لقاء مع صحيفة رراي اليوم

العولمة الثقافية و الموقف العربي

النقد الحاسوبي في مختبر ستانفورد الادبي من موت المؤلف الى موت النص


د انور غني 
مع قناعتي بوجوب ان يكون النقد الادبي اكثر علمية وصرامة و ان يبتعد عن الفردية و الشخصنة ، الا ان ذلك يجب ان ينطلق من فكرة ان النص الادبي هو ظاهرة فريدة متميزة على النقد الحاق بها ، و هذا التصور يعطي مركزية كبيرة للعمل الابداعي باعتباره ظاهرة انسانية متفردة . ان الوسيلة المثلى لذلك – اي للابتعاد عن الفردية و تحقيق الحيادية و الموضوعية- هو اعتماد منهج الاستقراء ، و المعارف العرفية و الوجدانية الجلية كاداة في التعامل مع النصوص .
فرانكو مورتي ( Franco Moretti ) بروفسور في الادب ، ايطالي المولد ولد سنة 1950 ، وهو الذي اوجد مختبر ستانفورد الادبي ( Stanford Literary Lab ). و صاحب كتاب ( القراءة عن بعد( Distant Reading 2013 )( ، الحائز على جائزه الكتاب الوطني لدائرة النقاد National Book Critics Circle (NBCC) Award ) و المترجم الى الان الى خمس عشرة لغة ، يبشر بالطريقة الكمية ( (quantative method في النقد الادبي المثيرة للجدل .
يعتمد مختبر ستانفورد الادبي على التحليل الحاسوبي للادب ، او النقد الحاسوبي (computational literary ) ، و الذي تدخل فيه اعمال ادبية متفرقة حسب الفترة او الطبيعة التي يراد دراستها ، و تدخل بيانات و مطاليب معينة و يتم الاحصاء ، و من ثم يتم استخراج العوامل المشتركة و مدى انتشار المعامل المعين في تلك النصوص .
يقول مورتي لا داعي لقراءة الكتب ، و لا النصوص ، بحجة اننا سنقرا حينها جزء صغيرا مقارنة بما هو موجود و سيكون هناك شيء كثير غير مقروء ، لذلك لا بد من اعتماد قراءة واحدة لمجموعة كبيرة من النصوص تصل الى المئات و الالاف ، و طبعا كلما يكون العدد اكبر يكون التحليل اكثر واقعية كما هو معلوم للعاملين في العلوم التطبيقية و الاحصاء .
ان من اهم مساوئ هذا النهج امور : اولها الغاء النص تماما ،بحيث لا حاجة لقراءته اصلا و لا التعرف عليه و لا على كاتبه و لا يكون سوى بيئة لما يبحث عنه احصائيا . ثانيها الغاء عملية القراءة الفردية نفسها و استعمال طريقة حاسوبية لاكتشاف الحقائق الادبية ، و ثالثها تحقيق تبعية للحاسوب و الاحصاء في تبين الحقائق . طبعا ستكون المجادلة ان هذا العمل مختص بالنقاد كنقاد و محترفين و ليس كقراء ، اذ لا علاقة لذلك بعملية القراءة ، وهذا تصور خاطئ لان العملية النقدية تدعي تعيين الجماليات و الحقائق ، لذلك فان القراءة دوما تكون تابعا لها بل ان الثقافة كلها تكون تابعة للنقد ، كما ان هذا الجواب لا يجب عن حقيقة موت النص ، حينما لا يكون معروفا الا للحاسوب ولا حاجة للناقد ان يقراه او ان يتعرف عليه .
ما اريد ان اقوله ان هذا المشهد يكشف مدى التجريبية في نظريات و تطبيقات المؤسسات الغريبة ، مما يدعو الى عدم التسرع في التبعية لهم ، فمن موضة الالسنية و البنيوية و التفكيكية ثم الى النقد الثقافي و النقد الرقمي و الان النقد الحاسوبي وغير ذلك ، و كل ذلك انما ناتج عن الروح التجريبية الطاغية عند الغرب ، ان هذا يدعو ايضا الى ان نراجع عرفنا و وجداننا و ثقافتنا و ننهض بمشروع عربي اصيل في النقد و الادب ينبثق من الروح الثقافية التي عندنا و لا باس بمخالطة الاخرين و الاستفادة منهم لكن لا تقليدهم و تقدسيهم .

( لماذا يجب ان نقرأ الكتب )


من موقع واي تو ريد ( لماذا نقرأ) whytoread
ترجمة د انور غني 
هنا عشرة اسباب تجعلنا نقرأ
1- لتطوير قدراتك اللفظية
بالرغم من ان القراءة لا تجعلك افضل المتحدثين ، الا انها توفر رصيدا لغويا يمكنك من التعبير عن افكرك بحرية و دقة .
2- تحسين التركيز
بخلاف قراءة المقالات و المنشورات ، فان قراءة الكتاب تجعلك اكثر تركيزا و اندماجا مع ما تقرا ، فيعزلك عن العالم الخارجي ، و مع الوقت تصبح اكثر تركيزا في جميع امور الحياة .
3- القراء يتمتعون بالفن و و يحسنون العالم
اثبتت دراسة ان من يقرأ كثيرا ، هم اكثر من غيرهم ، في حضور الفعاليات الثقافية و المشاركة في الاحداث الاجتماعية و لهم تأثير نشط فيما يدور حو لهم .
4- القراء تحسن تصوراتك و مخيلتك
الانسان محدد بما يستطيع من تصورات ، و الكم الكبير من الافكار و التصورات التي في الكتب توسع مدراك الانسان و تصوراته .
5- القراءة تجعلك اذكى
القراءة تمثل عطاء قائم للتعلم و ارخص بكثير من حضور حصص دراسية ، الكتاب يجعلك تهضم مجموعة كبيرة من الابحاث في وقت قصير ، و اثبتت دراسة ان من يقرأ كثيرا يكون اقدر على تفسير الامور .
6- القراءة تجعلك انيقا و جذابا
القراءة الكثيرة و تكاثر المعلومات و تطور الذات تجعلك اقدر في المشاركة الفعالة الرصينة في الحوارات و اقدر على اضافة متعلقة بما يطرح من مواضيع .
7- القراءة تزيل التوتر و القلق
اثبتت دراسة ان عملية القراءة تهدئ الاعصاب و تزيل اثار التوتر و القلق .
8- القراءة تنشط الذاكرة
اثبتت دراسة ان القراءة توفر وقتا للفهم و الاستيعاب و التحليل بخلاف مشاهدة التفاز .و فائدة هذه النشاط انه يجعل ذاكرتك متوقدة .
9- القراءة تجعلك تكتشف ذاتك
يقول هارولد بلووم يجب علينا ان نقرأ بتمعن ، لتوسعة مداركنا ، و مخيلتنا ، ان الكتب تعطينا كما هائلا من التجارب ، و التي تعطينا فرصة بان نكون اكثر خبرة في امور لم نجربها .
10- المتعة
من كل ما سبق فان القراءة توفر لنا متعة متميزة ، انها ليست مرح فقط كما في مشاهدة التلفاز ، بل انها توسعة في المدارك ممتعة .

قانون الابداع




د انور غني الموسوي  

لقد ادى الخلط الشائع بين الفنية و الجمالية الى تدني في مستويات الابداع . اذ ليس اي منهما هو الابداع  ، و رغم اشتراكهما في بعض العناصر الا ان التمييز بينهما مهم جدا لأجل الحفاظ على درجات متطورة من الابداع .
 ان الفنية عملية تقنية و صنعة و لها متطلبات معهودة او محافظة و الاقرار بتحقق فنية جديدة يحتاج الى وعي نوعي ،  بينما الجمالية   ظاهرة انسانية تتميز بالفردية العالية . , اذا  استدعى  الوجود او الانجاز الجمالي الى احداث تجديد فني فانا نكون اما لغة عبقرية تجديدية .

الابداع ليس الفنية وحدها و لا الجمالية وحدها ، بل هو محصلة تفاعلية بينهما اضافة الى عامل ثالث هو الرسالية . ان العملية الابداعية  في حقيقتها تفاعل تشكيلي بين ما يلبي الوعي النوعي اي الفنية و ما يلبي الوعي الفردي اي الجمالية ، ولها شكلان العملية الابداعية القوية و التي يكون فيها تكامل في الجهتين اقصد الجمالية و الفنية و العملية الابداعية الضعيفة  و التي يكون فبها اعلاء لاحد الجهتين على حساب الاخرى .  وكلا الشكلين موجود ومن الشكل الاول الابداع العالي  او قمم الابداع و الذي تبلع فيه الفنية و الجمالية مستويات عالية و كذلك منه الابداع العبقري المحقق للتجديد .
اما الابداع الضعيف فانه شكل من اشكال التطرف و هو اما ان  يركز على التقنية و الحرفية مع ضعف الجمالية او  يميل نحو التجريب مع ضعف في الفنية .
من الاول مثلا العمل عالي التقنية و غير المحقق للجمالية المعتبرة، وهذ بفعل الانظمة المحافظة قد يكون الواجهة الرسمية و الاكاديمية للفن المعين ، و من الشكال الثاني  لغة التجريد المنغلق ، و الذي قد يبلغ درجات من التخلي عن لغوية اللغة حتى نصل الى لغة اللامعنى ، كل ذلك بحجة الجمالية  .  في الحقيقة  بخلاف الفن التشكيلي الذي تكون المجانية و التجريدية متأصلة فيه فان ادعاء تحقيق لغة تجريدية امر يصطدم بكثير من الحقائق الوجدانية .
اذن ليس تغليب الفنية و الانجاز النوعي  على الجمالية و الانجاز الفردي صحيحا ولا العكس هو الصحيح ، بل ان من تلك الممارسات ما يخرج بالكلية عن عملية الابداع . الابداع الحق هو المتجه نحو كمالية في الفنية و الجمالية ، والارفع من ذلك هو الابداع العالي المحقق لمستويات عالية منهما حتى يصل الى العبقرية التجديدية الاصيلة .
بمعنى اخر ان الابداع  يتناسب   مع مقدار الفنية و الجمالية و الرسالية  .


العنصر الاول : الفنية 
عناصر الفنية اما ان ترجع الى الاصالة او الى المعاصرة   و الاصالة  تكون بتوفير المتطلبات المطلوبة او ما نسميه الشرط الفني و الى الاتقان  ، و الشرط يشتمل على التعريف و البحث في توفر متطلباته  ،  و المعاصرة تتناسب مع الابتكار المتمثل بما يتميز به النص من ابداع فني متفرد و  الاقناع و هو اخراج العمل الفني بمكوناته الفنية و الابتكارية بصورة متسقة سلسة .


العنصر الثاني الجمالية 

الجمالية في أي عمل فني ترجع الى نظام التكامل بين البوح و التجريد  .
البوح يرتكز على التعبير  و التجربة  حيث تتجلى بالرؤية و الموقف  و بالاسلوب ومنه العنونة  و التصوير و النسيج  و بالقاموس اللفظي و المعنوي  .التعبير اما مباشر توصيلي  او رمزي او ايحائي او تجلياتي ، و التعبير ايضا ينحو الى تجسيد المعاني او التجلي بعملية التوظيف و اعتماد التاريخ الخارجي ، و ايضا بصناعة تاريخ داخلي للمعنى . فلدينا في محث التعبير اصناف التعبير من توصيلي و رمزي و ايحائي و انظمة التعبير من تجليات و توظيف و تاريخ داخلي .
 و التجريد يتحقق بالخيال و الامتاع  ، و الخيال اما شكلي بتجلي  اللغة  من وظيفية ( المنطقية ) الى لامنطقية ( التجريد ) الى لاوظيفية  ( التجريد العالي )  او معنوي و هو   اما قريب  او بعيد  او غامض، و الامتاع اما ان يكون باستجابة شعورية ظاهرية ( الهزة ) او بالاستجابة الشعورية العميقة ( الابهار ) او بكليهما .


العنصر الثالث : الرسالية 

الرسالية مهمة جدا في قيمة العمل الفني ، و التخلي عنها يجعل العمل خاويا و بلا روح . رسالية العمل الفني  اما ان تكون بالرسالة الجمالية او الجماهيري ،  و الاولى تتناسب مع  الرؤية  و الابتكار  و الثانية تتناسب مع التعاونية أي التركيز على المتلقي  و  درجة التمثيل  للانتماء و الموقف من شخصي او اممي او انساني او كوني .






من الشك التفكيكي الى اليقين التجلياتي

 من الظاهر لكل متابع لما تطرحه فكرة القراءة التفكيكية ،لا يجدها الا عبارة عن تكلفات و افتعالات  و اوهام ، التي لو سئل عنها كاتب النص الاصلي فضلا عن غيره لما استطاع ان يتيقن وجود ما قيل في نصه من قبل الناقد التفكيكي ، ان انطلاق التفكيكية من فكرة الشك و  عدم التصريح و تاجيل البوح و ان النص يخون مؤلفه و غيرها من الابتعادات عن الفطرة و السلوك السوي للانسان القصدي ،ما هو الا سير في الظلام  دون هدى ،  ان هذا الانحطاط في القراءة و التلقي اسبابه مفهومة و هو نابع من الانحطاط العام في الاخلاقيات العالمية و سيادة النفاق و الكذب و الخيانة و الوهم ، اذ لا ريب انا نعيش في عالم منافق و خائن يقول ما لا يفعل و يفعل ما لا يقول ، لكن هذا لا يعني ان  ان كل خطاب  يكون قد بني على النفاق و الخيانة.
ان ادعاء وجود دلالات و بوح و اشارات مغاير لقصد الكاتب و على الضد من  قصده نتجت بلاوعي  رغما عنه و غير ذلك من الادعاءات و راء ما يمكن تلقيه على خلاف الظاهر الذي يفهمه  المتلقي على اختلاف مستوياته ، و غير مرتبط بقصد الكاتب  هو ادعاء لا يصدقه الواقع بل و يكذبه . و من الغريب ان هناك من يريد ان يقنعانا ان الانسان مهما كان صادقا فانه بلاوعي يكذب و ينافق و يقول غير ما نرى و نفهم و ان نصه يفضحه و انه ليس امامنا سوى الشك ،.طبعا لو سحب هذا الكلام على النصوص الدينية فانه سيحل الخراب في فهمنا لها و يحل الشك المريع في اليقين بالغيبيات و الذي هو من اهم ملامح التفكيكية . و مع ان  هذا الفهم الذي تتبناه هذه الحركة  ليس له واقعية فانه ايضا يعتمد على نزعة عدائية مستشرية عالميا تجعل من كل تلك الادعاءات مقبولة بسبب الواقع العالمي المنافق ، ان هكذا قراءة تجر العالم و الانسان الى مستويات اكثر كذبا و وهما و تؤسس و تشرعن لعدم الوفاء و لعدم الاخلاق.
كل ما تقدم مع اهميته المعرفية و الانسانية الا ان ما يخص النقد الادبي فان التفكيكية تمثل اعلى درجات اللاعلمية ، و تقدم النقد كعملية جمالية ، وهذا الفهم وان كان مغريا في ظاهره الا انه خلاف مقاصد النقد ، و من يصر على ذلك فليسمي هذا العمل بشيء اخر غير النقد . ان العملية و الواقعية و المصداقية و الحقائقية من الغايات المتاصل في النقد ، بل ان اسمه و مفهومه  قائمان على ذلك و مشتقان من تلك المفاهيم . هذا من جهة و من جهة اخرى فان  التفكيكية لا تقرتب ابدا من جماليات النص الابداعي ، فانها كما هي اختها البنوية لا تتجاوز حدود البوح بالصورة ، و لا تتفهم عمق الانظمة و الوجودات الفنية و الجمالية  المتجاوزة لذلك المجال  ، و طبعا سبب ذلك مفهوم لان اصل تلك الحركات   لغوي متاصل فيها المطالبة بالتوصيلية و البوح ، بحيث لا يفهم العمل الانساني الا باعتباره عملا توصيليا ، و خير دليل على ذلك ان التفكيك لم تتجاوز ابدا حدود الكتابة  كموضوع لها

يقول مجدي ممدوح  2011  ) شبكة الادب و اللغة )  لقد تجاوز النقد التفكيكي الدراسة النقدية التقليدية وطرح ما يسمى بالنص النقدي الذي أصبح له كينونته المستقلة عن النص الإبداعي ، في بعض الأحيان ربما يلجأ الناقد التفكيكي إلى تأسيس نص شعري  -  الى ان قال  - فالممارسة التفكيكية قد ذهبت بعيداً في تجاوز النصوص الإبداعية حتى أصبح من العسير على المبدع أن يتعرف على نصه الإبداعي داخل النص النقدي ، وكأن النص النقدي يتكلم عن نص آخر لا علاقة له بنصه. ) هذا الكلام واقعي جدا و هو يشير  الى ان التفكيك ليس قراءة و انما ابداع نص جديد ،  كما انه يشير و بصراحة في نهاية كلامه الى الوهم و الادعاء و الابتعاد  في مثل هكذا ممارسة .
من الغريب فعلا ، اعتبار ان العمل الفني مجرد عملية بوح ، و قد قلنا ان ذلك ايضا من المصائب التي خلفها اقحام اللسانيات في النقد الادبي ، و مطالبتها المستمرة بالبوح و الحكاية و التوصيل ، لكن كلنا يعلم ان الامر ليس كذلك ، العمل الفني منظومة عظيمة من الانظمة و الكيانات و الجهات و الابعاد ، و الكل فيها يسعى نحو اكبر قدر من الظهور . ان غاية اكبر قدر من الظهور و الحضور ، هو نزعة فطرية و صفة متاصلة في كل شيء ، كل شيء في الوجود يتجه و بقوة  نحو التجلي و الظهور و الحضور و التاثير ، و عندما يكون لدينا نظام  مكون من اطراف متعددة ، تشكل كيانات محتلفة فان جميع تلك الاطراف و جميع تلك الكيانات تميل و بشدة نحو التجلي و الظهور . وهذا هو الاساس الفكري للجمالية التجلياتية ، التي تؤمن ان سر عظمة الابداع  انه فضاء لتجلي ذوات اطرافه التي يكون بها ، ان العمل الفني اللغوي مثلا هو فرصة و ساحة لتجلي ذات الكاتب و لتجلي ذات القارئ و لتجلي عالميهما و موروثيهما ، و تجلي الزمان و الحاضر و الماضي و  المكان  ، و تجلي اللغة   الكلمات و  الحروف ، و  شكل اللغة و  عمقها ، كلها تتجه نحو  الحضور الصادق و التاثير الصادق . ان هذا الذي نراها   هو الموافق فعلا لما يحصل  من حضور قوي  للعلم ، و العلم ما هو الا اداة   التاثير  ، ان القراءة التجلياتية تؤمن ان هناك عوالم و فضاءات و بناءات خلف الظاهر ، الا انها ليست على خلافه لان ذلك خلاف الفطرة و السلوك الانساني السوي و خلاف اصالة الصدق و الوفاء ، بل انها تكون به و تتحقق به وهو نور  يرشد اليها .ان في القراءة التجلياتية يكون النص نور على نفسه  ، انها بناء  على بناء متواصل و متوسع اشعاعي ،  يكون محور الجميع الصدق و الوفاء و التعاون لاجل وجود اكمل و ظهور افضل ، .و لو راجعنا وجداننا نجد ذلك  هو الراسخ و  هو ما نراه و نحسه به في تعاملنا مع الاشياء و ما تعنيه بخلاف دوامة الشك و الوهم و الادعاء و الخيانة و الهدم التي تتباها التفكيكية .

افة اقحام اللسانيات في النقد الادبي

لقد اكدنا مرارا و تكرارا على خطورة اقحام المصطلحات اللسانية و الابحاث اللسانية و المتطلبات اللسانية في النقد الادبي ، لان ذلك اضافة الى عدم بلوغه مكامن الجمال في العمل الادبي فانه يؤسس الى نظرية فنية للغة مزيفة تجر الابداع الى غير مجاله  الصحيح . ان هذا الامر من الخطورة بمكان و يمس جوهر عملية الابداع لانه يؤسس لمنظومة مفاهيمية تتسب مع غياب نقد جمالي اصيل الى تحول الادب الى انتاج لساني توصيلي رث .
من اهم واخطر التاسيسات اللسانية هي فكرة النص اللسانية باعتبارة ( وحدة توصيلية ) ان هذا التعريف يقتل كل ابداع لغوي فني في مهده ، و هناك ايضا بعد اخر خطير هو وحدة النص اللسانية ، باعتبار انها لا تتحقق   الا بالسبك  اللفظي و الحبك  الدلالي ، و هذا اضافة الى انه خلاف وجدان كل شاعر حتى من يكتب الشعر الكلاسيكي فانه يمثل هبوطا خطيرا في فهم اللغة الفنية .
لا بد من التاكيد ان اللسانيات ليست علم اللغة الفنية الابداعية انما هو علم اللغة التخاطبية التوصيلية التقريرية ، و يجب ابعاد الابحاث اللسانية عن النقد الادبي ، و عدم السماح بذلك ، و ايضا لا بد من الاتجاه  نحو نقد ادبي جمالي علمي يتبين من خلاله بصورة لا تقبل الشك  ابتعاد اللسانيات عن مواطن الجمالية اللغوية .

نحو علم نقد استقرائي

لقد بلغ التباين الذوقي و التقييمي و الرؤيوي للاعمال الادبية و الفنية عموما حدا ما عاد معه بالامكان العثور على معايير فنية و جمالية موحدة ،  نحن لا نتحدث هنا عن عامة المتلقين و انما نتحدث عن المهتمين و الدارسين للفنون . ان الاجيالية و المدرسية  لا تقدم تبريرا جيدا لهذا التشظي ، و الذي بلغ حد الفوضى احيانا .
ان الخطر في هكذا وضع يكمن في حالة عدم تبين المظاهر الجمالية للفنون ، بحيث يحصل خلط و يصير الاعتماد في التقييم على اجتهادات فردية و ميول نفسية قد لا تمت للواقع الجمالي بصلة ،و قد يحصل اخفاق في تعيين الجميل و الابداعي  و تمييزه عن غيره .
ان الحل الحقيقي لهكذا معضلة هو بلوغ النقد درجة من العلمية ، و الكف عن النزول من النظرية الى المصاديق ، و استبدال ذلك بنقد تطبيقي استقرائي ينطلق من الاعمال و المصاديق ، و من خلال ذلك يتم تكوين القواعد و القوانين في عملية ادراك و تشخيص المظاهر الفنية و الجمالية . ان الدعوة الى علم نقد استقرائي لها مبرراتها الكافية و الجوهرية ، كما ان ادخال الاستقرائية في النقد الفني هو ضرورة ملحة في ظل الاتساع الكبير لمجال الابداع ،  و حقيقية معيارية الاستقراء لما يبدو ظاهرا ان الفن هو ظاهر انسانية و ليس انجازا تجاوبيا مع الخارج .
ان النقد الاستقرائي يتخلى بالكلية عن فكرة التسليم  للعنصر الجمالي المدعى و اعتباره معيارا ، و يكون مستنده الحقيقي معارف استقرائية لا تقبل الخطا ولا الابتعاد عن الواقع .
ان فكرة النقد الاستقرائي تنطلق من الايمان بالمبدع ، فانه يتعامل مع العمل الفني كظاهرة و ليس انجازا يسعى نحو تحقيق فرضيات و نظريات و افكار ، و يتعامل مع العمل الفني كظاهرة انسانية و ما يتحقق به من جماليانت كظواهر انسانية ، و انجازات مميزة معرفية و تطورية ، لا تتصف بالسكون بل بالتطور ، و لا يكون الدافع نحو مطالب فكرية  وانتقادات تجديدية وانما يكون التطور طبيعي ناتج من ذات الاعمال .و انا نلاحظ ان التطورات التاريخية في الفن انما حصلت بانجازات عبقرية تجاوزت الموجود من نظريات و مطالب نقدية ، و ان السبب الحقيقي لتلكؤ الفن هو  القيم و معاير  فوقية   تحضى بالتسليم  و تعد هي  العناصر الجمالية من دون استقراء او اثبت  ، فبدل دفع الفن نحو تحقيق مطالب النقد ، و متابعهتا ، فان النقد الاستقرائي دعوة الى اتجاه معاكس ، يكون فيه النقد هو الملاحق و التابع للاعمال الفنية . و مسالة احراز المعرفة الحقائقية و عدم التوهم و التكلف و الادعاء تضمن بالاستقراء الذي يرتكز عليه هكذا نقد .
لا ريب ان الاستقراء هو المحور الحقيقي للمعارف العلمية ، و ان النظريات لا يمكن ان تتصف بالواقعية و المصداقية مال لم يكن لها وجود و تمثيل جزئي جيد في الخارج و المجال  الواقعي للنظرية ، فلا يكفي الادعاء في مجال العلوم .
الية النقد الاستقرائي يمكن تحقيقها بصور متعددة ، و حسب ما هو معمول به في العلوم التطبيقية ، الا ان الاساس و الجوهر هو الاعتماد بالكلية على الاستقراء ، و الذي يعني محورية المصاديق و صفاتها و ما يستحصل منها من قواعد .
ان عملية الابداع عملية حرة ، و لا يمكن تكبيلها بفرضيات و نظريات ، تفرض و تعتبر مسلمة و اساسا للتذوق و المعرفة ، رغم انها لم تحظ باثبات و لا دليل غير الفرضية ، بمعنى اخر ان النقد ما لم يعتمد على الاستقراء فان معارفه تبقى معارف فرضية ، و هذا هو السبب الحقيقي في التغيرات السريعة في القيم الجمالية و المتطلبات الابداعية في النقد الفني ، اما لو اعتمد الاستقرار بحيث لا يتم التسليم للفريضة الا باثبات مصداقيتها من خلال الاستقراء ، فانه سيكون لدينا مجال حقائقي يتصف بدرجة عالية من الواقعية .
يكون دائما التعامل مع الاعمال الادبية مهما كان حجمها و عددها بكونها ظواهر ، و العناصر الجمالية تعامل كظواهر لا يتم الاذعان لاي معرفة عنها الا بمصدق استقرائي .

جماليات اللغة المتوهجة

لقد بات راسخا عند المشتغلين في الفنون الادبية شكل فني من اشكال اللغة هو اللغة المتوهجة . و رغم الحضور القوي لهذه اللغة في الشعر المعاصر ، الا ان النقد الادبي لم يبذل الكثير في بيان ملامح تلك اللغة و جمالياتها ، و ظلت في كثير من جوانبها تحت الاوصاف الفضفاضة و غير المحددة . لا ريب ان الاشارات الى انها لغة التكثيف و الادهاش و القراءة المتعددة كانت قريبة الى عالمها الواسع ، الا انه لاجل التطور اكثر فيها ، لا بد من بذل جهد اكبر في هذا الاتجاه
ربما المتابع للكتابات الادبية المعاصرة يرى ميلا نحو البوح و تراجعا في التوهج اللغوي ، طبعا هذا الامر مفهوم جدا ،  و كان لاسباب اولها ما تمر به المنطقة العربية من هجمة اجتماعية و سياسية و تغيرات و اختراقات تستنهض الهمم و تدعو الى البوح و الصوت الجهوري الخطابي ، لكن هناك عامل اخر هو تاخر النقد تجاه اللغة المتوهجة ، و عدها لغة المثقفين و النخبة ،  من دون تقديم نظرية متكاملة عنها ، تمكن من تطوير المتلقي العادي ، و توسع جماهيرية هذه اللغة ، التي هي بحق من اعظم انجازات الانسانية في عصر الحداثة .خصوصا بعد ظاهرة العزلة الجماهيرية للنصوص الادبية مما ادى الى تراجع في نتاجات اللغة المتوهجة .
لقد نال اللغة المتوهجة شيء من الظلم ، بجعل الواجهة و الممثل الرسمي لها هو لغة الهذيان و الانثيالات و اللغة التجريدية و الغامضة ، و الامر ليس كذلك ، ان اللغة المتوهجة لا تتعارض ابدا مع التداولية و التعاونية ، و يمكن تحقيق الادهاش و التكثيف مع تحقيق مقدارعال ايضا من الجماهيرية . و لو تلمسنا الجماليات الحقيقية و الجوهرية لتلك لغة لوجدنا الرسالية و الاستجابة الشعورية من مقومات الابداع فيها .
لقد بينا في مقالات سابقة ان الابداع اللغوي قائم على ثلاث ركائز ثابتة هي الشعرية و الجمالية و الرسالية  ، تحقيق مقادير عالية في تلك الجهات يحقق لغة فنية ابداعية متميزة ، و تحقييق شكل معين من الشعرية و الجمالية يحقق شكل اللغة المتوهجة .

الشعرية تبرز في مجال المجاز و الخيال و الموسيقى و الصورة ، اما المجاز فان المجاز العالي اي الانزياح الكلي في جميع المكونات و ليس الاقتصار على المجاز المفرداتي من صفات اللغة المتوهجة . و اما الخيال فان خيال اللغة المتوهجة يكون بالعيش في لغة الحلم و ليس تحقيق لغة الحلم فقط ،و اما الموسيقى فانها تحقق الموسيقى العميقة و تناغم النقاط الموسيقية العميقة .و اما الصورة فهي صور الكلمات السريعة ، و نقصد بها تحقيق لاالفة تجاورية بين الكلمات تفوق سرعة البناء التلقياتي و المنطقية النحوية و اللغة فائقة السرعة  هي من اهم مميزات اللغة المتوهجة .
اما الجمالية فعناصرها التصوير و التجربة و الاستجابة الشعورية ، اما التصوير فالكم الصوري تعددي في اللغة المتوهجة اي انه نص مفتوح على قراءات متعددة ، و اما الكيف الصوري فهو ايحائي  و اما المحتوى الصوري فقد بينا انه من اعلي مستويات الاالفة و اللامنطقية الى تصل حد التجريد احيانا . و اما التجربة ، فالكم التجربي تجلياتي يكون للذات و التجربة حضور و ظهور و هذا صفة للغة القوية عموما و منها اللغة المتوهجة ، و اما كيف التجربة فانه وسائطي لامباشر يحتاج الى اعمال ادوات التلقي  حتى يصل الى الابداع القراءاتي و اكمال الفهم بمعونة المتلقي و هذا في الحقيقة من مميزات النص المفتوح الذي يصبح فيه القارئ مبدعا و ليس متليقا فقط وهذا الفهم المعاصر جوهري جدا في تطور الفكرة الانسانية عن اللغة الفنية ، و اما محتوى التجربة فهو ينزع نحو المعاناة الجمعية و العميقة نحو الاممية و  الانسانية و الكونية مبتعدا عن الشخصنة .
 و في ما يخص الاستجابة الشعورية  فمن الواضح ان اللغة الايحائية   تعتمد الاستجابة الشعورية العميقة ، متجاوزة الهزة الشكلية الخطابية ، بمعنى انها لغة كتابية ، فان اللذة العميقة المعرفية و الشعورية هي التي تمثل النظام المشاعري في الاستجابة للغة المتوهجة ، انها لذة من الاعماق وهذا لا يمنع من لغة متوهجة خطابية .
واخيرا الرسالية ، فان رسالية العمل الفني تكمن في الرسالية الجمالية و الرسالية الجماهيرية ـ و الرسالية الجمالية تتحق بتقديم نموذج عالي المستوى من الفنية و التقنية ، حتى يتوج بالتجديد اللغوي ولا توجد لغة نعرفها الى الان تقبل التجديد و التجريب القصدي الابداعي كاللغة المتوهجة لذلك نرى بوضوح تسارع و تكاثر و تشعب اساليب اللغة المتوهجة ، و اما الرسالية الجماهيرية  ، فان تحمل المعاناة الانسانية و تمثل الامة و النوع جزء مهم من الرسالية ، و اما التداولية فانها ايضا من المطالب الجماهيرية ، الا ان ذلك لا يعني التنازل عن المستويات العالية للكتابة لاجل التوصيل الى جميع الشرائح ، فان هذا ليس امرا معقولا ، بل ولم يكن يوما مطلبا فنيا على مدى العصور ، لكن في زمنا الحاضر الذي تتداخل المعاناة و تتعاظم فان الواجب على المؤسسات الانسانية و الدولية من تطوير القارئ و المتلقي و اشاعة الثقافة بدل مطالبة الادب بان يكون بلغة حياتية يومية و خطابية طاغية ، اي بدل ان نجر اللغة نحو عالم الابتذال فالافضل ان نحلق معها في سماء الابداع ، و من المهم ارجاع هيبة الكتابة و دورها القيادي في المجتمع و ازالة جميع حجب العزلة المفتعلة بين الكاتب و القارئ بل بين الابداع و الناس عموما ، و التي تبدو احيانا مفتعلة .
لا تكمن اهمية اللغة المتوهجة في انها لغة فنية جديدة و متطورة ، بل لانها تمثل انجازا انسانيا حضاريا يواكب التشكل العالمي للانسان العالمي ، المتجاوز للحدود المكانية ، لذلك اذا ما بقي النقد المحلي متاخرا فان التبعية ستكون هي النتيجة الحتمية ، وهذا سيؤدي الى صياغة ثقافة و رؤية تابعة الى ما ينتج في الخارج ، فلا بد من الانطلاق من خلال المصاديق و الجزئيات للتعامل مع النظريات العامة ، فانه العمل الحقيقي الذي يجعل الثقافة المحلية محصنة و فاعلة في صياغة ثقافة عالمية ملائمة .

العولمة الثقافية


انور غني
2014
المقدمة
 أنّ العولمة تشير إلى تلك الشبكة المتطورة بسرعة والمتزايدة الكثافة دوما من الترابطات  والعلاقات المتبادلة   التي تميّز الحياة الاجتماعية الحديثة.   .  (  Tomlinson 1999) .والهوية الثقافية هي هوية مجموعة او ثقافة  او فرد ،  بحيث يتاثر الواحد بغيره ممن ينتمي الى تلك المجموعة و الثقافة . ( S A  Lobes 2013) )
مصطلح العولمة الثقافية ،   يشير الى نقل الافكار ، المعاني و  القيم عير العالم . هذه العملية اتسمت  بالتبادل العام للثقافات التي انتشرت عن طريق الانترنت ، و الثقافة العامة و السفر بين الدول  . العولمة الثقافية تتضمن تكوين قيم و معارف مشتركة  و التي يوفق فيها الناس بين الثقافة الفردية و الجمعية  وزيادة الترابط بين الشعوب و الثقافات المختلفة . (Inda, Rosaldo, 2002).  الموسوعة البريطانية تعرف العولمة الثقافية  انها ظاهرة تكون فيها  تجربة  الحياة اليومية  كما انها متاثرة بانتشار البضائع و الافكار فانها تعكس المعيارية للملامح الثقافية عبر العالم . (Encyclopedia Britannica, 2013).
التقارب العالمي
 يمكن أن تؤخذ فكرة المرتبطية للدلالة على تزايد التقارب  العالمي- المكاني:   والأمر المتضمن هنا هو إحساس بانكماش المسافات من خلال الانخفاض الدراماتيكي في الوقت المستغرق، إمّا بصورة مادية (على سبيل المثال، عن طريق النقل الجوي) أو تمثيلية (عن طريق النقل المتواسط إلكترونيا للمعلومات والصور)، لاجتيازها.  إنّ الحديث عن العولمة مفعم بالمجازات المتعلقة بالتقارب العالمي، و"بعالم منكمش": من "القرية العالمية" الشهيرة لمارشال ماك لوهان McLuhan  و إلى صياغة الأمم المتّحدة مؤخرا لتعبير " جوارنا العالمي" لوصف ذلك السياق السياسي العالمي المتنامي. (  Tomlinson 1999)
  هناك ثمة "أحدية" Unicity معينة: وهو إحساس بأن العالم يصبح، لأول مرّة في التاريخ، مكانا وزمانا اجتماعيا وثقافيا واحدا. وفي حين كان من الممكن في الماضي فهم العمليات والممارسات الاجتماعية والثقافية كمجموعة من الظواهر المحليّة، "المستقلة" نسبيا، تحوّل العولمة العالم إلى "مكان واحد".   وبالتالي، فمن المؤكد أن العولمة، كمفهوم، تمتلك القوة الدلالية "للميل نحو الأحدية"،(  Tomlinson 1999)

  العولمة و الثقافة
  تُربك العولمة الطريقة التي ندرك بها "الثقافة"، لأن الثقافة كانت تمتلك دوما دلالات تربطها بفكرة وجود ناحية ثابتة .   وكما لاحظ إيد (Eade 1997: 25)، فإن "التشديد على  التماسك سيطر تقليديا على المعالجة الاجتماعية لفكرة الثقافة "، وخصوصا في التقليد الوظائفي حيث يتم التعامل مع بناء المعنى الجمعي في الأغلب باعتباره يخدم أغراض التكامل الاجتماعي. وبالتالي فإن "الثقافة" توازي الفكرة العويصة "للمجتمع " ككيان محدود (Mann 1986) يحتل أرضا طبيعية مخطّطة كإقليم سياسي(الدولة القومية بالدرجة الأولى) .من الواضح أنّ  العولمة تمثل تهديدا لمثل هذه المفاهيم ، ليس فقط لأنها اختراق متعدّد الأشكال للنواحي المحلية  ، بل لأنه يقوّض التفكير الذي تم من خلاله اقتران الثقافة بثبات الموقع في المقام الأول .       فالعولمة تعزز قابلية الحركة المادية أكثر بكثير من أي وقت مضى، لكن مفتاح تأثيرها الثقافي يكمن في تحويل النواحي المحلية ذاتها.   أن العولمة يضعف الروابط بين الثقافة والمكان. وتمثل هذه، من جوانب عدة، ظاهرة مزعجة ، تتضمّن الاختراق المتزامن للعوالم المحليّة من قبل قوى آتية من بعيد، وزحزحة المعاني اليومية عن "مراسيها" الموجودة في البيئة المحليّة.  (  Tomlinson 1999)
 ويجادل جيدنز (Giddens 1991: 187) أيضا بأنّ الناس  برغم أنهم موجودون محليا، " فهم، على وجه العموم، عالميون بحق".   وبالتالي، فإنّ اختراق النواحي المحلية الذي تجلبه المرتبطية يمثل سلاحا ذي حدّين: ففي حين أنه يبدد عوامل الأمان التي تضمنها الناحية ، فهو يقدم سبلا جديدة لفهم التجربة ضمن سياقات أوسع – تكون عالمية في النهاية. (  Tomlinson 1999)
 الامبريالية الثقافية
 يقول أولف هانرز Hannerz  :هناك الآن ثقافة عالمية، لكنه من الأفضل لنا أن نعرف انه لم  تحدث مجانسة  كاملة بين أنظمة المعانى والتعبير، كما أنه من غير المرجح حدوث مثل هذه المجانسة في المستقبل القريب. لكن العالم قد أصبح شبكة واحدة من العلاقات الاجتماعية، وهناك تدفق للمعاني بالإضافة إلى الأشخاص والسلع بين أقاليمه المختلفة (Hannerz 1990: 237) .  بمعنى ظهور ثقافة واحدة منفردة تشمل جميع من هم على وجه الأرض وتحل محل تنوع diversity الأنظمة الثقافية الذي ازدهر حتى الآن.  من الواضح تماما أن مثل هذه الثقافة لم تصل بعد.  
 هناك وبشكل واضح ترتيب هرمي   للهيمنة يتم بناؤه حول المنزلة الخاصة بلغات معينة باعتبارها لغات دولية – أي لغة مشتركة واقعية- أي اللغة الثانية المنطوقة الأكثر شيوعاً، واللغة الأكاديمية والعلمية، ولغة وسائل الإعلام والتجارة الدولية، إلخ. وبناء على جميع المؤشرات المتاحة تقريباً، فإن اللغة الإنجليزية تأتي على قمة هذا الترتيب الهرمي بشكل لا يقبل الجدل. فعلى سبيل المثال، "يقوم ثلثا علماء العالم بكتابة أعمالهم باللغة الإنجليزية، كما تتم كتابة ثلاثة أرباع المراسلات البريدية العالمية باللغة الإنجليزية ومن بين جميع المعلومات المخزَّنة على أنظمة الاسترجاع الإلكترونية في العالم، تمت كتابة 80% منها بالإنجليزية" (Crystal 1987: 358).  
 تأخذنا قضية السيطرة اللغوية والتهديد الذي يواجهه التنوع الثقافي إلى القضية الأوسع، والمتعلقة بالإمبريالية الثقافية: أي الفكرة القائلة بأن الثقافة العالمية هي بشكل أو بآخر عرضة لأن تكون ثقافة مهيمنة   .  وكما يقول جوناثان فريدمان: لقد مال خطاب الإمبريالية الثقافية منذ أواخر الستينيات تقريباً لتحضير الساحة للاستقبال النقدي الأولِّي للعولمة في المجال الثقافي، طارحاً العملية على أنها "جانب من الطبيعة الهرمية للإمبريالية، أي الهيمنة السياسية المتزايدة لثقافات مركزية معينة، وانتشار القيم ، والسلع الاستهلاكية، وأنماط الحياة الأمريكية" (Friedman 1994: 195).   
 و وفقاً لشيلر، فإن القوة السياسية-الاقتصادية للشركات العابرة للقوميات، وانتشارها العالمي، تصاحبها قوة أيديولوجية لتعريف الحقيقة الثقافية العالمية. وهكذا، فإنه يفسِّر المؤسسات الإعلامية العابرة للحدود القومية على أنها مندمجة تماماً في النظام العالمي الرأسمالي ولها دور وظيفي في تَوسُّعه: "حيث أنها تقدم من خلالها صورها ورسائلها المعتقدات والمنظورات التي تخلق وتُعزِّز ارتباطات جماهيرها بالوضع الذي توجد عليه الأشياء في النظام ككل" (Schiller 1979: 30). وهكذا،  فان الرأسمالية ليس فقط تقوم بتعريف وتشكيل الاقتصاد السياسي العالمي، ولكنها -في خلال هذه العملية- تقوم بتحديد الثقافة العالمية .
   إن الغزو الحاسم [للأنظمة الإعلامية العابرة للقوميات]هو التطبيق العملي للنموذج ... و [هذا] الغزو الرئيسي يحدد النهج الذي سيتم اتباعه، كما أنه يجتذب الدولة موضع النقاش إلى فلك مصالح القوى المهيمنة. وهذا هو الشكل "الإمبريالي الجديد" الذي حلَّ محل الطرق الاستعمارية الأكثر ابتذالاً، وفظاظة، وقِدَماً. (  Tomlinson 1999)
  الانترنيت و العولمة الثقافية   
  نحن نعيش "في العالم" بمفهوم مختلف عن ذلك الخاص بالعصور التاريخية السابقة. يستمر كل منا في أن يعيش حياة محلية، كما تضمن المقيّدات المتعلقة بالجسد أن يتواجد جميع الأفراد سياقياً في مكان وزمان محددين في كل لحظة من الوقت. لكن التحولات المتعلقة بالمكان، وإقحام المسافة في الأنشطة المحلية، بالإضافة إلى مركزية التجربة المتواسطة، أدت إلى تغيير الحالة التي يوجد عليها "العالم" في الحقيقة بصورة جذرية ... فبرغم أن الجميع يحيون حياة محلية، إلا أن العوالم الظاهراتية هي في معظمها عالمية من حيث الواقع ... ولم يعد العالم الظاهراتي يوازي الإطار المعتاد الذي يتحرك خلاله أحد الأفراد ماديا سوى في حالات قليلة جداً. ((Giddens 1991: 187- 8)  
لكن من الواضح ايضا ان توفر الانترنت والرقابة جعل الفجوة الرقمية تحدياً قوياً أمام خلق مجتمع عالمي متجانس تماماً. مع ظهور منصات الإعلام الجديد أو الاجتماعي الذي يتيح للمستخدم انتاج سيل المعلومات الخاص به أصبح هذا تحدياً جديداً في العولمة الثقافية. فلم يعد الانتاج المعلوماتي حكراً على طبقة معينة بل أصبح فضاءً مفتوحاً للجميع وعلى الرغم من مساهمة الاعلام الاجتماعي في التقليل من الفجوة المعلوماتية بين المجتمعات الا ان الاختلافات العميقة لا زالت صامدة في وجه التغيير. يرى الباحث الامريكي جوزيف ستروبار (2008) أن العولمة الثقافية تشكل طبقات جديدة انتقالية في الهوية الفردية والجمعية لمستخدمي الانترنت لكن  مستويات اللغة والدين والتعليم والطبقة الاجتماعية والعرق تبقى كمستويات أساسية لا تتجزأ مهما تأثرت أجزاء منها بالعولمة إثر الهجرة المؤقتة أو الاتصال بالانترنت.  هذه التحولات قادت الباحثين الى إطلاق تسميات جديدة على القرية العالمية المتجانسة لتصبح قرية متعددة ومتنوعة الثقافات نظراً لتعدد جنسيات وسائل الاعلام المنتجة للصور والأفكار والثقافات. وربما هذا أيضاً ما دفع الصحفي والباحث الامريكي جيمس لول (2000) ليؤكد أن العولمة الثقافية لا تعني بالضرورة هيمنة المجتمع المتطور تكنولوجياً على العالم وتدمير منظومات الثقافات المحلية.
  ولعل اتساع حدود الخيارات المتوفرة على الانترنت تجعل من السهل على الفرد أن يختار مجتمعه الافتراضي والذي يكون بالعادة متقارب أو مماثل لثقافته. ومن ناحية أخرى تلعب اللغة في هذا المجال دوراً صريحاً خصوصاً مع اعتماد اللغة الانجليزية كلغة الانترنت. ومع ذلك تلحظ حرص مواقع الانترنت العالمية ومحركات البحث ومنصات الاعلام الاجتماعي على توفير عدة لغات لضمان الوصول الى أكبر عدد ممكن من المتصفحين. لعل أفضل مثال على ذلك هو الموسوعة الالكترونية "ويكيبيديا" التي وصل عدد اللغات المتوفرة عليها في آب 2007 الى نحو مئة واربعة وسبعين لغة بالرغم من توفر النسخة الانجليزية منها. (jadaliyya 2013 )  )

 الموقف  العربي من العولمة الثقافية
يمكن تلخيص المواقف تجاه العولمة في أربعة: الأولالموقف القابل للعولمة الذائب فيها والمؤيد لها تأييدًا مطلقًا. وقد جلب ولا يزال يجلب سلبيات الحضارة الغربية الثانيالموقف الرافض لها جملة وتفصيلاً.  وهو موقف خاسر غير واقعي وسيؤدي إلى الانكفاء والانعزال الثالثالموقف الملفق الذي يحاول التلفيق بين ما تحمله العولمة والإسلام. الملفق وهو الموقف الذي يتزعمه بعض من يسمون أنفسهم الليبراليين ، يقومون ببتر لبعض قيم الأمة وعزلها من سياقها المتكامل . الرابعالموقف المتفاعل معها على أساس الانتقائية  الذي يقوم على الفحص والتدقيق  ، فيكشف ما تحت بريق العولمة من الظلمات من الاستغلال الرأسمالي للإنسان باسم التحرير، وفلسفة عبادة الدنيا، ثم يأخذ ما في العولمة من الصواب والخير بعد النقد الموضوعي المنبثق من الثقة بالذات والاعتزاز بالهوية ( الشيخ حامد العلي 2014 )


فصل من نص طويل


انور غني 2014 
اعيادها رؤوس الجياع المتربين ، الضوء خافت انا لا ارى بوضوح ، ساحدثك في وقت اخر، قال والهواء العذب يداعب نظارته الم اخبرك عن الدهشة ؟، هنا عينات كثيرة تصلح لان نضعها في الحلقة القادمة ، اوه شيء جيد ، هل الصحراء قاحلة ؟ ، نعم حتى ان هنا كثيرا من النباتات اليابسة و الطيور الميتة و الجياع ، تعرف لم يبق منهم سوى الجلد و العظم ، كثيرون قد ماتوا ، اوه يبدو انه سيكون عملا مدهشا ، لفد بذلت جهدا ، المدير سيسعد بذلك ، اجل لكن الطعام هنا لا يكفي ، بل لا يوجد هنا طعام اصلا ، ما جلبناه معنا نفذ ، اوه اذن ارجع سنعود الى هناك مرة اخرى ، اجل فالناس هنا جباع و الارض قاحلة .

من الامن القومي الى الامن العالمي و من الصراع الاممي الى التكامل الاممي

من الواضح ان الفكر الانساني قد تغير بشكل ملحوظ في العقود الاخيرة، و الوعي بالوجود تغير ايضا، و نظرة الانسان الى الاشياء  كذلك تغيرت . و يمكن القول ان ما كتب و ما تناول السلوكيات يتجه اكثر نحو العمق و الجوهر و هذا شيء لا يصح انكاره ، و هناك ترسيخ جماهيري عالي مفهوم العدالة و الحرية.  الا اننا في خضم هذا الانجاز الفكري الهائل للبشرية نجد تدنيا سلوكيا عالميا متميزا بالقهر و الظلم و الاستغلال و السطحية و الشهوانية .
ان فهم البلدان في عصر العولمة على انها اسواق للسلع ليس الا ، و فهم ثروات الشعوب على انها مصادر للامن القومي ، و فهم النساء على انهن جسد ممتع ، و فهم الحياة اليومية على انها  مصدر لإشباع الرغبات و الشهوات ، و تسويق ذلك بشكل مبهر و جذاب و حرف الثقافات و الشعوب نحو هذا التوجه ، كل ذلك يكشف عن هبوط مستوى للعمل البشري رغم ما يقابله من تطور فكري .
ان هذا التباين بين المعرفة العالية المحققة  و بين الانجاز العملي المتأخر، يشير الى تخلف في العمل البشري ، و يشير ايضا الى فشل تلك الدول التي تعتبر نفسها راعية للحضارة المعاصرة و قائدة حركة العمل العالمية .
خذ مثلا الوحشية في عولمة الرأسمالية ، و اعتدائها الصارخ على فكرة العدالة و الاخوة الانسانية ، و عدم فهم الاخر الا كونه سوقا للسلع و مصدر لتطوير الدخل القومي ، مع انا متأكدون ان هذا السلوك سينعكس عليهم يوما و سيصبحون سوقا مضطهدا لبلدان اخر تقدمها الصناعي يتفوق عليهم .
مثل اخر على فشل التوجه العالمي الحالي هي ظاهرة سياسة الاعلام ، لأجل التسويق الفكري و السلعي  فعليك ان  توصله لأكبر عدد من الناس ، و هنا لا بد ان تستغل كل ما يحقق تلك الكثرة ، لذلك نجد وسائل المعرفة و التثقيف كالإنترنيت و القنوات الفضائية تتحول شيئا فشيئا الى واجهات اعلامية ، و افراغ كل منتوج فني او فكري من محتواه لأجل تلك الغاية بل و تحديث قنوات و سبيل هابطة و اظهارها انها وجه الثقافة و العالم ليس لشيء سوى التسويق .
من المظاهر الاخرى البشعة هي اثارت النعرات   و تصدير ذلك بشكل مفكرين   او مؤسسات اجتماعية بل واصطناع اشكال مزيفة من ذلك كله لأجل تحقيق اغراض وحشية بشعة بحجة الحفاظ على الامن القومي ،ان ابشع صورة للحضارة المعاصرة تتمظهر في فكرة بناء الامن القومي لدول على حساب دماء الشعوب الاخرى و ثرواتها .
و من المظاهر المنحرفة للحضارة المعاصرة   و مسوقيها هي استغلال المرأة و اعتبارها سلعة و تطبيق اجراءات عملية لهكذا نهج معتديا في ذلك على الحريات العامة و الخصوصيات باستغلال الشبكة العنكبوتية و صفحات الانترنيت المشهورة و المعتمدة و القنوات الفضائية   و المؤسسات الحديثة في الدول الكبيرة و تصدير كل ذلك بانه وجه للحضارة و التطور ، الا ان كل انسان يرى القبح الفظيع في ذلك النهج المريض .
طبعا من غير الموضوعية  الخلط بين هذا السلوك البرجماتي   المختل الذي يسود ابسط تفاصيل الحياة الغربية و التي يحاولون تسويقه الى العالم و بين الفكر الاصلاحي و الاصوات العقلانية التي تبرز في تلك المجتمعات . ان التوقف و التأمل في هذا الوضع المختل الجامع لتطور فكري و انحطاط عملي في المجتمعات الغربية ، مصحوبا بتعمد منها لإحداث صور متخلفة في الدول الشرقية و خصوصا الاسلامية و تثبيت عناصر و اعوان الذا النهج المؤذي ، ان هذا التوقف لا يعني عدائية قومية لتلك الامم ، على العكس انها تعيين لمواطن الخلل لمظاهر دولية تقتحم حياتنا و تريد ان تصيغ الثقافة العالمية الموحدة.
ان خطورة تلك الاعمال الهابطة و المتخلفة في البشع و الاستغلال تكمن في حقيقة توحد الثقافات ، فتقييم و تقويم تلك  المناهج و الممارسات انما يكون لأجل المشاركة العالمي  نحو العدالة العالمية و السلم العالمي و الثقافة العالمية السليمة  .
 ان ثقافة عالمية  هي نتيجة حتمية للعالم المعاصر ، لذلك يجب على الكل الاهتمام بامور الاخرين و ما يصدر منهم ، ما عادت البلدان و الامم و الثقافات المحلية محصنة و بعيدة عما يحصل في غيرها من انحرافات و تشويه ، و لا احد يشك ان كثيرا من الدماء التي تسيل في الشرق الاوسط سببها الرأسمالية العالمية و نهجها الذي لا بفهم الاخر الا سوقا و مصدرا للأمن القومي . لا بد ان تبدل فكرة الامن القومي بالأمن العالمي و التطور القومي بالتطور العالمي و الخير القومي بالخير العالمي ، كما   لا بد ان تبدل فكرة السلامة المحلية بالسلامة العالمية و الاستقامة المحلية بالاستقامة العالمية و المحبة المحلية بالمحبة العالمية و الاخوة المحلية بالمحبة العالمية ، يجب التخلي عن فكرة تقسيم العالم الى امم متناحرة بل لا بد من فهمه على ان جميع دول العالم هي مناطق متكاملة و متناغمة و ان كل خير و زيادة في كل بقعة في الارض هي خير  و زيادة للأرض جمعاء و كل شر ونقص  في اي بقعة في العالم هي شر ونقص لكل اهل الارض .  ما عاد كافيا التحصين و الانعزال و المحافظة المحلية بل لا بد من المشاركة الفاعلة في صياغة فكرة عالمية عادلة و مستقيمة للثقافة العالمية و المنهج العالمي السياسي و الاقتصادي .
لقد بات ظاهرا و بشكل لا يقبل الشك ان كل نظرية سياسية او اقتصادية في اي يلد من العالم يمكن ان يؤثر على كل بقعة في الارض ، و خصوصا في الدول التي تسعى للهيمنة ، فان كل توجه اقتصادي او سياسي فيها يؤثر على جميع البلدان ، بمعنى اخر لا يصح لنا  ان نقول اننا غير معنيين بما يحصل في الدول الغربية من افكار و مناهج سياسية او اقتصادية ، مع انا نلاحظ الانصات و التتبع الشديد الغربي لما بحصل عندنا بحيث صار الغرب يتدخل في ابسط الامور السياسية و الاقتصادية و للاجتماعية في الشرق و لا يفهمون ذلك  على انه تجاوز على الحقوق و انما يبرر على انه في سبيل الامن القومي لهم.

لا بد من التوجه و بسرعة نحو المشاركة الجماعية الفاعلة التحاورية في بناء عالم مسالم يحترم حقوق الشعوب و التخلي عن الفكرة المريضة بإقامة الامن القومي على حساب الامم الاخرى . لا بد من الجميع اقناع الجميع بذلك ، لا بد من ذلك والا فان مسلسل الظلم و الاعتداء و الدماء سيستمر و سيزداد.

نحو اسلام عالمي في عصر العولمة

من الخطا فهم الفتوحات الاسلامية على انها توسيع للدولة الاسلامية ، بل هي في جوهرها شكل من اشكال  التعريف بالاسلام و نشر التعاليم، و حينما كان الطريق الامثل لذلك هو بالفتوحات ، فان عدم توفر هذا الشكل حاليا يحتم اللجوء الى سبل اخرى و اشكال اخرى من نشر المعلومة و ايصالها الى ابعد مكان . و من الظاهر ان العولمة توفر ارضا خصبة لهكذا توجه .
من الواضح ان العالمية متاصلة في الاسلام و ان النصوص و سيرة المسلمين دالة و بما لا يقبل الشك ان هذا الدين هو دين لكافة الناس و غير مختص بامة منهم ، و لذلك فكل محاولة لجعل لدين محليا امر مخالف للحقيقة و فيه اغراض واضحة السوء .
بينما نجد العالم يتجه نحو العولمة في كل شيء كل شيء حتى ابسط ما نتصوره ، فانا نجد  في الوقت نفسه تاكيدا متعدد المصادر على محلية الدين و على انه شكل من اشكال الثقافة المحلية و على انه تجربة شعبية ، و هذا من الغرائب و الاخطاء ، و متى كان الدين محليا ؟ و متى كانت دعوة الاديان محلية ؟
حينما كان الناس محليين و كانت الثقافة محلية ، كانت هناك دعوة الى  فصل الدين عن السياسة  طبعالاغراض واضحة ،  و الان في عصر العولمة و حينما اصبح الناس عالميين و اصبح العالم قرية صغيرة  و اصبحت الثقافات عالمية ، نجد دعوة مغرضة تدعي ان الدين امر محلي و ظاهرة محلية ، لذلك يجعلون الدين في قبال ما تطرحه العولمة من مفاهيم ، و ربما يساعد ذلك مظاهر الخوف الخطائية عند البعض من العولمة بانها بالضد من الهوية الثقافية . وكل هذا سلوك خاطئ جدا ، و لطالما ثبت في النصوص ان الامام عليه السلام اذا ظهر راها كل الناس و اذا تحدث سمعه كل الناس و ان الصيحة يسمعها كل الناس ، اين نحن من هذا الوعي العالمي للمعارف و المعلومات ؟
من الواضح جدا انه ما عاد كافيا الطرق التقليدية في نشر التعاليم و تعريف الناس بالوصايا الالهية ، بل لا بد من تجاوز المحلية و بقوة و بسرعة ، و الاهتمام الكامل بما يطرح من تصورات عالمية نحو الاسلام و المسلمين ، و تكوين مؤسسات عالمية بلغة عالمية و بشكل عالمي و بالكثرة الكافية توصل الصورة الصحيح للاسلام الى العالم و توضح موطن الخطا في كل تصور خاطئ عنه .
نحن بحاجة ماسة الى كم هائل من المؤسسات التي تتكلم بلغة عالمية و تطرح النصوص الثابتة بلغة عالمية و التي تستخدم الوسائل العالمية ، لاجل تحقيق شكل جديد من التعريف بالاسلام ، و عدم ترك المجال للاعلام المضلل لتسويق صورة مشوهة عن الاسلام لا تسعى الا لاجل ابعاد الناس عنه . اننا نفهم جيدا ان كل تلك الحركة العالمية لاظهار صورة غير صحيحة عن الاسلام هو لاجل ابعاد الناس عن الاسلام الحقيق ، لانهم ادركوا ان الناس لو اطلعوا على تعاليم الاسلام الحقيقية و معارفه الحقيقة فانهم سيجدونه الدين الحق ، فلا بد ان نكون بالوعي الكافي و بالمعرفة الكافية باننا في عصر العولمة و الثقافات العولماتية و ليس المحلية ، فلا بد ان تكون وسائلنا بمستوى هذا التحدي .

مقاطعة اصوات الفرقة

لماذا يقتل المسلمون في بلدانهم ؟  لماذا كل هذا الاستخفاف بدماء المسلمين ؟  و لماذا تعطى حملات القتل صفة الطائفة ؟ و لماذا كل ما يضر بالمسلمين يوجه بانه ناتج عن طائفية ؟ وهل حملات التكفير و التشهير و التحقير تعطي ثمارا غير شرعنة قتل المسلمين ؟ و هل الاختلافات العقائدية بين المسلمين جديدة لكي تكون سببا لحملات القتل و التهجير ؟
ان اصوات الفرقة و كل ما يوجه التفكير الى الاختلافات و عدم التوافق و تخطئة الاخر و توهين معتقده ، في الوقت الحاضر لا تخدم الا تلك المخططات التي لا تثمر الا عن ضرر بالاسلام و المسلمين . ان كل من يؤكد على الاختلافات بين المسلمين و يحاول اظهارها الى السطح هو بوعي او بدون وعي يذكي تلك النار المظلمة . الهداية و بيان الحق و لا تستوجب كل هذه الانشقاق و التشرذم  بين المسلمين ، لقد تجاوزالامر كل ما يمكن تصوره من ضرر ، و ما عاد جائزا  الاشارة الى الاختلافات تحت اي ذريعة . و يجب ان يفهم توهين الاخر و تصغيره و تحقيره على انه مقدمة لابادته على الارض وشرعنة قتله و استباحته .
لدينا حضارية الخطاب  و ولاية الاسلام ، فاذا لم تكن اخوة الاسلام باعثة للمسلم على الترفق باخيه المسلم و مراعاة مشاعره ، فان حضارة الانسان المعاصر يجب ان تدفعه الى ذلك مع المسلم و غيره . ان التولي و التبري لا يستوجب احتقار المسلم و لا اهانته و لا التصغير من شانه ، و الانتصار للحق لا يتوقف على الطعن بما يراه الاخر ، بل هو ممكن و بشكل سلس بما يوافق ما هو عليه، و محاربة الضلال لا تستوجب احتقار الانسان و اهانة .
لا مبرر ابدا للاستخفاف بعواطف الاخرين ،  و ليس من الدين السلوك العنصري نحو المخالف في المعتقد ، ان الاصوات القائمة على هدم لحمة المسلمين بالطعن في الاخر و تحقيره و تصغيره و الاستهزاء بمشاعره و عواطفه بحجة الضلال و البدعة لا يتناسب ابدا مع روح الاسلام . عندما يعتقد ان الاخر على خطا فعلى الخطاب ان يكون على اعلى مستوى من التحضر و التمدن في  توصيل الرسالة اليه ، لا ان يكفر و يستباح دمه و ماله  ، فان ذلك  يكون صورة بشعة لحالة لاانسانية  وعنصرية ، الاسلام بريء منها.
ان هذه الاصوات التي لا تريد سوى الفرقة والتي تبرر افعالها بتبريرات متعددة على كل مسلم واع مقطعتها ، فان كانت قناة تلفزيونة فلا تشاهد و ان كانت اذاعة فلا تسمع و ان كانت صفحة على الانترنيت فلا تدخل ، يجب مقاطعة هذا الشكل من التطرف المريض  وعدم النقل عنهم و اهمالهم بالكلية .
ان عصرنا الحاضر ميز بين علوم الدين و الافكار ، و من الواضح ان كثيرا من الافكار التي اقحمت في الدين  لم تكن بطرق علمية و انما استحسانات و تقليد اعمى ، ادى الى ظهور حالات تطرف تستسيغ قتل المسلمين بحجج واهية . ولقد اعطى هؤلاء الذريعة الكافية لاعداء الدين لتوهينه و التصغير من شانه ، فلا بد لكل مسلم  من مواجهة هذا التشويه لاسلامنا الانساني الحضاري الجميل .

( الموت و الحياة )


قصدية نثر طويلة .
انور غني
مقدمة : ربما اصبح من الصعب القول بامكانية تحقق قصيدة طويلة مركبة من اكثر من مقطع شعري يتجاوز وحدة الذاكرة القصيرة في عصرنا الحاضر، حيث ان توهج اللغة و طغيان التجربة المتجلية المستنفرة لنظام كامل من التعبير لا يسمح بتاجيل البوح ، فلا يقبل بتاخير تمام التجلي الى زمن يثلم عملية التجلي الاعظم. ان الوحدة الموضوعية بمعنى ما يدور حوله التوصيل ، بل و البوح التعبيري لم تعد ممكنة في اللغة المتوهجة ، لغة التجلي المحطمة للموضوع و للتصوير .
طبعا في خضم التحطيم و التمرد هناك وحدة ، و في وسط اللانمطية هناك نمطية ، هذا السر في قصيدة النثر العظيمة يجعلنا نعرف اين تكمن الوحدة ، ان وحدة اللغة المتوهجة لا تكمن في الموضوع الصوري انما هي في الموضوع التجلياتي ، فان التجلي و الحضور انما يكون جهويا اي ان التجربة و الذات تطل علينا من زاوية في المقطع الشعري ، و لذلك بامكانها ان تطل من زوايا كثيرة حسب امكانية صاحب التجلي المبدع .فحينما تتجلى ألتجربة الحزينة و الذات المتالمة في مقطع تصويري بصورة معينة فانها يمكن ان تتجلي بصورة اخرى ، بمعنى ان اللغة بمثابة شكل و مظهر للمتجليات و التي بامكانها تغييرها ، بمعنى اخرى و الذي اكدنا عليه مرارا ان اللغة في الشعر المعاصر ما عادت طريقا لايصال التجربة و وصف الذات و معاناتها و انما اصبحت شكلا و مظهرا لهما في تجليهما ، و هذا الامر العظيم الذي يجعل الجماليين شغوفين بقصيدة النثر و مؤمنين بها .اجل ما عادت اللغة اداة و لا تعبيرا و لا طريقا و لا بيانا انها جسد انها شكل انها مظهر لروح متجلية ،التجربة المتجلية و الذات المتجلية . انور غني
( الموت و الحياة )
الجزء الاول : الموت
الجزء الثاني : الارض
الجزء الثالث : الحياة
الجزء الاول : الموت
فصل
اناشيد الشتاء تغرق في الضباب . تترك في ذاكرة الشوارع نشوة لا تنسى . زواياه الباردة تحفل بالصمت ، فأتجمد في حلمي كشجرة غاب قديمة .
الصوت ينحني ، يتلاشى في الفضاء العريض ، ليس للكلمة الا ان تسقط في الوحل . السفن البائسة تخترق اذني . تلك الازاهير تبتعد ، تتقيأ الالم السرمدي . تورثه الاجيال و الحلم .
حكايات الحضارة تغرق في المحيط . قيل حتى مياه البحر ، بما فيها من اساور و تواريخ ، قد التقمها الذباب في لحظة اسارة ، فصارت معدته ينابيع دافئة .
قلب العالم يتقاعد كأرملة . لا مكان لحلم الانسان ، لا دفء و لا نشيد . سنابل القمح تعري ساقيها ، تنحني خجلة فما في رؤوسها سوى الهواء الثقيل . اجل ، للمغيب الف اغنية ، لا يعرف عنها الفلاحون شيئا.
السنين ترتجف ، قد اكل قشرتها الاطفال ، فلم يبق للإنسان فسحة تسع ابتسامته .كلا ، من الكذب جدا اتهام الجسد بآثام الانسانية ، فحب القمر غير محتاج لدم الطبيعة .
ليس لي الا ان احتضر . و ليس للحضارة الغالية الا ان تسأم كل قطرة صفراء في المحيط . للشمس اشراقة تجعل الشجر قصائد ساكنة لا تعرف شيئا عن الخلود . هكذا تكذب الحضارة ، تتكاثر في اوردة غادرتها الاجراس ، تتمدد شارعا قديما ، اثلجه قلة السائرين .
هناك الابتسامة باردة . ترتجف كنعامة تكاثر راسها تحت الارض ، في اذنيها ينبت الشوك و الجياع . الدماء تملا السواقي ، تلتهم عروق الاشجار ، فيتلاشى الحلم كبقرة هزيلة . كلا ، قلب الفلاح لا يعرف الكذب .
المدينة تسعل ، تتقيأ الجمال ، تصنع من لعب الاطفال بنادق واجسادا معتمة . النساء تستطيل ، تنتفخ بالصوت . الحضارة تسعل ، تبتدع تاريخ الدموع ، كلا الجمال شيء اخر .
كل شيء يدور بلا رحمة ، حتى الازهار اصبحت شاحبة ، قد تكاثر الذباب في احشائها . الارصفة تتقيأ الموتى ، خلايا راسها تعفنت ، في احضانها يتفجر الشيطان كقبلة – هناك و ببرود – يقتل الشمس .
فصل
عيناي يملاهما التراب . اذناي تخترقها الحضارة الناعسة . اكاد لا اعرف كيف يتاح هذا الهواء لرئتي .
السيول ما عادت تكفي لتضع حدا لهذا العالم السقيم . جسده شاحب كعصاة لا حراك فيها ، ليس هناك سوى زحف جنوني نحو الظلام الرهيب .
اجل ، لا بد من الموت الجديد . هكذا اخرج من خاتمي شبحا للسلام . اجلد ظهر المجرة بالصوت العتيد .
الوديان تختنق بالنمل ، تنطوي كمائدة للجياع ، تتكدس اجسادهم رملا رخيصا ، يردم شقوق الشيخوخة في وجه الحضارة الغاربة .
اجل ، الفشل ارث هذه المجرة ، لكي لا يقال ان الانسان لا يعرف شيئا عن الخلود ، و لكي لا ادعي ان الحياة قد تقاعدت في موسم البذار ، سأخرج بقرة هزيلة تملا الارض بالنداء ، و لا تدع للمكان فرصة للرحيل ، هكذا تنشطر الكلمة ، كنجمة تسبح في النهر .
العالم يصغر ، عظامه تلتهمها الروائح الكريهة . كلا الروح ابتسامة للجمال ، اما هذه الحضارة فما هي الا مدينة للموت .
العمر جداول قاسية ، تملأها العصافير بالأغنية ، تعلم الانسان الحب و الحياة ، انا لا انكر بهجة المدينة ، و لا انسى الوانها الزاهية على زجاج عدستي ، لكن ما تراه من الدموع ، يكفي لان يصمت الانسان قليلا .
فصل
زنبقة البحر حينما تبزغ اراها ، رغم اني انام على وسادة عمياء .كم قد حدثني القادمون عن الفضاءات البعيدة ، لكني دونما وجع نسيت حكاياتي و جلست في الزاوية كعارف كبير .
السنين ترتجف قد اكل قشرتها الأطفال . لم يبق للإنسان فسحة تسع ابتسامته ، هؤلاء الجاثمون قد جعلوا من الليل فاكهة غارقة في النسيم ، لكنها لا تزال معتمة .
عندما يتخلى التل عن امجاده العظيمة ، و عندما انسى اسئلة لطفولتي ، حينها يمكنك ان تتصور كم هي ضيقة فضاءات رغبتي .
القمح و الزهور رائدان عظيمان ، يصنعان من طرق الموت غابات تسحر العيون .كيف السبيل ؟ و ما هنالك سوى طيور قد تجمدت منذ شتاء بعيد .
هذا هو العالم الجديد ، يطل من النافذة دون مقدمات جيدة .تتبعثر حكاياته السمراء بين اغصان الكرم ، كأجنحة بلا وطن او حنين . عند الساقية هناك تنتظرني ابتسامة ريفية قلبها الداكن لا يعرف العشق . اجل لقد تغيرت الزهور ، و ماء النهر اصبح هزيلا لا يتسع لانتظارات الكادحين .
لمن تقطف الازهار و لمن تشعل الشموع ، الموج حطم كل فراشة تذوب في حنينها الى نسمات الغروب الساحرة . الطرق واهية تدور دونما رجوع . اصابعي و نداءاتي لا تكفي لاجد نقاط بدايتي .
الصمت يتوسع في نسمات بشرتي .يهذي كنوارس بحيرة قص المساء اجنحتها .فلا سماء عالية و لا ساحل حبيب . سأتخلى عن فكرة الخلود و الحياة السعيدة . فهذا العالم لا يبق للبهجة ظلا حينما يتحدث عن رغباته الحبيبة .
بداياتي شاحبة . قد استنزف ثيابها الشتاء . اصابعي تبخرت ، اطاح بها الحطابون كأغصان تختبئ بين وريقاتها كل حضارة ، لا احدث بأسرارها العظيمة .
ان الطبيعة بارعة في اطلاق كل حكاية ممكنة ، وكل حمامة تهمس في اذني ، تخبرني عن ذلك الطوفان الذي سرق اعشاش الطيور ، فلم يبق سوى بشرتي الداكنة ، و عربة سحرية نحو الضياع .
رغم ان الضفادع نقية ، الا انها تعشق المياه الاسنة . و رغم ان هتافاتها تلون وجنتي المساء ، الا انني لا اجد مسامعي تواقة لغنائها العظيم .
سأسقط في البئر ، فلوحاتها تخلو من الاسماك و اللؤلؤ ، اجل اللآلئ رسالة كل موت ، و اغتصاب للحليج .فينام جائعا على رصيفه الذهبي .
تلك المستنقعات المتمددة كعذارى و سط الظهيرة فوق ظهري ، تلك الايدي ذات الاصابع الطويلة جدا ـ تقطفني كأوراق الخريف بكل ود .مرحى ايها الخليج السعيد ، فالغروب ممتلئ بكل رقصة ساحرة .
القدس تتثاءب ، تبرز من بين اضلاعها جماجم الطفولة المسروفة ، مرحى ابتسمي ايتها العواصم الجليدية، ايتها العصور .
الليل يسير على ذراعين من اسفلت ، و انا تلك الحجارة القديمة في رحم الارض ، اتخم شجيراتها بكل سعال مرير . اسناني لوحة للجمال ، و شفتي المتساقطة في واحة الشوق حكاية شيخ مر يوما بقريتي .
اقتربي اقتربي ايتها الاهازيج ، ايتها الاشلاء التي اعرفها ،ها انا اتوقف كالموت . عواصمي يلتهمها الجراد ، و فمي يذيب كل قارب غريب . مرحى مرحى ابتسمي ايتها الحرية .
لقد انهت الظهيرة كل شجيرة ساكنة ، فوق اغصانها تغني الضفادع الهزيلة , هكذا اخرج خريفيا كالشقوق الخشنة فوق ايدي الفلاحين .
فصل
ها انا احيى لأرى العالم الجيد ، ما عدت طفلا . في فضاءات الغروب كل كوكب ينزف بالسلاح . هناك – في العتمة – يعطي البرود احفاده دروسا في اشعال الطبيعة . كل الرياح شاحبة . الاسلحة تخنق ذاكرتي ، تقتحم المكان ، توزعني رسائل عشق ابدي للجياع .
الاقلام لا ترغب بكتابة شيء ، فالجمال هرب خارج المجرة ، يبحث عن عاشقين جدد . العالم يختبئ في قارورة قديمة ، حتى الاعياد ، ما عادت تطلق الهواء الجديد .
انا لا استغرب كل هذا الالم العريض، فقد تعلمت الاسباب الكافية . الرغبة تجعل من الجمال مركبة ، ليس لها الا ان تصطدم بجوانب الطريق فتحيى .هناك لا تجد للأشجار ظلا ، لقد كانت ريانة كما يجب . انت تعرف ، قلب الانسان مدينة من الجليد ، و ذاكرة توقد في اعماقه الرعد و السحاب .
هناك تنكمش الشوارع ، تطفو في سماء الصخب كمرضى تدوسهم الاقدام . الاطفال يتكاثرون في الابار بحثا عن اسطورة قديمة . حينها كنت طفلا ، فالماضي اطلالة عريضة يعلمني التخفي , اذناي ثقيلتان كالجبل ، لا تجد فيهما شيئا من الرحيق .
مواسم الخصب ما عادت تمتلك ثيابا تستقبل بها المطر ، لقد اوصد البرد ابواب افئدتها ، مفاصلها تهذي ، اي خلود تعرف عيون الانسان الوقحة . خير للتاريخ ان يسال الارصفة متاع سيل قد رمى به البرد الى جانب عتيق .
العالم شمس جائعة . كل ما يجيده اشعال الفتيل فيغرق البحر في الدموع . اجل ، ما زال السيل يحمل ذلك المعنى العظيم ، رغم انني اصبحت مقتنعا ان الخرافة تستطيع ان تسكن البيوت المريضة كمركبة حديثة .
كلا ، انت لا يمكنك ان تتصور غربة الارواح التي تتعثر في الطريق . البعد يأسر المكان ، و كما ترى ، ما لهذا الانسان الا الحكايات الشاحبة . انا لا استغرب كل ذلك البرود في وجوه الاشياء . اعضائي تنشطر كحبات الرز ، تختبئ خلف ابتسامة الليل العريضة ، تتمدد كالوهم في الحقول ، انها جذابة و فياضة ، انها مبهرة .
في ذلك الفضاء العريض ، الذي لا انسى ، لا يبقى للإنسان قارب يسع اطفالا يخرجون من الفرات ، جباههم السمر قد رسم النهر عليها كثبانا من الرمل الرفيع ، انني اتذكرها كما يجب .
ليس صعبا ان ينزل الانسان من السماء ، و ليس صعبا ان يقف كشجرة قديمة تنتظر البهجة و الموت . اصوات الليل تثخن شرايين الانسان ، فلا يسري الخجل الى دمه .ها انا ارى الطائف تتكاثر في المكان ، تدمي جبين النور الرفيع ، فتغرق المجرة بالعارفين .
فصل
الغروب يعبث برؤوس الاطفال ، ينثرهم في الحقل فراشات حاملة ، فترتدي الاشجار قبعاتها الناعسة . توقفي توقفي ايتها الاقدام .ايتها التعاويذ الميتة ، فروح الانسان لا تحيى دون صبية يلعبون في الوحل .
لا زالت الاشياء تجرني بنظراتها ، خيمة قاصية انا و مناضل يفتخر بنفسه ، اجل انا الوحيد الذي يعرف معنى الحرب ، لأني اتحدث عنها بصدق .
العاصفة تغير وجه الماء ، و كذلك الحرب ، تصنع من القلب الجبلي عشقا ابديا للعابرين ، فلا يبقى للوديان سوى صدور مهشمة و اصداء .
الحرب لون قاتم للفجر و غناء يسرق قداسة الدموع ، انها حكاية سمراء لا تودع اسرارها الا في كل ساحل مظلم . اجل العيد و الحرب ، كلامهما يعزف لحن طيور مهاجرة ، قد نام بين اجنحتها صوت الشمس الدافئ.
للحرب رقصة جهنمية خبأتها في جبيني منذ عهود ، بين اطلالها سيقان اطفال عارية ، و فوق مياهها كل زورق يبحث عن شراع . انت لم تكن حاضرا بداعة مشهدها الاخير .
لقد عاد الجنود ، لقد عاد الجنود ، و عواصم اغنيتي تطن كبعوضة نحيفة ، تبتلع الضجيج و الاسئلة . لقد عاد الجنود ، مفاصلهم تئن كالثلج ، قبعاتهم تتيه في الطرقات ، كعذارى قبل جباههن الخريف .
ها انا اسمع الاساطير ، التي تنزل من هناك ، هكذا سأعود و شفتاي مدينة غفت على ارصفتها تلال غير ملامحها المساء ، تغوص في رمالها حكايات جنود سعيدة .
هكذا اخرج بين الادغال فجرا جديدا يهدي المجرة كل شيخوخة تعرفها السنين ، هكذا انزل الى النهر بقرة تعشق النذور ، تغرد في راسها الظلال الغاربة .
الجزء الثاني ( الارض )
فصل
يعجبني لون الفجر ، يملا رئتي بانفاس الثائرين ، فاتلاشى في عشق الحرية ، عندها لا يبقى للكلمة الصفراء فسحة على شفتي .
عيناي احملهما فوق ظهري ، و يداي اصنع منهما قاربا يفيض بالعائدين . انتظري ايتها الافياء ، انتظري ايتها الفصول فقلبي لا يزال خفاقا رغم هذا العالم الجريح .
اليك يا سيد الكونين الف سلام من عاشق غريب ، و للفجر اغنية خضراء من يديك ابتساماتها . اليك و شفتاي تذوبان في قلب الزمن الرخامي ، هكذا يذكرني الفجر بكل دفء .
يا صاحب الهم الكبير ، صوتي متحجر وسط مدن تفيض بالنجوم ، تتيه انوارها فوق وجنتي كسنابل ضائعة تبحث عن سائرين .
اليك و انت شاطئ فسيح ، ما عادت تلك القلوب تجيد سفرا اليه . انها الاشراقة التي تنتزع الحدود داخلي ، فلا يبقى مني سوى صوت يتجاوز الحرية و المكان .
يداك اراهما ، تمسح عن جبيني غبار انتظار غريب . ترفعني بداية انتظر امطارها . فتعلن الارض بدابة موسم النماء .
اليك كل فراشة تتمدد فوق ازهار ذاكرتي كلآلئ بحيرة ناعسة . كل ابتسامة تتفجر في السماء و عيناك تحفظ ابتسامتي حينما يكثر الغبار ، ايتها الارض الجحود ، يا عواصم الجليد ، انتظري انتظري النصر .
فصل
سانتهي في عشق هذي الارض كفراشة مبهورة بين الغصون ، فوق راسها تاج من السنن .هكذا اخرج من بين شقوقها حلما ذاب فوق شراعيه صياد قديم ، تصافحني سنابل القمح .
مفاصلي تغفو بين جفون المساء ، الوانها خيمة تجمع حول نارها فتية يضحكون ، تمسح رؤوسهم ايادي الريح و المطر .
هكذا يتمدد المساء فوق رصيف ذاكرتي ، يلثم شفاه الاشجار ، كعاشث عاد قبل عام الى الوطن .
اوزاتي تتجمد كالعنبر في واحات هذي الارض ، اصابع الشمس تعبث بشعري كل صباح ، توزعني رسائل عشق آسرة فينام بين ضحكات سطورها اطفال قريتي .
اجل مقاهي الحلة تكفيني ، تصنع من اطرافي طائرة ورقية يلعب بها صبية في الجامعين ، اجل هكذا اتلاشى باقة وردة لعاشق اسطوري ، في جيبه مدينة من الطيور و الشجر ، ينثرها فوق رؤوس الغابرين ، الوانا من بخور جدتي .
هكذا اخرج فراشة واسعة العينين ، يتناثر فوق جناحيها صبية حالمون ، تهمس في اذانهم عصافير الصباح .: ( ان القمر نزل البارحة عند الفرات ، و قبل جباه الشوارع و الساكنين) ، اجل هكذا يشرق الفرات و سط الظهيرة يخلق السنين ، فتذوب على ضفتيه اصوات الشيوخ النحاسية : ( فرات لم تزل تراتيلنا خضراء في السحر) .
فرات يا سيد الصخور ، تحت ثيابك تختبئ كل طفلة اذهلها ضوء الرعد في المساء ، و صوت امها يذوب : ( ان الفرات سيشرب الرعود ) ، فتغفو الطفلة فيك يا فرات ، و اغفو كعارف يعيش في مغارة في القمر .
فصل
عراق ، قبلة الحرية على جبينك انشودة توفض السائرين ، في كربلاء حزن الخلود و في سامراء كل شمس واعدة ، و على دجلة باب السماء العريض . اجل الارض تجدب دون دم او دموع .
اجل ساذوب في حبك كالاعياد في بلدي ، دونما بطئ او عبارة مؤجلة ، فالحرية لا تعرف الاناشيد الحالمة ،لا بد من يد و ابتداء . لا بد من حسين يحييى العالم الغريق . يشق قلب الزمن الرخامي . يضرب في الصخر حتى يشرق الامل الذي لا انسى تلفتي مبهورا فوق راحتيه .
سانتهي في حب دجلة و الفرات ، فكلاهما يدان طالما تلاشيت في عشقهما الرفيع . هي ذي بدايتي نحو السماوات التي اعرفها ، المليئة بكل دفء ، هي ذي حكاياتي تتساقط كشلال يقبل جباه الثائرين . اجل هكذا اتعلم الانشودة الحمراء ، هكذا تبتسم السماء لعاشقيها ، و تشرق من هناك من يديك .
اجل الارض و الماء و الهواء و السماء لي . من بعداد تشرق السنابل بالف ضوء ، و من كربلاء الف دم الف يفور . ، فاتبعثر في ازقتها حمامة غرقت وسط الظهيرة في الفرات .
يا سيد السحاب و المطر ،و كل حرية حمراء لا تعرف الذبول ، يشق انتظاهرها خجل عريض ، فتنتهي في حنينها اليك كعروس ذاب في احلامها الموت و الزمن .
يا سيد الحرية الحمراء يا حسين ، في جنانك يشرق العاشقون كشجيرات ندية يلثم شفاهها الصباح .و بين كفيك تختفي النجوم و الاساطير كظل جليدي نزل ذات يوم مع المطر .
فصل
في الظل الشفيف تنحني الاغنية ، تقبل الارصفة ، تجعل من افئدة الشيوخ موانئء للذكرى و حروب .
كلماتي تبحر هشة ، تتناثر في المكان ، كساحرة اسطورية ذات مجد بلا حدود ، حينها يمكنك ان تتصور نهاياتها المؤلمة ، رغم كل ما ارى . لا بد اني سامتلك الشروح الكافية . لا بد اني ساخجل كثيرا و اعتذر لكل نخلة و خيمة قاصية .
في المساء اتجمع جيشا اسطوريا لاغرق في المحيط ، عندها سابتسم كراهب يعرف الكثير . ساخرج نزبقة شاحبة لا اهتم بالشمس و الخلود .
ثيابي تتبعثر في المكان ، كبيوت قريبة قديمة .الخيبة تتخلل اغنيتي ، القدس تسقط في غيابة الجب ، يوسف يبحث عن سيارة جدد ، هناك في قرارة البئر سيشرق الجمال .
لقد تركت النجوم اثارا فضيعة على حلمي . لولا اني لا اعرف شيئا عن تاريخ الشعوب ، لولا اني لا افهم الكثير مما يتفجر في راسي ، لكنت حتما و دون تردد ، صخرت برية تنبت بالزهر .
سيناء ترتيل شائكة . ظفائرها نسمة تتيه فيها الاسماك .ابوابها العالية قد سرقها النمل ، فتجمدت سيقانها كالصنوبر في الشمال .
قلب مكة قد ابيضت عينها من الحزن ،فلتاتي الرمال القاسية ، تورث جبيني قطعة حلوى .الحرية لا تعرف الشفاه الباردة ، لا بد من يد و ابتداء .
الايام تختبئ ، و رغم مضلاتها العريضة ، الا ان المطر لامس بشرتي الندية ، فخرجت فوق حقولها طحليا عقيما و اعمى . منذ عصور وانا ابحر في سواقي ذاكرتي ، بقايا ذلك الحطام الرهيب .
الليل حياة مؤجلة ، و وعد اسطوري بالخلود ، تفيض القسوة من اذنيه ، الليل مدينة الحلم ورغم انها شاحبة الا ان فيها زقاقا يسع الجماهير .
الجزء الثالث : (الحياة )
فصل
ساذوب في قصائدي كنعامة بلل احلامها المطر . ساتلاشى في شقوق هذه الارض ، فالحب عالم غريب يتمدد فوق الطرقات ، يسرق رغبتي و ابتسامتي البافعة .
المسافات الواسعة في ذاكرتي قد جمدها نزيف الشوارع و الساكنين . المركبات الباردة لا تعرف شيئا عن الجمال .
انني اعرف اشياء لا افهمها ، اقترب ايها الصوت ، امنحني فرصة كافية . لغتي تنشطر كاوصال شهيد مثخن بالجراح ، الغربة تقتلني ، اشعر اني انتمي الى اجيال قادمة ، فدماي قد خباتهما في متحف قديم ، راسي يخترق صخور الارض ، يتلاشى في سرعة الكلمة ، كعاشق يجر الضوء خلفه فلا يكون .
للكلمة الف جناح يملؤني بالخوف . كيف السبيل لان ارى ؟ حب الارض لا يكفي ، لا بد من المجانية الكاملة . اجل ، حينما يصبح للزمن جناح يرتجف ، و للمكان قدم تمشي ، عندها ساجمع انفاسي ، كباقة ورد تبتسم للغد القريب . هنا تتجمد الكلمة تحتاج الى شعر اخر ، الى اجسد يرتجف .
دمي رسالة باردة . الاشواك تتخللني . جراحي تتكاثر في حقول اللغة كخيمة بدو قاسية . ما زلت احفل بالنقص . اللغة تبحث عن بحارة جدد ، كلا ، الشمس ما عادت تكفي رمزا للحرية . البعد يكبلني ، ما زلت ملتصقا بالارض ، كلماتي تشعر بالبرد ، اطرافي تتجمد كقطارات يقطنها مسافرون من ثلج ، انني حجل جدا .
ها انا اتغذى بكل قسوة ممكنة . ها انا انتظر . فلياتي ، فلياتي الزمن الذي لا انسى . للحب ذاكرة لا تعرف الدموع ، و الموت . ها انا اتعلم رغبة الاشياء . وجه الماء مرآة كل معرفة .
هكذا يفترس جسدي الارض كظل يحطم مملكة نمل عظيمة . وحيد كالحجارة انا ، الحجب تصنع من حنجرتي مركبة لا تصلح لشيء ، لست نقيا كما يجب ، مفاصلي شبكة صيادين في بحيرة قتلها الملح ، صوتي يتكاثر في الرمل كصنم اسطوري يتخلل بشرة الجيل الجديد .
الموج الصعب ساعرف رغبته . بهجة الازاهير ساعرفها ، ساصمت لعلي اتذكر شيئا ، سانتظر كشجرة ارز تفيض بالعائدين .
ركبتاي اثقلهما الصدا . جبيني يلتصق بالارض ، الفرحة تتجاوزني ، كم يخجلني هذا النقص ، انني اتهيء بما امتلك ، امنحني فرصة كاملة . فعلا سيل انا من الاعتذاء و النداء .
ها انا اتعلم الاغنية . عيناي لن تسقط ثانية ، يدي لن تهذي ، هذا عهد و احتفال .
الان اشعر اني اكثر نضجا ، اسيل فوق الظلام كالندى . لا اترك نافذة للشمس ، لغتي تصفع وجه الارض ، كل هذا بحجة اني عاشق للجمال ، و باحث عظيم .
ها انا اتساقط بصمت و غربة كاملة . كلماتي ترقد في اكفان من الرياح ، و ملامح وجهي مؤجلة . لست مضطرا ان ارى القمر كالعاشقين ، فانني لا زلت اسمع اخبارا عن اناس ذابت في احلامهم مدن باسمة . من هنا ، تعلمت كيف ابحر هلال يعلن بداية الشهر الجديد .
فصل (2)
كلمات الرب امل بهيج ، بابه الواسعة لا تفتح الا بالحب . اني اكاد اتلاشى كالنعامة في خجلي . ارى اثار حبك على وجه الزمن ينابيع تفيض بالثائرين ، في اوانيك ينزل القمر كل مساء ، فيلعب به الاطفال حتى تغفو عيونهم ، بعيد كالحجارة انا لا ماء و لا زهور . كلماتك كالاعياد تلبسني الثياب الجديدة .
حينما يتصفحني قربك الحبيب ، ككتاب رث ، امتلئ رعبا ، هكذا تهبني الحياة الصادقة .ـ الامل الوحيد .
شكرا للربيع يعلمني ثورة الحياة في اغصان الجماهير اليابسة ، شعبان شهر المطر يملا الارض بالعهد الجديد ، فيه تفتح الاشراقة جفنيها ، لست وحيدا العالم يصغي ، يصرب في الصخر حد القرار ، يشق بذر انتظاره ضياء في رحم الكون ، فلا ينتهي سرور الارص ، هناك في كربلاء نلقتي بلا دموع .
فصل (3)
الندى يتجول في الشوارع كالباعة و الاطفال . يقص عليهم كل حكاية مفرحة ، كل مساء يخترق اوردتي ، يجعل من ذاكرتي عصافير تردد نشيدها القديم .
لغتي ليلة عيد باردة ، دونما خجل سكنت قلب الشمس ، تساقطت ورقا مصفرا دون عناء ، بتلقائية كاملة هكذا اراني سرابا احمل في جيبي حلوى و وعود .
ساغوص في اعماق الارض عسى ان يجدني هواة ينقبون . ساصمت عسى ان تسمع الفوضى صوتي .هكذا اتعلم كتابة التاريخ الجديد ، حيث لا اعرف الماء الا خلا يجفف دم اوردتي ، يضع الحب في جيبه ككمثرى مظلمة ، شيدت العصافير في ثقوب عظامها اعشاشها الامنة .
انا اخر ما كنت ابحث عنه ، ها قد تعلمت ان استدير بلا حدود ، مدينة انا بلا منار يناطح السماء ، اجلس وسط التل ليس لشيء سوى اعتداء على الطبيعة . مرحى مرحى ايتها الكلمات البائسة .
فصل (4)
لست ظلا لامتلك كل ذلك التاريخ العظيم . اطرافي تدفأ بها الحطابون . اللغة اقفلت دكاكين بهجتي ، جعلت مني شبحا اسطوريا قد غادرته رغبة الحياة .
ها انا ارى اعشاش الطيور ، تحملها مركبات الا تنتهي ، اجل للطيور قلب عامر بكل حكاية حبيبة .
اللغة مسامير صدأ ، لا تعرف شيئا عن الحضارة ، عيونها اوراق من المطر ، تصنع من قلقها عكازا متعبا قدماه غائرتان في الوحل . في احضان هذه البهجة الاسرة اكاد لا اميز وجه الارض عن اجزاء من كتفي اتبجح انها راقية . اجل لا بد اني سامتلك كلمات البحر حينما اتحدث عن الاشراقة داخلي .
فمي يتفلت وسط الكلمات . الحرية تتدفق من اذني كالنمل . انني اتلاشى في سرعة الكلمة كعاشق يجر الضوء خلفه فلا يكون .ما عدت قادرا على ان استحم في الفرات ، ان اجد في دمي مركبة ابحر بها نحو الشمس .
ساذوب في المي كأنشودة فلاح ينبت بين القمح .حقيبتي تفيض بالسائرين ، ليس لي سوى ركبتين اتلمس بهما وجه الارض . ليس لي سوى شوك يلتهم مفاصلي ، ينثني حول حلمي كبائعة لبن بارد قي صباحات الشتاء .
هكذا اكون قد تعلمت الكثير . حينما يصبح الشعر اثرا ، و حينما تنكر الكلمات شاعرها، فاعلم انك تنظر الى ليلة عرس تفيض بالجفاف . اجل انك ترى ما ارى انه احتفال ، انه التلقائية الكاملة . اجل انك ترى ما ارى كل شيء يغني كل شيء يريد .
فصل ( 5)
لست مضطرا ان اهذي كقصبة يصنع الظلام من راسها قبقابا ورديا لزبائن حمامات الحلة القديمة . ها انا اتفجر كينبوع ماء اسن ، القلق يلتهم اصابعي ، يصنع من اغنيتي ازمنة مثقلة بالصدأ ـ هي اخر من يتحدث عن الحرية و الجمال .
صوتي ليس حضاريا كما يجب ، ليس لشيء ، سوى ان كلماتي تتساقط بغرابة كاملة .المساء يفيض من اذني كقطار يخترق حلم الاشياء ، لكي اكون حضاريا كما يجب ، لا بد ان يذوب الظلام في دمي ، و ان اصبح كالثريا بلا الم بلا رجوع . تبا متى تنتهي هذه الفصول، فتبدا الحياة .
فصل (6)
اليك ايتها الانهار النازلة نحو الجنوب ، نحو عالم يغرق بالثلج ، اني لاستغرب لابتسامات الشتاء ، كيف اودعت في حقائبك اسرارها ؟
انتظري انتظري ايتها الفصول ، فاقدام الزمن العريضة تتعثر بكل ابتسامة ناعسة ،و كل وريقة قد احرق نهاياتها المطر ـ انني اراها و اسمع نداءاتها الشفيفة .
ايتها النذور ، ايتها النذور ، الا تعثرين على المي الحزين ، على الجسد الغريب ، فها انا ذا شلال طويل من الحكايات الداكنة ، رسائل الزمن الجديد ، الحرية الجديدة .
اقتربي اقتربي ايتها الاشلاء التي اعرفها ، ما عدت اجيد الغرق في عشق الحرية ، ها انا اتوقف كالثلج ، عواصمي يلتهمها الغبار ، و فمي يغتصبه كل قارب غريب ، مرحى مرحى ابتسمي ايتها الحرية .
فصل (6)
انا ارى هذه الساقية ، لاني رايت ساقية قبلها
انا ابحر بالونا في فضاء هذه الورود ، لاني عظامي تآكلت قبل عام ، و ازدهر الصدأ في احلامها .
انا اسمع هذا الصوت ، لاني سمعت صوتا قبله .
انا اتلمس وجه الشتاء ، لاني صفعت جبين العنف داخلي ، كراهب نزل في سلة مع المطر .
انا ا شم رائحة الحضارة الميتة ، لاني شممت رائحة الحرب قبلها .
انا امتلك عاوصم الجمال ، لان اصابعي تحتضن قلب الارض كجذور سدرة بيتنا القديم .
انت تخرج من لون هذه الكلمة ، لانك دخلت في لون كلمة قبلها .
انت تطارد حنين الفراشات لانك كنت حاضرا بداعة الغروب .
انت تعيش هذا العشق ، لانك ولدت في عشق قبله .
انت تسير في مجرة من الالوان ، وحولك البهجة في ذهول، لان ركبتيك غابتان من قصب ، حملت اليها الرياح فلاحا اسطوريا سقاها بدمعه البريء .
انت حينما تقوم في الصباح ، اكذوبة ناعسة الجفون ، مرايا من القمح بقبعاتها و ثيابها المزخرفة .
انا حجارة صماء ، تشرق في لحظة سحرية ، لبلبل الهزار في حكايات جدتي الشتائية الآسرة .، معانقا همسات اللون و الشوق المتجمد في رئيتي كمقاتل عظيم .
فصل (7)
افق احدب، فوق ظهره اعمدة سوداء صلدة ، امامها اناس جالسون ذوي اقدام واسعة ، تدوس اشلاء مهشمة .
او :
القدس اغنية تغتصب تحت الشمس ، مرحى فلتبتسم الانسانية و ضميرها العظيم .
بناية شاهقة ، امامها رجل اجوف طويل ، احدى قدميه تعلو سلة نفايات قد تجمع فيها ثلثي سكان الارض .
او :
هكذا في العالم البعيد ، ينزل انسان من السماء ، و بقية الارض طحلب رخيص . كلا لا مجال هناك للحب و الجمال .
حقل واسع من الزهور يتجاوز المشهد و الاطار ، في الزاوية البعيدة بئر تغرق في الوحدة ، يتجمع في قعرها المظلم اكوام من العظام و الحلي .
او :
صدور الثائرين جنائن معلقة بالعرش ، تختبئ في فجوات الزمن ، تاركة المكان لكل فناء بهيج .
فضاء فضي ، تخترقه خطوط افقية من اللانهاية ، تتجاوز طرفي المشهد ، لا تترك من المكان الا مربعات حمراء متازحمة في الجانب القريب .
او :
الحرية فراشة ناعسة ، لا تعشق الا كل زهرة باسمة، او كل موت ينثر حياة بلا حدود .
مساحات عريضة سوداء ، تنهض بايدي و ارجل حديدية ، قمتها المربعة صلدة جدا .
او :
الحضارة تنتفخ في الهواء الطلق ، تدنو من شلالات ذات ابتسامات عريضة لا تنجب .
فضاء رملي واسع ، ذو حركة ملفتة ، تغطيه طبقة من الرياح الثقيلة ، هناك في الجانب البعيد ، اشلاء متساقطة ، وهنا اعمدة ذات الوان صافية .
او :
سيكون للاصوات ابتهاج لم تر مثله من قبل ، حينما تحدث خيانة عظمي .
بناية واطئة ، يبزغ من جوانبها نتوءات مستطيلة ، فتبد كتاج رث يتجمع فوق سطحه كثبان من القش .
او :
من المحزن اني اردد اغنيات قديمة ، هكذا هكذا تتوقف الانسانية ، هكذا انا تتجمد .