضع بحثه .

تنبيه (1)  : قد عرفت ان معنى العلة معنى عرفي و استعمالها في الفقه كان وفق ذلك وهي ترادف السبب ، الا انه قد ميز بينها و بين السبب فقيل ان السبب ( معنى ظاهر منضبط ، جعله الشارع إمارة للحكم )   ،  وقيد بعضهم السبب بما ليس بينه وبين المسبب مناسبة ظاهرة ،  وقيل إن كان يعقل وجه كونه مظنة لتحقيق الحكمة يسمى علة الحكم ، وإن كان لا يعقل وجه هذا الارتباط يسمى سبب الحكم  . الا ان كل ذلك من دون مستند عرفي او شرعي  و ليس فيه كثير ثمرة  .
تنبيه (2) :  عرفت ان علة الحكم تارة يراد بها علة التشريع و الحكمة و المصلحة وهي امر معرفي اعتقادي و يسمى التعليل بها ( تعليل الحكم الكلامي و اسميناه العقدي ) و اخرى يراد بها العلة الحكمية و يسمى التعليل بها ( تعليل الحكم الاصولي   و اسميناه الفقهي ) . وحكمة التشريع هي بصورة اجمالية المصلحة أو المفسدة التي تترتّب على متعلّق الحكم وقيل انها ( المصلحة المقصودة للشارع من تشريع الحكم  ) ، و قد توصف ايضا بالداعي الى الحكم .اما العلة فقد عرفت انها مناط الحكم .

فصل : اصولية و لفظية مسالة التعليل

   مع  ان التعليل و علة الاحكام بحث علميا  لبيان علة الحكم معرفيا الا  للتعليل فائدة مهمة عملية هي استنباط الاحكام بصور مختلفة اهمها التعميم على المشتركات بالعلة و بيان مدى موضوعية ما يبدو موضوعا للحكم المنصوص العلة .  و لكبروية علة الحكم الفقهية  في عملية الاستنباط فانها مسألة اصولية بامتياز ، اذ من الواضح ان التعليل في الاحكام له مصاديق مختلفة متباينة  . و من الظاهر التسالم بين المحققين على اصولية مسالة التعليل .  قال في الروضة البهية (ويدخل في أصول الفقه معرفة أحوالها (اي الاخبار) عند التعارض وكثير من أحكامها - الى ان قال - ودلالة العقل من الاستصحاب والبراء ة الاصلية وغيرهما داخلة في الاصول، وكذا معرفة ما يحتج به من القياس( قال في الهامش المراد من القياس الذي يحتج به: هي العلة المنصوصة المعبر عنها (بالقياس المنصوص العلة).وهو تام . وقال في الرياض ( فإن العلة المنصوصة يتعدى بها إلى ما عدا موردها وإن اختصت به الإضافة، على الأشهر الأظهر بين الطائفة، كما حقق مستقصى في الكتب الاصولية، مضافا الى التصريح بالكلية ) . و في كشف اللثام (  ويمكن التعلق بالافتاء معرفة تسعة اشياء الكتاب والسنة – الى ان قال -  والقياس مع الاشتراك في العلة المنصوصة ومفهومي الموافقة والمخالفة ونحو ذلك ولسان العرب   )
من الظاهر  ان اهمية العلة المنصوصة في مبحث علة الاحكام الفقيهة ،و تركيز ابحاث استفادة الفوائد الاستنباطية من تعدية الحكم او تنقيح الموضوع تعتمد اساسا على المفاد الدلالي و البحث اللفظي لها ، من هنا فان مسالة علة الحكم مسألة لفظية . .

فصل :  فائدة مسألة التعليل
قد بينا ان من اهم فوائد بحث التعليل و علة الحكم انها تصحح تعديته الى ما يشترك معه بها ، و انها تفيد في تنقيح موضوعه  .  و في الاخير هي جزء من عملية ( تنقيح الموضوع ) ، اما في الاول أي تعدية الحكم الى المشترك بها فقد يطلق عليه بشكل عام و مطلق ب( القياس ) وهو غير جيد لان من القياس ما لا احراز فيه للعلة الفقهية  . لذلك يكون من الجيد وصف عملية تعدية الحكم الى المشترك معه بالعلة بعملية ( تعدية الحكم ) .من هنا تكون اهم فوائد مبحث التعليل هو تنقيح الموضوع و تعدية الحكم .

فصل أقسام علة الحكم
  
قسمت علة الحكم الى منصوصة و مستنبطة ، لكن لو اخذ  احراز العلة في تحقيقها وكون العلة غير المحرزة كما العدم ، فانه لا يبقى وجه لهذا التقسيم ، و تكون علة الحكم مقتصرة على المنصوصة  ، اما غيرها من مستنبطة فغير محرزة بحكم العدم  . بل ان هذا التقسيم   بلا فائدة مطلقا  لاعتبار احراز العلة في حجيتها ، ولا احراز للعلة في غير المنصوصة  قال في انوار الاصول (إن كان استنباط العلّة استنباطاً ظنّياً فحجّيته أوّل الكلام، والأصل عدمها، وإن كان قطعيّاً فلا إشكال في حجّيته لأنّه حينئذ إمّا أن يكون من قبيل إلغاء الخصوصيّة وتنقيح المناط أو من قبيل المفهوم الموافق أو المستقلاّت العقليّة، ولكنّها بأسرها خارجة عن محلّ النزاع ) .

تنبيه (1)  قال في أنوار الاصول  (  تقسيم مفهوم الموافقة إلى الأولويّة والمساواة لا يكون تامّاً لأنّ منصوص العلّة في المساواة لا ينطبق عليه تعريف المفهوم، لأنّ المفهوم هو حكم غير مذكور . وقال   ( يكون النظر في القياس المستنبط العلّة إلى علّة الحكم، بينما هو في تنقيح المناط يكون إلى موضوع الحكم، والفرق بين الموضوع والعلّة واضح حيث إنّ الموضوع هو عنوان مشتمل على جميع ما له دخل في تنجّز التكليف وفعليّته كعنوان المستطيع في وجوب الحجّ، وأمّا العلّة فإنّها داخلة في سلسلة المبادىء والأغراض ) .

تنبيه (2)  قيل بالعلة المستنبطة حينما لا تكون العلة منصوصة ، و قالوا بطرق للتوصل اليها . منها المناسبة وهي الملائم لافعال العقلاء في العادات و منها  المؤثر وهو الوصف المؤثر في جنس الحكم  و منها الشبه وهو الوصف المستلزم للمناسب و منها طريقة السبر والتقسيم بأن يقال : لابد للحكم من علة ، والوصف الفلاني لا يصلح لذلك ، وكذلك الوصف الفلاني ، فبقي الثالث،  و منها الطرد وهو : أن يكون الوصف الذي ليس بمناسب  و لا مستلزم له ، لا يتخلف الحكم عنه في جميع الصور  . و كلها كما ترى اذ لا احراز للعلة معها  كما هو ظاهر . قال  المظفر في اصول الفقه (ان القياس نوع من ( التمثيل ) المصطلح عليه في المنطق   وقلنا هناك : ان التمثيل من الادلة التي لا تفيد الا الاحتمال ، لانه ل ايلزم من تشابه شيئين في أمر ، بل في عدة أمور ، ان يتشابها من جميع الوجوه والخصوصيات . نعم ، اذا قويت وجوه الشبه بين الاصل والفرع وتعددت ، يقوى في النفس الاحتمال حتى يكون ظنا ويقرب من اليقين . والقيافة من هذا الباب . ولكن كل ذلك لا يغني عن الحق شيئا .  ) و قال في بيان تعذر احراز العلة استنباطيا  (   ان ملاكات الاحكام لا مسرح للعقول ، أو لامجال للنظر العقلي فيها ، فلا تعلم الامن طريق السماع من مبلغ الاحكام الذي نصبه الله تعالى مبلغا وهاديا . والغرض من كون الملاكات لا مسرح للعقول فيها أن أصل تعليل الحكم بالملاك لا يعرف الامن طريق السماع لانه أمر توقيفي.)
 و صرح صاحب المعالم   بعدم حجية المستنبطة   حيث قال (   أصل القياس هو الحكم على معلوم بمثل الحكم الثابت لمعلوم آخر ، .  لاشتراكهما في علة الحكم . فموضع الحكم الثابت يسمى أصلا ، وموضع الآخر يسمى فرعا ، والمشترك جامعا وعلة .  وهي  إما مستنبطة أو منصوصة . وقد أطبق أصحابنا على منع العمل بالمستنبطة   إلا من شذ . وحكى إجماعهم فيه غير واحد منهم ، وتواتر   الاخبار بانكاره عن أهل البيت عليهم السلام . و بالجملة فمنعه يعد في ضروريات المذهب .  و قال في انوار الاصول (أنّ القياس الظنّي لا دليل على حجّيته بل قام الدليل على عدم الحجيّة، وهو الذي وقع النزاع فيه بين العامّة والخاصّة بل بين العامّة أنفسهم.   و أنّ القياس القطعي حجّة سواءً سمّي قياساً أو لم يسمّ، وهو إمّا راجع إلى قياس الأولويّة، أو قياس المنصوص العلّة، أو تنقيح المناط، أو المستقلاّت العقليّة وشبهها.)


 فصل : طرق تحصيل العلة المنصوصة
قد عرفت ان التعليل بالعلة المنصوصة مسألة أصولية لفظية ، و لا يظهر من الشرع تخصيص في هذا الشأن، فيكون طريق تحصيل جارٍ وفق طريقة العقلاء في الاستفادات اللفظية .و بحسب العرف يكفي   الظهور في الحراز ،  و كفايته واضحة في كلمات الكثيرين .  قال في المدارك (ردا لاستدلال )   ويمكن المناقشة في هذه الاولوية ، أما أولا فلعدم ظهور علة الحكم في الاصل التي هي مناط هذا الاستدلال ) .انتهى  .وفيها تصريح باعتبار الظهور فيها . و في الجوهر (  إلا أنه قد يشكل مضافا إلى ما يظهر من بعض الاخبار  من كون علة الحكم حرمة ونجاسة الاسكار ، وأن كلما عاقبته الخمر فهو خمر) فان الاستدلال بظهور الاخبار في العلة ظاهر .   و في مشارق الشموس ( في استدلال ) و وجه الاقرب ظهور اشتراك علة الحكم  ) و فيه ايضا (وما ذكره العلامة من اختصاص الذكر بالحباء ففيه أنه لا يفهم من الاخبار أنه علة الحكم وإن كانت مناسبة   ) فانه ظاهر في اعتماد الفهم العرفي و الظهور فيه .بل قد صرح في المكاسب المحرمة بعرفية ذلك حيث قال (  لكن يمكن ان يقال: الاشتراء لدفع المضار أو جلب منافع مشروعة غير كامنة في نفس المتعلقات داخل فيها بالغاء الخصوصية أو فهم العرف علة الحكم) انتهى .
و لا بد ان يكون الظهور بحيث لا يقبل الاحتمال و لا يكون في مجال الظن قال في المسالك (وهل يلحق بها أمة العنين والمجبوب والصغير الذي لا يمكن في حقه الوطء نظر، من المشاركة فيما ظن أنه علة الحكم وهو الامن من الوطء، ومن أنه قياس. والمناسب للاصول الشرعية عدم اللحاق. ) انتهى  ، بل  انه عُبّر اعتبارالعلم بالعلة و الظاهر ارادة ما تقدم  من ارادة العلم العرفي و ما يعتبر فيه لا القطع  ففي المستند (   والثاني: بمنع الفحوى، لانها إنما هي إذا علمت علة الحكم في صورة الشك، وهي غير معلومة، فلعله لخصوصية الشك فيه مدخلية  )  انتهى  .    

تنبيه (1) :    يميز الوصف الذي تعلق به الحكم بعملية تنقيح المناط بحيث لا يزداد عليه ولا ينقص منه ، كأن  يكون الشارع قد نص على الحكم في عين معينة وقد علم بالنص والإجماع أن الحكم لا يختص بها بل يتناولها وغيرها فيحتاج أن ينقح مناط الحكم .


حجية العلة المنصوصة
قال في المعالم  : وأما المنصوصة : ففي العمل بها خلاف بينهم .   فظاهر المرتضى  رضي الله المنع منه أيضا . وقال المحقق رحمه الله : اذا نص الشرع على العلة وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم جاز تعدية الحكم . وكان ذلك برهانا . وقال العلامة  : الاقوى عندي أن العلة إذا كانت منصوصة وعلم وجودها  لذلك : بأن الاحكام الشرعية تابعة للمصالح الخفية والشرع كاشف عنها . فاذا نص على العلة عرفنا  أنها الباعثة والموجبة لذلك  لحكم . فاين وجدت وجب وجود المعلول  ثم حكى عن المانعين الاحتجاج بأن قول الشارع ( : حرمت الخمر لكونها مسكرة ) يحتمل أن تكون العلة هي الاسكار ، وأن يكون إسكار  الخمر بحيث يكون قيد الاضافة إلى الخمر معتبرا في العلة . وإذا احتمل الامران  لم يجز القياس .  وأجاب : بالمنع من احتمال اعتبار القيد في العلة ، فان تجويز ذلك يستلزم   تجويز   مثله في العقليات – الى ان قال - سلمنا إمكان كون القيد  معتبرا في الجملة ، لكن العرف يسقط هذا القيد عن درجة الاعتبار . – الى ان قال-  سلمنا : عدم ظهور إلغاء القيد ، لكن دليلكم إنما يتمشى فيما اذا قال الشارع (: حرمت الخمر لكونه مسكرا ) .أما لو قال ( علة حرمة الخمر هي الاسكار ) انتفى ذلك الاحتمال . -  الى ان قال -  (والتحقيق في هذا الباب أن يقال : النزاع هنا لفظي ، لان المانع إنما منع من التعدية ، لان قوله ( حرمت الخمر لكونه مسكرا ) محتمل لان يكون في تقدير التعليل بالاسكار المختص بالخمر فلا يعم ، وأن يكون في تقدير التعليل بمطلق الاسكار فيعم ، والمثبت يسلم أن التعليل بالاسكار المختص بالخمر غير عام ، وأن التعليل بالمطلق   يعم . فظهر أنهم متفقون على ذلك . و  قال في المعالم    أن المتبادر من العلة   حيث يشهد الحال بانسلاخ الخصوصية منها تعلق الحكم بها ، لا بيان الداعى او وجه   المصلحة .

فصل شروط تعدية الحكم منصوص العلة
 لا بد من احراز امور لأجل تعدية الحكم منصوص العلة الى غيره  :-
الاول : ان يكون الدليل ظاهرا فيها .
قد عرفت اعتبار ذلك ، فلا بد ان يكون الدليل ظاهرا في العلة المنصوصة و ان لا يتطرق اليها الاحتمال ، و كل ما هو غير ظاهر يكون بحكم عدم التنصيص لان العلة المنصوصة ظاهرة لفظية .

الثاني :  ان تكون العلة تامة للحكم  .
قال المحقق رحمه الله : اذا نص الشرع على العلة وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم جاز تعدية الحكم . وكان ذلك برهانا ، و قال في اصول الفقه :   اذا ورد نص من قبل الشارع في بيان علة الحكم في المقيس عليه فانه يصح الاكتفاء به في تعدية الحكم إلى المقيس بشرطين ( : الاول ) ان نعلم بان العلة المنصوصة تامة يدور معها الحكم اينما دارت .
تنبيه (1)  : من تنقيحات العلية التامة هو احراز عدم مدخلية المتعلق الاول في الحكم
قال في الذخيرة   (  التحقيق فى العلة المنصوصة ان الحكم يتعدى الى كل موضع يوجد فيه العلة اذا شهد الحال والقرائن على ان خصوص متعلقها الاول لامدخل له فى الحكم لامطلقا  )
تنبيه ( 2) :   مع ظهور العلة المنصوصة  لا عبرة باحتمال مدخلية غيرها  . قال الاشتياني في القضاء  ( بل هو ما عرفت من ظهور العلة المنصوصة ومعه لامجال للاعتناء بساير الاحتمالات )


الثالث : وجود العلة في المعدّى اليه .


قال في المسالك  ( وذلك يوجب التعدي إلى ما توجد فيه العلة المنصوصة  ) . و قال في الجواهر (وذلك يوجب التعدي إلى ما توجد فيه العلة المنصوصة ) . و قال في الحدائق ( وقد عرفت مما تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني أن العمل بالعلة المنصوصة يقتضي وجود تلك العلة في المعدى إليه ) . و قال في اصول الفقه (  اذا ورد نص من قبل الشارع في بيان علة الحكم في المقيس عليه فانه يصح الاكتفاء به في تعدية الحكم إلى المقيس بشرطين – الى ان قال - و ( الثاني ) أن نعلم بوجودها في المقيس .  
تنبيه (1) : ان التعدية بالاشتراك يسلك مسلك العموم فتكون العلة بصورة العام للاصل و المعدى اليه ، و ربما يعتبرالبعض العموم في العلة وهو تام و يرجع الى هذا الشرط . و من هنا فالعلة باعتبارها عموما او سلوكها مسلك العام تجري عليها احكامه من تخصيص و نحوه بحسب التفصيل الذي يبحث في مبحث العام فلا موجب لبحث تخصيصها مستقلا .








كرنفال شمسي







قصيدة متعددة الاصوات بوليفونية ، ثلاثية الابعاد  




هنا القلوب حارّة مستعرة كأزهارها النارية . لطالما حدّثتني عن روحها الذائبة في عشق الظهيرة السمراء و عن الحرية النضرة و هي تمشط شعرها الناري و سط هتافات الجماهير الملتهبة ، حتى الفتيات هناك في جزيرة الشمس لهنّ لافتة وصوت . حينما تمرّ من ركنهن الملتهب تعرف انك في جزيرة الشمس . على بعد امتار نارية من الطاولة الملتهبة التي نجلس حولها كان هناك لاعب ماهر   جذاب ، يجيد اشعال الحرائق ، لذلك فهم يتهافتون عليه كالجراد .يا لحبّهم الكبير للنار و الحياة المحروقة . الغريب وان لم يكن غريبا جدا انّي رأيت لسانه و يديه مشدودة بحبال خفية الى كوكب الثلج ، حيث مجموعات ثلجية ضخمة ليس لهم شغل سوى تحريك هذا اللاعب الحارق و اشعال الحرائق هنا . لقد رأيت دماءهم الباردة  و قهقهاتهم المنتشية كلما اشتعل حريق في جزيرتنا الشمسية . فجأءة رأيت من حولي من الشمسيين يهرولون مسرعين  فرحين ، و الأطفال ينادون : مرحى مرحى ، لقد حان موعد اشعال جديد .

التمر العظيم










كان الوقت فجرا ،  أنت تعرف في الفجر يكون للنخل طعم آخر  .  حينها لم أميّز ألوان السعف عن وجه مرّ للسراب . كانت السماء تمطر . المطر هنا في مدينتي فقد عذريته ، ما عاد جذابا ، لقد أضاع  بدلته التي اشتريتها له قبل الغروب . أنظر الى  يدي انها فارغة.  لقد وضعوا المطر في سلال  قاسية و أخذوه الى هناك ، بعيدا عنا . أنظر الى النخل ، هناك ما عاد بلونه الفتّان . أظنك تحبّ النخل مثلي ، و تحبّ التمر ، من منّا لا يحبه . نحن أبناء التمر ، اليوم أصبحنا حفاة .  حينما نتسامر يخبرني صديقي يقول : كانت  أمي تحكي لنا عن شيء اسمه التمر ، يقال أنه أكبر من الشمس له عيون عسلية . كان يجلس في حدائقنا و يبتسم . ليس الغريب انه يجلس هناك وهو بذلك الحجم العظيم . الغريب أنّ أمي  تقول أنها  كانت تحمله بين يديها ، يا لأمّي العظيمة .

ثبوت الهلال و الشهر القمري




قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) و من ظاهر الادلة و عموم النصوص و الاحكام الشرعية ان الهلال علامة للشهر القمري ، فلا موضوعية لا فيه و لا في رؤيته في الاحكام ، و انما هو و رؤيته طريق لمعرفة الوقت من اشهر و ايام . لذلك فان الشهر القمري كما يثبت بالهلال فانه يثبت بكل معرفة موجبة لذلك عرفا كاتمام ثلاثين يوما.
و الشهر معروف عرفا ،و في مثله يخضع للتعريف العلمي بلا ريب لأنّه من الظواهر الطبيعية و له مقادير و معارف علمية  ، و من المعلوم ان هناك فرقا زمنيا بين ولادة هلال الشهر  و امكان رؤيته و لقد ثبت التخصيص الشرعي فيه باعتماد امكانية الرؤية و عدم كفاية الولادة مع عدمها . من هنا يمكن القول بان هناك شهرا قمريا فلكيا يعتمد ولادة الهلال  لا تتعلق به الاحكام و شهرا قمريا شرعيا يعتمد امكانية رؤيته به تتعلق الاحكام .
واما القول باعتماد وقت الولادة لا الرؤية فربما يبتنى على طريقية الرؤية و انها كانت المتوفر من علامات لمعرفة الشهر في وقتها و ليس الحال الان كذلك وان العبرة بالشهر و الوقت و ليس في الرؤية  . و فيه ان من الواضح ان الهلال و رؤيته علامة و طريقا على الوقت و الشهر ،لكن من المعلوم ان الرؤية يقابلها عمر و وضع خاص للقمر لا ينطبق على الولادة و بهذا فان طريقية الرؤية تكشف عن العنصر الواقعي المحدد للشهر وهو العمر و الوضع الخاص بالقمر الذي تمكن معه الرؤية . من هنا فان اعتبار عمر معين و وضع معين للقمر تمكن من الرؤية ليس لان للرؤية موضوعية و انما لان امكان الرؤية والتي هي طريق لا تتحقق الا بتحقق حالة خاصة للقمر تختلف قطعا عن وقت الولادة .
هذا و ان في الحسابات الفلكية عوامل وحسابات و شروطا دقيقة لا تقبل الخطأ تتدخل في امكانية الرؤية ،اهمها عمر القمر و مكثه و استطالته و درجته عن الافق ،مما يمكن من تحديد ساعة امكان الرؤية و مكانها لعشرات السنين من دون خطأ وهذه حقيقة راسخة من غير الموضوعي التشكيك بها .
و لأجل القطع الحاصل بالحساب الفلكي في تحديد وقت و مكان امكانية الرؤية فلا ريب في صحة اعتماده  ،بل يكون الاعتماد عليه واجبا   و لا يعارضه المعارف الظنية . ومع ان الشهر القمري في واقعه ليس له ايام عرفا الا ان مطابقته على الايام الشمسة مكن من حساب ايامه بما هو معروف بدلالتها ،و يبدأ اليوم القمري العرفي الاول من الشهر بالفجر المسبوق برؤية الهلال في ليلته بعد الغروب ، وبهذا الوقت تتعلق الاحكام الشرعية .
من هنا يتبين ان لأهل الارض كلهم لحظة واحدة لثبوت الهلال بامكان الرؤية لكن يختلفون في الموافقة الشرعية حسب الوقت الشمسي المعتبر فيه ان يكون بالامكان رؤيته بعد غروب الشمس ، و لا يمتنع ان يختلف بلدان متباعدان جدا في  اليوم الشمسي الموافق لاول يوم قمري ،بان يثبت الهلال في بلد بالحساب و يثبت عدمه في بلد شرقه و بينهما دورة للشمس تتجاوز الليلة الواحدة  فيكون البلد الغربي متقدما بيوم على البلد الشرقي بحسب المطابق الشمسي و اما بحسب الواقع القمري فانه ليس الا يوم واحد .
لذلك يمكن حمل الروايات الظاهرة في وحدة يوم العيد على اليوم القمري الذي هو واحد لكل اهل الارض و ان امكن اختلاف بلدين في اليوم الشمسي الموافق له لما بينا.

فالخلاصة ان قول اهل الفلك ليس حجة فقط في اثبات الهلال و امكان رؤيته بل انه حجة قطعية مقدمة على غيرها من العلامات و يمكن بواسطتها تحديد بدايات الاشهر القمرية الشرعية لكل بقعة في الارض و لعشرات السنين القادمة ، و لا يبقى وجه لاعتماد ما يثير الاختلاف و ما يعتمد الظن. كما ان المعتبر شرعا هو وقت امكانية الرؤية لا وقت الولادة لتعلق الاحكام بالاول لا الثاني .




المعادل الجمالي في مجموعة ( وحيدا دون العصور ) للشاعر عباس باني المالكي







لقد بينا في مواضع عدة ان الظاهرة الجمالية معقدة و ليست بسيطة ، اذ ان لكل تعبير ادبي  مستويات ابهار و ادهاش عدة ، تتكشف و تتجلى جميعها في آن واحد اثناء القراءة على مدى ذهني عريض يشمل الوعي و اللاوعي . اهم تلك المستويات مستوى المعادل الجمالي الظاهري و مستوى العامل الجمالي العميق و مستوى الاستجابة الجمالية في نفس القارئ ، و في كل جهة من تلك الجهات يمكن بلوغ درجات عالية من المعيارية و الضبط و الانتزاع الكلي حسب ادوات النقد التعبيري و الاسلوبية التعبيرية .
( وحيدا دون العصور ) مجموعة شعرية للشاعر و الناقد العراقي عباس باني المالكي صاحب المؤلفات التي تجاوزت خمسة عشر مطبوعا في شتى الصنوف الادبية . تشتمل المجموعة على ما يقارب ( 300) نصا قصيرا مع نصين متوسطين ، بلغة هادئة عميقة تعتمد عمق التعبير و المعنى ، محققة مستويات عالية من التجلي للمعادلات و العوامل الجمالية .
ان المعادل الجمالي هو العنصر الاسلوبي التعبيري في العمل الفني  الذي يحقق الاثارة و الابهار بما له من تفرد و تميز يميز العمل  الفني عن العادي ، وفي الادب هو المميز الاسلوبي الظاهري الذي يميز العمل الادبي عن غيره من عمل غير ادبي و يعطيه الفرادة و التميز عن عمل ادبي اخر.
 في مستويي المعادل الجمالي تجليات لأركان الكتابة المتمثلة بالمؤلف و اللغة و القارئ و النص ،تظهر في ملامح واضحة من عناصر المعادل الجمالي  .  من هنا و فيما يخص المعادل الجمالي فلدينا اربعة اشكال من المعادلات الجمالية :-
المعادل الجمالي التأليفي الرؤيوي
المعادل الجمالي اللغوي الانثيالي
المعادل الجمالي النصي الفني
المعادل الجمالي القراءاتي  التداولي

المعادل الجمالي التأليفي
 يعكس هذا المعادل تأثير و حضور المؤلف في النص ككيان واع له ارادة فردية و جماعية ، بالفردية تبرز التعبيرية و الرؤية الخاصة و بالجماعية يبرز ادب القضية و الاندماج النوعي و الرؤية العامة.
في نص (4)
(( هجر البلاد ...
 دفن رأسه في الغياب
ترملت أشجاره ...
سافر إلى الصحراء بحقيبة العطش ))
يتجلى هنا وعي المؤلف و الخلفية الجماعية في عصر الخيبات و الضياع ، حيث ظاهرة الهجرة من البلاد و الرغبة فيها ، و الميل تحو الغياب حتى من دون ارادته ،  حيث الترمل المستشري ، و اللاجدوى في كل خطوة .ونجد الرسالية  ايضا و تبني معاناة المجتمع و الجماعة في النص (7)
((الخليفة  لم يعد إنسانا
يعتقل الهواء في المدن
الأحلام  غادرت شهيق الذاكرة ))
انه صوت الامم المظلومة   تحت وطأة الدكتاتوريات المتسترة باسم الدين ، و التي تتلهم المكان و لا تدع شيئا حتى الهواء ، فتخلو النفوس من الآمال و الاحلام .
و في النص (10)
(قد تكون أنت القادم
قد أكون أنا..
قد تكونون أنتم
دون الانتباه إلى صمت البحر )
يتمثل هنا المؤلف صوت الانسانية و حكمة العقل البشري ، بان السماح لحصول شيء للغير يعني بلا ريب حصول يوما ما على غيره و على من سمح . انها دعوة ثورية لعدم السماح للظلم و لو على الغير لانه سيدور على الكل .
وهكذا في نصوص اخرى تتحدث عن الوطن و الحرب و الاحزان .

المعادل الجمالي اللغوي
يعكس هذا المعادل تأثير نظام اللغة العام و تجليه في النص ،من حيث الانسيابية و الترابط الانثيالي و التناغم . ومن هنا لدينا عناصر انثيالية و انسيابية و تناغمية.
في نص ( 5)
((أنتظر أن أتي الى أنا
روحي غادرت أجفان الدروب
الطرق مزدحمة بالسؤال
 ))
نجد هنا تجليا تناغميا للغة بحقول دلالية متقاربة ( فانتظر ، غادرت ، دروب ، الطرق ،مزدحمة ))  فانها تنقل القارئ الى عالم دلالي موغل في الرحيل و المغادرة . و هذا النص يحاكي غيره من النصوص كالنص السابق نص(4) الموغل في الرحيل ايضا . وهذا كله يدور في فلك الغربة و الوحدة الذي عنونة به المجموعة .
و في النص (9)
((أتدثر بالصمت
المدن تثرثر على جثة الوقت
 الساعات ذابلة  بظلال المكان
أراقب حتفي قبل قدوم الفصول ))
نجد اللغة بانثيالاتها تتجلى بتناسق حقلي معنوي دلالي بتعابير خاصة بها (( اندثر ، جثة ، ذابلة ، حتفي )) الفاظ من حقل الموت و النهاية و هي ايضا تحاكي و تقاب حقول المغادرة و الرحيل و الوحدة .
و كذلك يحضر الغياب في النص  (22)
تضيع الشموع في المساءات العمياء
حين يولد القمر وحيدا
في لجة الصمت...
 الليل خيمة الأحزان
فالفاظ ( تضيع ، العمياء ، وحيدا ، الصمت ، الاحزان) تصنع مزاجا و جوا نصيا  خاصا و تنقل القارئ الى حقل دلالي خاص ، يخيم عليه الحزن و الوحدة و الضياع ، وهو يحاكي و يتناغم مع غيره من النصوص .

المعادل الجمالي النصي
وهذا المعادل هو الذي تتجلى فيه مظاهر الفنية و الجمالية بشكل مجرد وحر ،و فيه يكون الفضاء الرحب للمهارة و الفرادة الفنية ، فكل الأسلوبيات الفنية و الجمالية الابداعية الخاصة بالنص و غير الموجودة في غيره و التي لا تعكس الا نفسها  هي من هذا المستوى ، لذا فهذا المستوى اكثر المستويات تجردا و حرية و التصاقا بالنص و فرادته  .
والمعادلات الجمالية هنا هي في  جهة الفنية او الجمالية ، فمن المعادلات الجمالية النصية الخاصة بالفنية نجد المعادل الجمال الشرطي وهو الحد الأدنى المطلوب للحكم بالفنية و المعادل الجمالي التجنيسي وهو العنصر الفني المطلوب لتجنيس العمل الادبي ومن اي جنس ادبي هو . و نجد المعادلات الجمالية الخاصة بالجمالية ومنها المعادلات الجمالية التقليدية و التي يبنى فيها النص وفق ما هو متعارف من تقنيات ابداعية كالمجاز مثلا
و منها المعادلات الجمالية الابتكارية وهي التقنيات الخاصة بالمؤلف او النص التي تعتبر تفردا و اضافة و تجديدا و غير مقلدة او محاكية لخارجه   ، و منها ايضا الكتابة القصدية في اسلوب خاص معين بحيث يكون المؤلف او النص تجليا قويا و متفردا لذلك الاسلوب .
في نصوص المجموعة تبرز الرمزية التعبيرية ، التي تطغى فيها رؤية المتكلم و تقدم العالم بالصورة الباطنية للمؤلف  ،  منها نصي (16 و17)
((
(16)

قالوا : لماذا تعشق
قلت :ولماذا الروح
تركتهم بلا جاذبية التفاح

(17)
دائما يتكلمون عن العشق
إلا يعرفون أنه بلا سمع
سوى شريان يحمل دم العاصفة ))

فالمؤلف يقدم نظرته و رؤيته في قبال الرؤية الخارجية ، و يبين بتعابير معبأة بالعاطفة و العمق  نظرته تجاه امور ، ناقلا معه الاحساس العميق بتلك الاشياء .

و يتجلى المجاز العالي و الانزياحية الكبيرة في النص (23)
(( حين تخرس أجنحة الفراشات
يضيع صوت الأزهار
تحت ظلال تكره المرايا  ))
فهنا تجاورات و اسنادات و تراكيب انزياحية عالية ، و تعابير مفتوحة الدلالة ، و رمزية تعبيرية عالية ، تبوح و تنقل الاحساس العميق ، و تحقق الابهار الجمالي .
و في فنية اخر تتقابل فيها التراكيب في نسيج تركيبي يقترب من انغام الهايكو  في النص (26)
(قلت : أحبك إلى الأبد
 قالت : سأنتظرك كل عمري
ألتفتت إلى الوراء
 لتحمل البحر بزنبيل المطر
 الغيم  في أول طفولته ..! )
فان عبارة ( الغيم في اول طفولته ) هي مقابل تركيبي مبين و مختزل لمضمون التراكيب السابقة عليه ، و كذلك في نص (32)
( الجنود الذين عسكروا  في الغبار
تاريخهم من حجر...
الحروب شهوة الطغاة ...!)
فان التفسيرية و البيانية في المقطع الاخير ، و الربط بينه و بين ما فوقه لم يكن بالشكل التركيبي البسيط ، بل كان بشكل الدمج  البياني .

و في لوحة انزياحية باهرة تتجسد قوة المجاز و عمقه و علوه التعبيري في النص (39)
(الذين تدلوا بأخر عناقيد وجعهم
بقوا يحرسون تساقط المطر
النهارات تجف من الغيم
أركض الى النهر ...  أسابق  ظل الماء ...!
 )
حيث ان المجاز  و الانزياح هنا على اكثر من مستوى تركيبي ، في صور سعرية عالية المستوى ، و توظيفات فنية رقيقة و موصلة لغاياتها . كما ان تعدد الوسائط الدلالية في عملية الفهم تحدث استجابة جمالية عميقة لدى القارئ حيث ان حالة التنقل الوسائطي و التجوال الفكري بين الدلالات يولد اللذة و الامتناع .

المعادل الجمالي القراءاتي
وهو يعكس حضور القارئ في عمليتي الكتابة و القراءة . يكون في الكتابة من خلال الوعي بالقارئ و ترسب المفاهيم التداولية ،و  في القراءة بأنظمة طلب الافادة و الفهم و التأثر.
ان التداولية و اللغة القريبة ظاهرة في اسلوبيات عباس باني  المالكي ، فهو دوما يسعى بامانة ان يوصل فكرته العميقة بالشعر العميق ، دون غموض او انغلاق رغم المجاز العالي و الانزباحات الشديدة
في نص (18)
(( تركت قلبي على حافة الموج
يوم رأيتها ...
 تغسل  ذاكرتها بماء المطر.))
مع ان النص مفتوح دلاليا و مع انه يتميز بانزياحات عالية و على مستويات متعددة من الاسناد الى الجملة الى الفقرة ، فان الشاعر وضع نقاط دلالة دلالية و توصيل تشير الى حضور وعي القارئ في الكتابة .
و قد رأيت في النص (39) المتقدم ، حيث الاستجابة الجمالية العميقة المتحقق بنص يشتمل على نظام دلالي معقد متعدد الوسائط يحقق حالة التجوال و التنقل الفكري بين حقول الدلالة و المعنى و الافادة و الفهم مما يولد شكلا مزخرفا و ملونا من الانظمة الدلالية محققا المتعة و الابهار .
وهذا النسيج الدلالي الملون و التجوال الفكري في حقول المعنى نجده ايضا في نص (55)
(الدليل الذي فقد خوذة الضوء
 صار سجانا عند  أبواب الفصول
 أبحث عن مناقير  العصافير
 لأصل الى قمح  النهار  ...! )

هكذا تشكلت في نصوص مجموعة ( وحيدا دون  العصور ) المعادلات الجمالية الفذة و العالية في نسيج مبهر و حالم و هادئ  و رسالي بأنامل شاعر يتكلم بلغة مخملية ناعمة هادفة .