( التجلياتية )







صباح شتوي
انني و باعتباري تلميذا مبتدئا أخرج كالعادة الى بستان جدّي كحكاية مبللة، الا انني الآن اصبحت رقيقا جدا كقشرة بصل، حتى أنني أستطيع رؤية تلك السمكة النائمة في قاع محيط غريب، لقد صرت شفافا لا يمكن لأحد رؤيتي، حتى أنا وهذا شيء غريب لكنه دافئ. أجل الدفء شيء مبهج، يذكرني في هذا الصباح الشتوي بمفاصلي التي تغني لعصفور أكاد أرى روحه الشفافة بوضوح. انها تشبه ريحا قد تعلمتُ صوتها في الفترة الاخيرة. انه شيء ساحر و كل ما يمكنني أن أخبرك به أنها مشرقة و برّاقة تلمع كزهرة نرجس خرجت توّاً من بركة ناعسة. أجل البركة ليست مثلي ، انها مدللة لا تصحو باكراً، لكنني أشعر بها بقوة. ماؤها شيء لاذع كمرآة قديمة لا تكذب، انه يمزق بشرتي الى مدن صامتة، يزرعني في الطرقات صقيعا ً مرّا، لأنه و ببساطة بارد كعينيّ، لذلك – و لأنني تلميذ مبتدئ- فكل ما يصلك مني هو بقايا صوت يتعثر.
 

• قصيدة تجلياتية
.
الكتابة التجلياتية من الكتابة التجريبية التي ليس لها مرجعيات فلسفية واضحة ، لكن ما ادركه منها ان كل شيء يطلب التجلي، برغبته بالحضور و التأثير ، فكل ما في الكون يرغب في الحضور و التأثير، و يمكن ان نقول ان هذه الغريزة المشتركة بين جميع الموجودات . لذلك فاللحظة الزمنية من وجودنا هي حالة تجل لعدد لا متناه من الاشياء ، و هذا هو سبب ثراء لحظات حياتنا البسيطة. لا يحتاج الانسان الا الى الاصغاء للموجودات و ان ينتبه الى كل شيء حوله في كل لحظة. هذا لشعور القوي بالاشياء يساعد كثيرا على ادراك رغبة الاشياء بالتجلي او ادراك التجلي الفعلي . و من هنا ففي حالة الكتابة التجلياتية تتجه النفس او الكاتب الى عالم اعمق من الشعور و الاحساس ، انه يتجه الى عالم الروح المليء بالعلاقات و الحقائق اللاواعية و المعقدة . ان التجلياتية انعتاق كامل من سلطة الوعي و النفعية و التوصيلية، و ابحار عميق جدا في عالم اكثر حقيقية و اكثر نقاء الا انه اكثر تعقيدا و اقل وضوحا . و لأجل تحقيق الكتابة التجلياتية لا بد من توفير لغة و كتابة مناسبة لها تتوافق مع البعد العميق المتجاوز للوعي . ان جمالية التجلياتية تكمن في انها تتجاوز حالة افتعال الخيال و المجاز. و انما هي تتكلم عن امور حقيقية الا انه لا يمكن الكلام عنها الا بلغة خيالية و مجازية. فاذا كانت التعبيرية شعورا بالذات و التجريدية شعورا باللغة مع فناء الذات، فان التجلياتية شعور بالاشياء و فناء للذات و اللغة. و اذا لم تترجم التجربة التجلياتية بلغة تجريدية فانها ستصبح تصوفا وهو وان كان شيئا متميزا الا انه لا يكون شيئا جديدا ككتابة فنية. و لأن الكتابة هي انعكاس امين و صادق للافكار فلا بد من ادراك البعد التجلياتي للغة كما يدرك البعد التجلياتي للافكار و هنا تكمن صعوبة التجلياتية ، لان توارد الافكارو انيثالها و هذيانية وسريالية الكتابة ليس امرا صعبا ، انما تكمن الصعوبة في اللغة التي يجب ان تكتب بها فمن جهة المحاكاة الصادقة لعالم الروح فان عمق الروح و خفائها يحتاج الى ادراك خاص، و من جهة اكتشاف البعد التجلياتي للغة فان اللغة التجلياتية اكثر تعقيدا من الرمزية و المجازية و هذا هو الامر الصعب لقلة التجربة فيه لانه يتطلب اتحاد وعي الكاتب مع وعي الموجودات و على قدر ذلك الاتحاد يمكن التعبير عن رغبتها في الحضور و الفاعلية وهو معني التجلي. و تكمن اهمية التجلياتية انها تجعل الانسان يدرك ثراء اللحظة الوجودية وهذا مصدر الهام لا متناه للكاتب بسبب لا تناهي الموجودات الى تتجلى او ترغب ان تتجلى في تلك اللحظة الزمنية. بحيث يمكن الكتابة عن اللحظة الواحدة بشكل لا متناه حسب قوة الادراك بالاشياء المتجلية او التي ترغب في التجلي في تلك اللحظة ,كما ان هذا الشعور التجلياتي يحقق السلام الداخلي للانسان و السلام مع الموجودات .

نظرية الأدب و علم الأدب


في الكتابات الأدبية لدينا ما يسمى بالكتابة الابداعية من شعر و قصة و نحوهما و لدينا ما يتناول هذه الكتابة من نقد أدبي و غيره . الا انني  وبعد ان اقتربت من اكمال الجزء الرابع من كتابي ( التعبير الأدبي ) ، المكرس لبحث ظاهرة الأدب و جماليته ، و لا ريب ان البحث في الظاهرة الادبية مهم و جميل ، الا انه ثبت لي و بعد مراجعات مستفيضة انه لا يوجد شيء اسمه نقد ، و انما هناك نظرية أدب فقط ، و لا يوجد ناقد بل هناك ( باحث او منظر أدبي ) . فمرة يتكلم الباحث فيها نظريا و يسمى خطأ ( النقد النظري ) و مرة يتكلم بها عمليا على النصوص و يسمى خطأ ( النقد التطبيقي ) ، لكن الحقيقة لا يوجد الا كلام و بحث واحد هو نظرية الأدب . و من هنا فهناك منظر أدبي و باحث أدبي او حتى عالم أدبي ، و لا واقعية لصفة ( ناقد ) .
و هذا الفهم اضافة الى كونه تصحيحا في الكتابة عن الابداع ، فانه ايضا يتخلص من العبء التقييمي و السلطوي للنقد كما انه يفتح الأفاق نحو كتابة بحثية أدبية علمية ، بمعنى آخر يفتح الباب مام علم الأدب . حيث ان العلم هو البحث في موضوع معين وفق منهج معين للوصول الى قواعد متناسقة بخصوصه . و من المعلوم ان الكتابة عن الابداع الادبي سواء كان نظريا ام تطبيقيا هو بحث في موضوع معين و بمنهجية معينة لاجل الوصول الى نتائج متناسقة بخصوص الابداع حتى في البحث التطبيقي حيث انه يسعى الى بحث تحقق التصور الكلي في ذلك الجزئي المبحوث .
من الباحثين من يشتغل على القصة و منهم من يشتغل على الشعر بل ، منهم لا يستغل الى على جزء متميز من ذك الجنس الادبي كالذي يعمل على القصيدة الموزونة و الاخر الذي يعمل على قصيدة النثر ، وهذه كلها اختصاصات و نظريات و يمكن مع فكرة الوصول الى قواعد متناسقة الدخول الى مجال العلمية . و قد يقال ان اختلاف مناهج التناول ( النقدي ) للنص من اسلوبية او بنيوية او غيرهما يعقد المشهد ، الا ان ذلك ليس صحيحا ، لأمرين مهمين الاول وهو الاهم و الاوضح ان البحث المادي الاستقرائي التفصيلي و التتبع التطبيقي التفصيلي في الكتابة الأدبية و استفادة الكليات من هذا الاستقراء هو الصفة المشتركة لجميع اشكال البحث الادبي او ما يسمى بالنقد ، و الامر الاخر انها جميعا تشترك في فكرة بحث الابداع على انه ظاهرة خارجية عن ادوات البحث و ليست جزء من النقد و هذا هو المقصود بالمنهجية الواضحة، حيث ان المنهج في البحث في نظرية الادب هو منهج استقرائي يتعامل مع الابداع كظاهرة ، و اما اختلاف الاسلوب المتبع فانه لا يؤدي الى الاخلال في طبيعة النتائج ، و انما يحقق اختلافا في الجهة المبحوثة ، ففي واقع الامر ان ما يتصور انه مناهج مختلفة في بحث الظاهرة الادبية من بنيوية و تفكيكية و اسلوبية و نحو ذلك ، ليس في طبيعة الاداة بالضبط كما يتصور و انما هو اختلاف في الجهة المبحوثة من النص ، و مثله النقد الثقافي و مثله البحث النفسي و التأريخي . فهذه كلها اختلافات في الجهة المبحوثة اعتمادا على منهج استقرائي ظاهراتي تقريري و اقعي كما هو واضح وهذا هو المنهج المعين المحقق لاحد شروط العلمية .
من الواضح و بعد هذا الارث الكبير من البحث الأدبي ، و الوصول في جوانب منه الى تدقيق كبير جدا و تقريرية كبيرة و نوعية صارمة تتجاوز الفردي ، اقول اصبح واضحا امكانية الانطلاق نحو على الأدب و ان شاء الله سيكون هذا مشروعنا في المستقبل و ان كان يتطلب جهد لاجل جمع ما توصل اليه من قواعد خاصة بالاجناس الادبية و اشكالها ، تلك القواعد التي تتسم بالواقعية و الموضوعية و التي لا يشك في صدقها . الا انني في المستقبل القريب و لأجل توفر الامكانات القريبة سأهتم بجمع القواعد الخاصة ( بقصيدة النثر ) في محاولة او مقدمة لبيان نظرية قصيدة النثر ، و اعتبارها مدخلا الى علم الأدب و مدخلا الى علم قصيدة النثر .


التكامل النثروشعري في قصيدة ( سومري يبحث عن أرض سومرية ) للشاعر ميثاق الحلفي




قصيدة النثر هي حالة التكامل في التضاد ،  انها ليست فقط حالة اجتماع الاضداد بل هي حالة تكامل تلك الاضداد المجتمعة . على مرّ العصور و الشعر يفهم انه ضد النثر ،  الا انهما و بشكل غير مسبوق يجتمعان في قصيدة النثر . اذن قصيدة النثر انجاز انساني منقطع النظير .
لقد صار معهودا تراجع النثر في النص حينما يكون المجال للشعر ، و ايضا العكس حاصل اي تراجع الشعر في النص حينما يكون المكان للنثر ، بل في بعضها ينعدم الاخر بوجود احدهما وهذه هي الضدية الكاملة ، اما في قصيدة النثر،  فالشعر و النثر ليس فقط يجتمعان و يحضران بل و يتكاملان و هذه هي حالة التكامل ( النثروشعري ) وهو امر لم يكن ليخطر على بال انسان حتى كانت قصيدة النثر .
لكل من الشعر و النثر خصائص كتابية و عناصر نصية ، حينما تتحقق تلك العناصر و تتجلى تلك الخصائص فان الشعر يتحقق و النثر ايضا يتحقق . في قصيدة النثر نجد خصائص الشعر و النثر حاضرة و نجد عناصرهما حاضرة في النص الواحد و في العبارة الواحدة .
يتجلى النثر في الكتابة بانسيابية العبارة و البناء الجملي المتواصل و كتابة النص بشكل جمل و فقرات ، و يتجلى الشعر بالرمزية و الايحائية و الانزياح و التقاط الصورة العميقة و تجلي التجربة الانسانية بمعادلات نصية. و من الواضح عدم امكانية تحقيق الاجتماع للشعر و النثر في الشعر الموزون فضلا عن المقفى لتعذر النثر فيها ، كما ان القصيدة الحرة – وهي القصيدة التي تتخلى عن الوزن الا انها تحافظ على الموسيقى البصرية بالتشطير و الموسيقى الذهنية بالتشظي – القصيدة الحرة ايضا تفشل في تحقيق اجتماع  الشعر و النثر ، فلا تتحقق قصيدة النثر فيها . اما قصيدة النثر المعتمدة على الجمل و الفقرات و المعتمدة على السرد و البناء الجملي المتواصل من دون سكتات و لا تشطير و لا تشظي ، و التي منها و من وسط هذا العالم النثري المتكامل ينبثق الشعر برمزيته و ايحائية و انزياحيته و التقاطاته العميقة و  معادلاته النصية المحاكية للعوامل الجمالية الانسانية المتخفية .
لقد استطاع شعراء مجموعة تجديد تحقيق النموذج لقصيدة النثر ، بصورتها التي يتجلى فيها الشعر و النثر و التي يتكامل فيها الشعر و النثر بكتابة قصيدة شعرية تشتمل على كل تقنيات الشعر بنص مكتوب بنثرية كاملة مشتمل على كل مقومات النثر ، و من هؤلاء الشعراء الشاعر ميثاق الحلفي ، و هنا سنجد ( التكامل النثروشعري ) حاضرا في قصيدته ( سومري يبحث عن أرض سومرية ) بتجلّ واضح للنثر و الشعر بالسرد التعبيري و الجمل و الفقرات و الرمزية و الايحائية و الانزياحات و التقاطات و الصور الشعرية .

 ( سومري يبحث عن أرض سومرية )
ميثاق الحلفي
( وهو يجمعُ سُحبَ الهورِ العالية ، وينقلُ رسائلَ العشقِ من جيبٍ الى جيب ،يُغسّلُ موتى البردي بمشحوفِ أبيه الذي استعاره من صيادٍ نفقَ سمكه ذات جفاف. وحدكَ ايّها النهرُ تعرِفُ الغرباء وتفهرسُ احلامَ فتيتِكَ وأشلاءَ ثواركَ ،تعرِفُ أثارَ الجّلْدِ ، ما من أصبعٍ مبتورةٍ إلاّ وسامرته قيثارتك. يامَنْ لَمْ تخنِ الطينَ حينَ كانوا يحملونَ المشانق ، كلُّ جرفٍ فيكَ تاريخٌ. كنتَ تمسحُ على رؤوسِ اللقالقِ ،تُدوزِنُ تقاسيمَ انبعاث الضوءِ على أكفانٍ غير مدفوعة الثمنِ،ت َعدّ العصافيرَ على قواربِ القيامة، أيّها الخارجُ من فوهاتِ الجراح، أحقاً تموتُ تحتَ المطر وتسقطُ نبوءة السماءِ وتدفنُ وجهكَ بينَ نهدي (عشتاروت) .
سومريٌ يرى نهايته على ابوابك المخلّعةِ لَنْ تهدأ رئته عن دخانِ فجرك. سأبكي بحرقةٍ، تُداعِبُ يدي أطراف الأرضِ المذنبة، بعكازٍ متسخٍ عليه خطيئة إلهٍ. ايامك الراسبة في قاعِ الدِّلالِ ، وبعد أنْ ينام اطفالي سأخبرهم بأنّي عثرتُ على ارضٍ لا يموتُ فيها نبيٌ. )
لدينا نص متكون من عشرة اسطر كتب ، بسبع جمل في فقرتين فقط ، ببناء جملي متواصل حيث الكلام الانسيابي و الحديث المتواصل و السرد التعبيري المكون للفقرات ، و بهذا يتحقق النثر .
من وسط هذا الفضاء وهذا الجو النثري ينبثق الشعر حيث الرمزية في مفردات النص و كياناته و الايحائية المتجلية و الانزياحات الشعرية الواضحة و الالتقاطات الشعرية الفذة و صور شعرية عالية و معادلات شعرية تحاكي عوامل جمالية عميقة ، و كل هذه الامور واضحات جدا في النص لا تحتاج الا لقراءة النص لتبينها و الدلالة عليها . و بهذا يكون هذا النص قد حقق الحالة النموذجية للتكامل النثروشعري ، بالتجلي العالي للشعر و النثر ، و بذلك تتحقق حالة نموذجية لقصيدة النثر .
























نحو اسلام بلا مذاهب ؛ العلم سبب الوحدة





المعرفة العلمية معرفة اعلى درجة من المعرفة الاطمئنانية ، لذلك فان نسبة الشك فيها تكاد تكون معدومة ، كما ان نسبة الاختلاف تكون مهملة لا تذكر ، و الاهم من ذلك كله انها تقلل بل تمنع من ظهور الفردية و تمنع من امكانية استفحال تلك الفردية الى مدرسة تؤسس فيما بعد الى مذهبية . و لاجل تحقيق هكذا علمية لا بد ان تتصف المعارف بالقطعية ، و القطعية العلمية لها شكلان الاول القطعية الاولية الاصلية التي تكون قطعية بذات ادلتها ، أي ان ادلتها تكون كافية في تحقيق القطع بها ، و الشكل الثاني هو القطعية الثانوية الفرعية ، و هي المعارف التي تكتسب قطعيتها من خلال الاتصال و التفرع من المعارف القطعية الاولية ، و تتميز هذه المعارف القطعية الثانوية و التي كانت في بدايتها ظنيات بانها غير ظنية في النهاية تحقق الاطمئنان المفيد للعلم و باتصالها بالقطعي تحقق القطع .
لقد افرطت التراكمات المختصة بالمعارف الدينية في مسألة الاحتفاء بالظن المعتبر ، و اكسابه اهمية غير مسبوقة ، بحجة التسليم و الايمان ، و مع ان هذا خلاف الفطرة و النص القرآني و السني الموصي بامتلاك الحق و الحقيقة و عدم القبول بالظن ، فان ما نراه من التمذهب و الخروج عن الخط المستقيم هو نتاج طبيعي لهذا التبجيل للظن. و من الواجب التأكيد ان الحقيقة و الحق امر بين في المعارف الواصلة الى الاجيال ، و انما التبريرات و الاقناعات هي التي تصنع الغشاوة و ما يمكن من اصطناع هكذا غشاوة هو ذلك التبجيل للظني و وضعه في المقدمة في قبال القطعي ، و ذلك الخروج و الانحراف  ضريبة على من بجلّ و قدس الظن ان يدفعها.
ان الخلل في العلمية الدينية تكمن هنا ، أي في ادعاء العلمية للظنيات ، و من الواضح ان هذا لا يمكن ان يسمى علما ، لان العلم بطبيعته درجة اكثر رسوخا من الاعتقاد الناشيء عن الاطمئنان ، و المحاولة التي اعتمدها الخط الظني بادعاء ان الظن الشرعي هو علم امر لا اساس له و كانت له اثار خطيرة ، و اهمها المذهبية .
لو انا راجعنا جميع الخطوط الانحرافية و التمذهبية فانا سنجد ان المنفذ الاهم ان لم يكن الوحيد هو الظنيات ، بالتغاضي و الالتفاف حول الوصايا الفطرية و العقلية و القرانية و السنية الموصية برد الظني الى القطعي، حيث يجنح الخط التمذهبي الى عدم رد الظني الى القطعي ، و التمسك بالظني و تحمله بحجة انه العلم و انه الظن الشرعي الذي لا يجب رده . و هذا ليس صحيحا وهو محض ادعاء ، بل لا بد للعلم ان يستند على معارف تنتهي الى القطع و اليقين و لا يمكن قبول الظن كمعرفة علمية . و حينما تكون المعارف العلمية مبنية على القطع فانها بلا ريب ستكون منسجمة و متناغمة و متناسقة، و تكون الاختلافات فردية اجرائية و لا يمكن ان تتجاوز الفردي و لا يمكن ان تكون جوهرية او حتى مدرسية تمكن من التمذهب .
ان اهم ما يترتب على علمية المعرفة هو التقليل من الفردية ، و هذا بالتالي يقلل من فرصة ظهور المدرسية ، و هذا بالتالي يقلل من امكانية بل يمنع من ظهور المذهبية . المعرفة العلمية ليست فقط تخلو من الشك و تتجنب الوهم ، بل انها تعمل على خلق نظام موحد و مجال عمل موحد ، وهذا هو العامل الاهم لمنع ظهور المذهبية . و من الواضح انه لا يمكن و بأي شكل من الاشكال و تحت أي عذر من الاعذار تحقق المعرفة العلمية بدعاء علمية الظن ، بل لا بد من  ان تبتنى تلك المعرفة على القطع . و لا يصح تصور ان ذلك يتطلب أصلية قطعية كل معرفة فيصطدم بحقيقة محدودية المعارف القطعية بالاصل في الشريعة ، لأن هذا الامر عام في اكثر العلوم صرامة من حيث القطعية فان سدّ الفجوات بالتفسيرات المنطقية و المناسبة و الفرضية موجود و هذا لا يضر بعلمية العلم ، لكن المهم ان تكون تفسيرات صلبة و غير متنافرة و لا متعارضة مع ما هو معلوم و مقطوع به ، و الا يترتب عليها عمل يتقاطع و يتعارض مع ما يكون عن المعارف القطعية . و من المهم التأكيد ان قطعية المعرفة و صلابة ما يتصل بها من معرفة تكون قطعيتها فرعية ، ان كل ذلك يجب الا يتأثر لا بعواطف من يتبنى المعارف الخطئة و لا بكثرتهم ، لذلك ليس من العلمية في شيء تغييب بعض المعارف القطعية الاولية او الثانوية مراعاة لعواطف المخالف للحقيقة او لاجل غالبية من يخالفها ان لم تصطدم مع ما هو اهم كالحفظ و البقاء مثلا .