طبقات النثروشعرية عند صدام غازي



غالبا من نستخدم في تناولاتنا النقدية كلمة اشكال  او اساليب او صور ، لكن هنا في هذه المقالة استخدمنا طبقات لغرض بياني سيتضح بجلاء .
ان النثروشعرية و ان كانت مصطلحا ابتدعناه ابتداعا من دون سابق مرجعية لا عربيا و لا عالميا ، الا انه في الواقع هو غاية  كل كاتب قصيدة نثر ، و لقد اشار رواد كتاب قصيدة النثر العالميين بحلم كتابة شعر بصورة نثر و كان ذلك همهم الاكبر .
النثروشعرية تعني و ببساطة كتابة الشعر بصورة نثر . اي ان ماتراه  على الورقة هو نثر ، و التوزيع المكاني للجمل و الفقرات هو بشكل النثر . حيث الفارزة و النقطة و السرد و تكسير الموسيقى و الابتعاد عن كل التوظيفات الشعرية الشكلية . وهذا هو التجلي الاكمل للنثر ، لكن من خلال المعاني و الترميزات يتحقق الشعر .
ان رسالة مؤسسة تجديد هو ترسيخ مفهوم قصيدة النثر المكتوبة النثروشعرية الكاملة حيث الشعر الكامل ينبثق من النثر الكامل .
صدام غازي من الكتاب المميزين لقصيد ة النثر الافقية و بالنثروشعرية الكاملة ، و كل متابع و قارئ له يدرك ذلك تماما ، بل لو انّا اردنا ان نعطي مثالا نموذجيا للنثروشعرية فان قصائد صدام غازي ستكون في مقدمتها .
هنا سنتناول الاشكال الفنية و الصور الموضوعية للنثروشعرية ، و مميزاتها و اختلافاتها التي تجعل منها مستويات مختلفة و طبقات كتابية و تأليفية مختلفة . و من الواضح انا نتحدث عن اسلوب كتابة و ليس عن عالم دلالات و لا عالم الروح و لا الذات و الفكر الكوني ، و انما نتحدث عن اسلوب بلاغي شكلي .
سنورد هنا نماذج من شعر صدام غازي و نتبين الاختلافات الاسلوبية في طريقة تجلي و تكوين النثروشعرية اي كيفية انبثاق الشعر من النثر .
في قصيدة ( خدعة أم ...) يقول الشاعر
((  لم تكن تلك عينه , حين نظر أول مرة . أتى يصهل كالخيل , فرس جامح له ضياء يشبه القمر . لم ينكسر شيء سوى نظرة عينه , وبلا استفسار جمع شظايا نظرة عينيه المتساقطة ومضى .  لم تثبت بوصلته بعدها , كأنما أصيبت بوصلته بالتمغنط . أستنتاج هو كل ما في الأمر .  الحتمية مفقودة . أشعل شمعة في الظلام كي ترى , فديوجين لم ير في النهار شيئا , حين أوقد الشمعة , و حين رفض ظل الأسكندر , لم تستح الشمس وتتركه رأفة به .
كل ما أنت به وحولك مجرد ميتافيزيقا أنت البطل فيها . لا يوجد عدو فلا تشهر مسدسك الكولت , واغمده أفضل , فالصراخ في الفراغ لا يولد من رحمه سوى طفل الصدى ولو صرخت الف عام . فأنا لست في عيد الهالووين عندما عرضت علي الخدعة   أم الحلوى ، فأرتديت رأس اليقطين ولم أعلم .))

لقد عمد الشاعر الى اساليب متعددة لكسر الشعرية الشكلية و لكي يتجلى النثر و يبرز نقيا و كاملا على الورقة .
 اول تلك الاساليب وهو الشرط الذي من دونه لن تكون هناك نثروشعرية اصلا هو استخدام الجمل و الفقرات ، و استخدام الفارزة و النقطة ، بدل الكتابة الحرة ، و لقد بينا مرارا  ان االمفهوم العالمي المعاصر لقصيدة النثر كصنف شعري و كشكل ادبي استقر على ان تكون مقطوعة مكتوبة بشكل جمل و فقرات و بالفارزة و النقطة ، و ان غير ذلك لا يعد قصيدة نثر ، و انْ كان شعريا نثريا ، و الشعر النثري اي غير الموزون  الذي لا يحقق شروط قصيدة النثر يسمى ( القصيدة الحرة او الشعر الحر ) .
الاسلوب الثاني هو  ( البناء الجملي المتواصل ) اي الكتابة النثرية السلسة المتواصلة كما تكتب القصة ، من دون فراغات و لا سكتات و لا توقفات ، كما نجده متجاليا عند انور غني و عادل قاسم  ، وهو ايضا من شروط النثرية وقد تحدثنا عنه مستفيضا في مناسبة سابقة .
الاسلوب الثالث هو السردية الشديدة التي تحوم حول القص لكن بـ ( السردية التعبيرية ) تنقل تلك السردية من مجال القص الى مجال الشعر .
الاسلوب الرابع  طبيعة الافكار ، و صدام غازي غالبا ما يختار افكار كونية لكنها منطلقة من الجو الخاص وهذه هي ( التعبيرية ) اي تقديم رؤية ذاتية للكون ، و هذا الاسلوب حاضر و جلي في كتابات صدام غازي و ليس في هذا النص فقط .
الاسلوب الخامس هو تعمد كسر الشعر شكليا ، مع ابقاء  الروح و البعد الخلفي شعريا ،  وهو ما يسمى عالميا ( الشعر ضد الشعر )  وهو استخدام الفاظ غير شعرية في الشعر و افكار غير شعرية في الشعر و عبارات غير شعرية فيه  ، وهو من الكتابات الصعبة و انا اعتبرها من المستويات العالية للنثروشعرية و نجد هذا الاسلوب ايضا عند فريد غانم و كريم عبد الله . فانا نلاحظ و كل متتبع لصدام غازي يلاحظ انه يستخدم الفاظ غير شعرية ، فمثلا هنا يستخدم ( بوصلة ، استنتاج ،  ديوجين ، التمغنط ،  ميتافيزيقيا ، مسدسك الكولت ، عيد الهولووين ، خدعة ام حلوى )

من الواضح ان الاسلوب الاول اي اسلوب ( الجمل و الفقرات و الفارزة و النقطة ) و الثاني وهو ( البناء الجملي المتواصل ) هما من شروط النثروشعرية و قصيدة النثر ، فمن دونهما لن يكون هناك نثروشعرية و لن يكون هتاك قصيدة نثر . وهذه هي الطبقة الاولى للنثروشعرية . و باقي الاساليب التي اشرنا اليها هي طبقات اخرى تكمليلة و متى اجتمعت تحقق النثر الكامل الذي ينبثق منه الشعر الكامل .
ان قصيدة النثر و بالاساليب التي ذكرناها  هي الان المفهوم التصنيفي الادبي عالميا ، و هي المستقبل للكتابة الادبية كما ارى لذلك فانا ارى ان الكتابة بالقصيدة الحرة على انها قصيدة نثر  لا يتوافق مع الواقع  . و  هنا طرحنا نموذجا للنثورشعرية و اساليبها و يمكن تتبع تلك الاساليب في كتابات صدام غازي السردية الافقية و كتابات باقي شعراء تجديد في قصائدهم السردية الافقية  .





























أشجار



هذه المدينة الجحود ، تتكلم ببطء ، ليس حياء لأنّ ثيابها قصيرة ، بل لأنّ حقيبتها قد أثقلتها الدماء . منذ أن رأيتها و أنا لا زلت أبكي بمرارة . أبكي على أشجاري الغالية ، فانا رجل من البرّيّة، أعرف صوت الحيوانات لكنني لست نقيّا مثلها . فالدببة ليست خشنة و لا بنيّة بل هي بالونات رقيقة و وردية ، و البومة ليست عمياء و لا نحسة ، بل لها قلب فضّي ترى به الحقيقة ، ليتك تعلم كم هي ودودة ، كانت تحدّثني عن قصص الأسلاف . أنا الان بلا جذور، و لا مأوى .  كنت أسكن في كوخ دافئ فوق شجرة ، كنت أضحك في الصباح ، و كنت كثيراً ما اجلس بانشراح عند بركة ما عدت أتذكّر اسمها ، فلقد صفعتني هذه المدينة بيديها القاسيتين و أنستني كل شيء جميل . لقد نسيت لوني و صوتي . أنا الآن رجل أخرس بلا لون و بلا صوت و لا حكاية . أنا الآن رجل حزين جداً لا أعرف شيئاً عن الربيع و لا أتذكّر أشجاري الحبيبة .























الرسالية الادبية في الشعر التجريدي



  
ما عادت في ظل هذا التغير الكبير الحاصل في وعي الانسانية و الاتجاه نحو التشبث بالانتماء و الاعتداد بالهوية في قبال رياح العولمة الثقافية ، ما عادت فكرة الفن الرومانسي و البوح الذاتي امرا يجلب الحماس ، بل ما نراه من اتجاه نحو تمثل الواقع و الامة هو الذي يسلب مراكز الاولوية في الثقافة و الادب المعاصر . هكذا تغير في فهم الفن و الجمال لا يعني انه ينطلق من فهم تعبوي للعمل الابداعي ، بل يمثل وعيا عميقا بحقيقة الابداع عموما و الكتابة خصوصا ، فأخذت الرسالية و القضية و الموقف تحتل مكانة متميزة في الكتابات المعاصرة . من هنا امكننا القول و كما اشرنا كثيرا الى دخول التجلي الرسالي في نظام الابداع ، و اعتبارها ركنا من اركانه .
الرسالية الابداعية اما ان تكون جمالية تتمثل بالابتكار و التطوير و منها الكتابة التجريدية او جماهيرية تتمثل بتمثل الامة و الانسانية ، و مقدار التمثل و الوعي به و تجليه يحقق درجة متقدمة في جانب من جوانب الابداع . تمثل تطلعات الامة و المها هو الرسالية الوطنية .
و رغم ان النقد الثقافي لا يقدم حلا حقيقا لفهم الابداع ، الا انه يشير و بصدق الى تأثر الكتابة بالوعي الانتمائي و الفكر المجتمعي العام ، و لا يعني ذلك جواز فهم النص على انه انعكاس لثقافة المجتمع او موطنا لانساق ثقافية ، و انما يعني ان تمثل ما ينتمي اليه الكاتب من ثقافة و امة يضرب عميقا في وعيه و كتابته ، و ربما يكون احيانا الجوهر المشع الذي تشكل بفعله النص او ادب الكاتب كله . ان الحساسية العالية و الرؤية الواضحة و التطلع نحو الافضل المترسخ في نفسية الاديب تدفعه و بقوة الى ان يكون صوتا صادقا في التعبير عن الامة ، في ظل الحرية الفكرية طبعا ، و يصبح حقيقة لا لبس فيها لأجل تبين ملامح المجتمع الذي يعيش فيه . ان الشعر كان و لا يزال صوت اعتراض و طلب للخلاص ، انه تمجيد للحرية السامية و الوجود الافضل ، ما عاد الفن عموما و الادب خصوصا مكان ترفيه و تعبير وجداني بسيط ، انما هو في كل جهاته رؤية و موقف ونداء ، انه نداء صادق و خالد ، و حينما يمتزج هذا الصوت بحلم الامة و يتمثل تطلعاتها فانه يكون رسالة شفيفة الى العالم و الاجيال .

من المهم التاكيد ان الرسالية تتطلب بوحا ، بمعنى اخر تتطلب توصيلا ، و لا يعني ذلك ان يكون التعبير بتراكيب لغوية مباشرة بحجة البوح و التوصيل ، و انما يمكن ذلك بالتعبير الفني العالي ، وهذا سر اللغة القوية التي تبوح بالكثير مع الفنية الادبية العالية ، البوح التوصيلي كما يمكن بالتعبيرية العالية ، يمكن ايضا بالرمز و الايحاء بل ان من تجليات اللغة البوح الايحائي ، كما ان الخيال ميدان خصب للبوح الرسالي .

ان الرسالية الوطنية الادبية يمكن ان تتنوع بتنوع الاجناس الادبية و اصناف اللغات الفنية ، و بتنوع الموروث الاجتماعي و الابعاد الحضارية و الثقافية للمجتمع ، لذلك يمكننا القول اننا في مجال ( الرسالية الوطنية الادبية ) لدينا عدد هائل بل غير محدود من الاشكال اللغوية ، يمكن تصورها اجمالا بشكل انظمة مركبة تصنف حسب جنس الكتابة من شعر و قصة و نحوهما او حسب صنف اللغة من مباشرة و رمزية و غير ذلك او حسب المكونات الاجتماعية الفكرية و الثقافية و المادية .و لقد تناولنا الرسالية الادبية تجربة الكثير من الشعراء العراقيين و العرب في كتابنا ( التعبير الادبي ) و هنا نتحدث عن الرسالية الأدبية المؤداة باللغة التعبيرية و التجريدية .  انه كريم عبد الله ، احد ابرع كتاب القصيدة التجريدية في الشعر المعاصر حيث يقول (كلّما تعزفُ السماء برذاذِ الخذلان ../ أدخلُ في زجاجةِ الصقيع ../ مقروحٌ يساورني حلم يتلصصُ .....\الأرضُ العانس تتلمسُ أجساداً تتسلّقُ واجهة الموت ../ عيونٌ زجاجيةٌ مِنْ خلفِ الصقيعِ ترنو ../ وقناصٌ أرعنٌ يتدفأُ بسيلِ رشقاتٍ على وجهِ التاريخ  ). لقد بينا مفهوم التجريدية و نماذجبه في مناسبات عدة  و تتجلة هنا بالحضور القوي للعمق التعبيري الذاتي و الزخم الشعوري و الحسي للكلمات . و تتجلى الرسالية هنا في ان الشاعر يتمثل العراقي الذي مسه البرد ، من نازح و مهجر و فاقد و محزون و متألم ، انها ملحمة العراق الجريح المبكي ، الم طويل ، و من هناك تعزف السماء اغنية هي فرحة رأس السنة لغير العراقيين الا انها الم مر و صقيع حارق لهم ، انه الصقيع السجن الذي لا فرار منه ، اين يذهب العراقي الذي خذله كل شيء حتى البرد ، لقد فقد العراقيون كل شيء يتوسدون الارض ، فصاروا لوحة عظيمة للموت الكئيب ، هنا نحن بعيوننا الجميلة البريئة الطفولية نتطلع للخلاص وهناك في الجانب الاخر لا شيء سوى الذئاب و الاعداء و المفترسين ، يقتنصون الخبز و الخيرات لا شيء هناك في الجانب الاخر سوى المتفرج الوقح انه العالم القبيح .
























اللغة التجريدية ؛ قصيدة ( لوحة ) للشاعرة زكية محمد نموذجا .






انّ الكلمات مثل الألوان ،  كما انّ الاصوات ايضا كذلك ، و مع انّ البعد الشكلي للصوت يمكن ان يوظف و يحمّل طاقات تعبيرية ، الا انّ هذا الاسلوب من الاسلوبية الشكلية الحداثية و التي لا تنفذ عميقا الى جوهر الادب و اصبحت قديمة كادوات اشتغال ، لذلك قلّ الحماس تجاه التوظيفات الشكلية سمعية أو بصرية ، و خصوصا في زمن قصيدة النثر الكاملة ، التي تريد كتابة قصيدة النثر بنثرية كاملة من دون زخارف شكلية او توظيفات شكلية لا صوتية و لا مرئية .
الكلمات مثل الألوان ، بل الكلمات الوان عند من يدرك العمق التأثيري للكلمات ، وهكذا الترتيب المكاني و الزماني لها ايضا له عمق تأثيري ، و أخير البعد الخطابي  . بمعنى آخر انّ المعاني يمكن ان تؤثر في النفس على ثلاث مستويات مستوى المعنى المفرد و مستوى الاسناد او الترتيب و التجاور المكاني و مستوى الخطاب و الجملة التامة .
بينما يعتمد الكلام في تأثيريته على مستوى الافادة الجملية  و الخطابية على المعاني المركبة المفيدة او على القول التام المعنى بما هو رسالة و خطاب معنوي ، بحيث انّ ما يحصل من تأثير هو بفعل ما يستلم من معرفة و من افادة و من بيان معنوي ، فان التأثيرية على مستوى المفردات و الاسنادات ( الترتيب المكاني للكلمات ) فهو يعتمد على الثقل الشعوري و الزخم العاطفي و الرمزي للكلمات . و لقد بينا في مناسبات سابقة انه يمكن للمؤلف ان يستفيد من هذه الطاقة و يوظفها و يجعلها عنصرا تعبيريا اضافة الى الخطاب  ، هذا البعد الذي يؤثر فيه النص في نفس القارئ بالمفردات و ترتيبها من دون خطاب هو البعد التجريدي . فيكون النص ذا بعدين في تأثيريته البعد الخطابي  و البعد  التجريدي .
اللغة التجريدية ، و اقصد بالضبط أسلوب تجريد الكلام  فنيّا بالاعتماد على قوته الحسية و الشعورية بدلا من الاعتماد على ثقله المعرفي و الخطابي  ، مع ايصال الرسالة بكل تلك الادوات ، هو من أهم الانجازات و التحولات في الوعي البشري تجاه اللغة و تجاه الأدب و الفن ، و كلما صار الشعور بالاشياء اكثر عمقا و نضجا  و علوّا فانّ البشرية ستتجه نحو التجريد اكثر ، بينما كلما صارت الحاجة الى التعبئة و التوجيه مطلوبا صارت اللغة الخطابية هي السائدة .
و ليس صحيحا تصور انّ اللغة التجريدية هي رمزية عالية ، بل الحقّ انّ التجريد   غير معتمد على الرمزية المعنوية اصلا و انما يعتمد على رمزية تحسّ و تدرك لكنها لا تفهم كخطاب  ، وهذا امر مهم جدا ، لذلك فالتجريدية هي اعلى حالات التعبيرية و التي هي الانبعاث و الانطلاق من عمق الذات و الوعي نحو الخارج . حيث انّ في تعامل الكاتب او الفنان مع الخارج  طريقتان او اسلوبان الاول هو الانطلاق من الخارج الى عمق الذات و الثاني الانطلاق من عمق الذات الى الخارج ، الاول هو المدرسة الوصفية و تتوج بالانطباعية ، و اما الثاني فهو التعبيرية و تتوج بالتجريدية .
في قصيدة ( لوحة ) استطاعت الشاعر زكية محمد ان تحقق النص التجريدي النموذجي ، و وظفت كثير من العناصر اللغوية في سبيل هذا الانجاز ، و يظهر من مواطن كثيرة في النص انها كانت تكتب اللغة التجريدية بوعي و قصد ، فابتداء من عنوان النص ( لوحة ) و مرورا بالاكثار من الالوان و الاشياء الطبيعية و نهاية بالثورية و طلب الخلاص و هو اهم مميزات التعبيرية .
انّ العلامة الحقيقة و المهمة في النص التجريدي انّه يؤثر و يحقق الادبية و الابداعية من خلال الزخم الشعوري و الثقل الحسّي و العمق الانساني ( اي التجربة ) قبل التوصيل الخطابي . وهذا ما نجده حاضرا في قصيدة ( لوحة ) . و نترك للقارئ تملّس البعد التجريدي في هذه القصيدة السردية العذبة ، و التي مكّنت سرديتها و عذوبتها كلماتها  من التواجد و الحضور بشكل سلسل و واضح و عذب و متفرد و تجلت التجريدية بكل يسير و سهولة بعيدا عن اي ضغط  او عنف او ارباك او قفز او لوي  للمفردات و التعابير   . انها قصيدة نثر سردية تجريدية عذبة و قريبة تمثل أدب ما بعد الحداثة بكل صدق .

لوحة
زكية محمد

ألواني زاهية كفراشات الربيع. ريشتي الشفافة مطيعة. لا أتوقف عن مغازلة الضوء. أعشقه منذ أبصرت عيناي جمال الشمس ولم أشتك يوما قيظها الذي يحرق حسّي المرهف ويلهب أفكاري المترددة. كلما اخترت حلما أجد لونه مختلفا فأضجر .أتّهم ريشتي الخجولة ، تعذبني نظراتها البريئة فأستحي منها وأعتذر.
أحدق بالحلم طويلا لأجد لونه أجمل مما تمنيت . لوحتي متحف متجدد ،كل يوم بلون وكل لون أجمل من كل أحلامي.
لوحتي أصلية وأصيلة لن أبيعها ولو بكنوز الدنيا ولن أتنازل عن نقاء صوتها خوفا من فضول أبي جهل، فليلعنها كلما شاء.فقد كفرت ألواني بأصنامه العمياء .



فنّ التطعيم في القصيدة المعاصرة

  




التوظيف من أهم العناصر الفنية في الشعر ، و من أهم الادوات التي يعتمدها الشاعر في تعظيم طاقات لغته و دلالاتها و ايحاءاتها  . و للتوظيف الفني اشكالا كثيرة و منها   تطعيم القاموس النصي بمفردات مجانبة و متباعدة عن الحقول المعنوية للنص . حيث انّ كل نص يفرض شخصيته على المؤلف و  بعملية الانثيال يجعل المؤلف ينساق  الى حقل معنوي معين و حقول معنوية متقاربة ، فيكون القاموس النصي اي المفردات التي تكون النص متقاربة في حقولها المعنوية ، لكن حينما يعمد المؤلف الى كسر هذا الطوق و هذا الانثيال   عمدا و بوعي تظهر لدينا ظاهرة ( التطعيم ) في المفردات النصية .
هنا ثلاثة نماذج للتطعيم القاموسي متمثلة بثلاث قصائد نثر : قصيدة  ( اوطان حافية )بقلم فريد غانم يطغى على النص ّ التطعيم بالمفردات السريالية و الثقافية  ،  و ( نبيذُ الحروبِ الغائمة )  بقلم كريم عبد الله  يطغى عليها التطعيم باللمفردات اليومية و الحياتية  ، و قصيدة ( زمن الصفر )  بقلم صادم غازي يطغى عليها التطعيم بالمفردات الاغترابية و التعبيرية الذاتية .

أوطانٌ حافِية
 فريد غانم
فوقَ الأرصفةِ المرصوفةِ بالنّعال والغبارِ المحروق، في الزّحام المِزدحمِ بالوَحدة والضّياع والسُّخام، ما يزالُ الملكُ يتبخترُ عاريًا.
وها هو يأتي بعُرْيِهِ المنسوجِ من الحرير والدّيباجِ والقُطنِ السّماويّ وريشِ النّعام، يأتي من جبالِ الثّلجِ والقسوةِ النّاصعة، من المروجِ المزروعةِ بالخيولِ اللانهائية، من البحارِ التي ما زالت تلعق شفةَ الأرض، من المراكبِ التي تتمسّك بفساتينِ الرّيح يأتي. من الأتربة المُشبعةِ بالمعادنِ ورُفاتِ العيون البرّاقة، من عظامِ الموتى والأسنان المنخورة، من لهبِ البراكين المُرجأة، من حبرِ الآلهةِ المهدورِ على دخان المصانع، من دفاتر الأنبياءِ التي مزّقها الأولياءُ بخناجرِهم. من اصطكاك الصوّان بالصوّان يأتي. من عرقِ العبيدِ والمحاريثِ اليدويّة، من الأرديّة الكُحليّة، من عاج الفيلةِ وقرنِ الكركدنِّ وحساءِ السّلاحف قليلة الكلامِ يأتي. ويأتي من دموعِ الحيتان الصّغيرة، من حدائق الكافيار الرّضيع، والجزمات المصنوعة من غُرّةِ نمرٍ سيبيريّ، ومن أجداثِ غابات الأمازون.
وما زالَ يأتي من الخزائن المصنوعة من لحمِ الفقراء، من الألعابِ النّاريّة التي تتفجّرُ من دموعِ الثّكالى، من الحكاياتِ التي تتناسلُ على الأنصالِ وثغور القادفات، يأتي بعُرْيِهِ الكاملِ المكسوِّ بالعُريِ الكاملِ، ويمشي فوق الأرصفةِ المرصوفةِ بالعمى والعتم.
يأتي بأقنعةٍ مجدولةٍ بالوهم المُلوّن بألوان الجهل السَّبعين، يدوسُ على دُميةٍ فقدَت طفلَها وجديلةٍ فقدَت نسيمَها، ويمشي وسط الزّحامِ الخاوي، فتصفّق له محاصيلُ الرّاحاتِ الفارغة فوقَ ما تبقّى من ساحات الأوطانٍ الحافية.

نلاحظ الحضور القوي و المركزي لمفردات مباينة للقاموس النصي  ( القطن الساموي ، جبال الثلج ، الخيول اللانهائية ،  ، حبر الالهة ، دفاتر الانبياء ،   قرن الكركدن ،    الكافيار الرضيع ، نمر سيبيري ، غابات الامازون ، الاوطان الحافية )  فنجد هنا مفردات فوقية و سريالية و ثقافية وُظفت في النص و اعطت زخما دلاليا وجه البعد الدلالي لمفردات النص ككل .



نبيذُ الحروبِ الغائمة
كريم عبد الله

أسكريني حدَّ التماهي في نبيذِكِ الطافح رعشةً تتجمّهرُ حولَ زوارقِ الوحشةِ ........../ وتسرّبي منْ حكاياتِ الحروبِ الغائمةِ التي عكّرتْ قدومَ أفراحنا ........./ عمّدي مدنَ الشمسِ بــبقيّةِ الأمانِ المتلألىءِ في الطرقاتِ البعيدةِ حينَ ينخرها قلقَ الأحتضار ......................../ وطهّري الشوارعَ الهاربةِ منَ ( الهاوناتِ ) العشوائيةِ التي تتسلّلُ الى أقفاصَ الفصول ..........! 
لـلآن أخيطُ ثقوبَ جثث مسلاّتي النازفةِ سنابلَ تغاريدٍ لا تنضجُ في زمنِ الشهوةِ ....../ أتحاشى الهراواتِ المبطّنةِ أناشيداً عاقرةً تدّعي المغفرةِ ............./ وأشتلُ أنّاتَ الفراشاتِ في رمادِ القبحِ تتدفّقُ شهداً وطِيبةً ..............................
ما لـوجهكِ شاحباً تعصرهُ ( خلّاطاتُ ) المنافي يشربهُ المدجّجونَ بـالسيوفِ ..................../ وعلى جسدكِ العاري تنقسمُ المآذنُ الراقدةِ على بيوضِ النفاقِ تلوّحُ لـلأمس ......................../ و مصيرنا معلّقٌ كــــــــــ ( جسرِ الجمهوريةِ )* حينَ هوى مخذولاً شاهداً كيفَ تتساقطُ الخيبات ............. !
وحدكِ منسيّةٌ وأيد كثيرة تتزاحمُ على أبوابكِ تحشُّ عرائشَ العنبِ مِنْ على غيماتكِ ....................../ و القلنسوات الصدئة عادتْ تنزرعُ مِنْ جديدٍ تنطبعُ في لغةِ الخراب ...................../ وأنتِ تمطرينَ تنهداتٍ تلهثُ مرعوبةً في هذا المدى المزكومَ بـصهيلِ الحرائق .......................... !
حاصرتْ حدقاتكِ الهاوية وغرقتْ بـالدموعِ حتى القناطر البعيدة .........../ كلٌّ يدلو دلوهُ يرسمُ أقاليماً مطعونةً في خاصرةِ عرشكِ .........../ والقرابين تنتظمُ متراصةً تنتظرُ دورها في الطبِّ العدلي مكتومة الرغبات ......................................!

فنجد مركزية لمفردات تجانب القاموس النصي مثل ( العاونات ،  ثقوب ، الهراوات ، خلاطات ،  جسر الجمهورية ،  الطب العدلي ) تلك المفردات اليومية و الحياتية و التي تختلف في مستواها الانتقائي عن قاموس النصي عالي الانتقاء ،   لقد وظفت هذه المفردات لأجل ابعاد رمزية واضحة .

الزمن صفر
 صدام غازي 
عند أول الشفق . حين جلست الشمس خلف تلك التلة , تمشط شعرها . لم نكن عندها وليدي الصدفة , لكنا ألتقينا في الزمن صفر  . ليس كل شيء واضح المعالم , ولا كل الافق معتم كأعمى يلبس نظارة سوداء . لم نلتق على ذلك القمر النحاسي كما قلنا , ولم ننكث بوعدنا حين رحلنا حاملين صرة خيبة الأمل , مع القليل من قوت ذكرياتنا . ففي الزمن صفر تتغير الاحداث , فزمن القصيدة تخط على صفحة الريح .  زمن عناق الارواح للأرواح في زمن هجر أهل التناسخ أرواحهم . زمن خيانتي مع قصيدة تحمل ملامحك . زمن التمني بليلة أغفاءة من أجل عين الحلم .
الزمن الصفري فيه المدى يده تسكن الصدى . التوقيت بعدد ذرات الرمل . الشمس تجلس خلف تلك التلة .  السكون يركب ظهرالخفافيش ويقتل الحركة . في الزمن الصفر لا تعدي الايام . هكذا ولدنا لا نعد ولا نحصي , في بداية أول الغسق عند بداية التوقيت صفر  .

فنجد حضورا لمفردات خاصة و ذاتية مغايرة و مجانبة للقاموس النصي مثل ( التقينا في الزمن صفر ، اعمى يلبس نظارة سوداء ، القمر النحاسي ، صرة خيبة الامل ، قوت ذكرياتنا ، اهل التناسخ ، زمن خيانتي ، الزمن الصفري ، ظهر الخفافيش ، التوقيت صفر ) . تلك المفردات التي تمتاز بالاغترابية و بالذاتية التعبيرية كانت محورية و وجهت دلالات النص بعيدا عن حقول قاموسه النصي .

(عش مبدعا )


الى الاخ العزيز الشاعر الامهر فريد غانم .

عش مبدعا ، تنثر الورد في مدن الرماد ، صوتك النحاسي يشقّ وجه الظلمة كنسيم فينيقيّ حطّ فوق بيتنا منذ عصور . هكذا أجد النهر و البحر و الشجر يغني ، يتيه في باحات الحانك كمسافر عاد مع المساء . عجبا لكل هذه الالوان و الامواج الغريبة ، عجبا للاعياد ، للحريات التي تسكن كلماتك و تنادي بالارض اليباب ، افيقي أيتها الارض اليباب . منذ أن رأيت اشراقتك و أنا أعدّ النجوم ، أجل أنا رجل بارع في عدّ النجوم ، انني أصغي الى هدير شلالتك الرفيعة . فريد ؛ عش مبدعا، كطائر فضي يحلّق قي سماء رمادية ، يبشر بالفجر الجديد .





















.

الرمزية المتموجة عند اسماعيل عزيز

 

 لقد اوضحنا في مناسبات سابقة انّ الخطاب و الرسالة التي يريد ان يوصلها المؤلف قد تكون بلغة توصيلية او بلغة رمزية ، و في كلا الحالتين يكون هناك التقاط للمعنى الانساني العميق الذي اسميناه ( العامل التعبيري ) ، يعمد المؤلف الى اختار صورة و شكل نصّي للتعبير عنه وهو ما اسميناه بـ ( المعادل التعبيري ) .
في جميع الاحوال يستطيع القارئ و حسب استعداده و خلفيته و ذائقته ان يصل الى رسالة المؤلف ، الا انه قد يحتاج احيانا الى انظمة تعبيرية  و جسور تصل بين المعادل التعبيري اي البناء النصي السطحي و بين الانظمة الجمالية اي العامل التعبيري و بينهما و بين البنية العميقة  للنص اي الخطاب و الرسالة المستترة و المحمولة بالنص . تلك الانظمة و الجسور الوسطية هي ( الوسط التعبيري )


يحتلّ الوسط التعبيري مكانة متميزة كعنصر اشتغال و عامل فني في الرمزية التعبيرية ، و أحيانا قد يكون الوسط مركبا من أكثر من مستوى كياني رابط بين الرمز و ما يرمز اليه و بين الدال و المدلول التعبيري . فالوسط التعبيري كما انّه وسيط للفهم و التوصل الى رسالة النص فانه عنصر جمالي في النص و عامل ابهار و ادهاش لما يحققه من عجز في نفس القارئ لكشفه عن مخيلة و قدرة تأليفية لدى الكاتب .
من المعروف انّ اسماعيل عزيز يكتب بمجاز عال و يخلق في نصوصه ما يمكن ان نسميه بـ ( العالم النصّي الموازي ) حيث يتكون نظام زمكاني  خيالي كامل تتحرك فيه الشخوص و الكيانات النصّية في عالم من المجاز و الانزياح مستقل كليا و لا يحتاج الى اية مرجعيات خارجية لبنائه و تحقّقه ، و هذا من مزايا الرمزية العالية ، و هي تختلف جدا عن اللغة التوصيلية التي تستدعيها الرسالة احيانا و عن اللغة المتموجة التي تحدثنا عنها كثيرا .
في قصيدة ( على حافّة الجسر )   تحضر السردية التعبيرية في قصيدة نثر نموذجية بادوات النثر الشكلية من حيث الافقية و الجمل و الفقرات و السرد و الانسيابية ، و من وسط هذا البناء النثري ينبثق الشعر بل الشعر العالي و المجاز و الخطاب الرمزي ، الذي يعصف بالنص و يحيل تلك النثرية الى جوّ من الشعر قاهر و فاتن .حيث يقول اسماعيل عزيز :-
( هُناك ،  كنتُ أرتدي أقنعة الأشياء في رحلتها. وأنا أعلمُ أنّ الأرض بركان في هذا العالم السفلي . كيف لي أن أحمل الصورة أو آخذ من كل شيء بذرةً؟ خطوتي كانت ثقيلة في طريق موصلٍ بأعماق الزمان الداخلي . أدري أنّ الطرق التي ندخل في مراياها تسجل موتنا .  لا نافذة بها فكيف نرى أنوثة الورود . كزهرة راحلة في سحب اللون وأطياف التداخل ، مازالت في نفسي همسة فجر ، وأرغب في سرير الملكة . جسدي يسترق السمع  حول أبواب المدينة والجسر الذي بات منحنيا خجلا من عيون تُخبّئ سنبلا ، لا يؤرخ خرائط طفولتنا . وفي كتاب الاشتهاء خطوتي كانت حروفاً ، فكلما نقلتُ خطوة تتدلى كرمة الجوع ولا تمطر غيمة ، غير أني لم أزل هناك على حافة جسرٍ يبكي عابريه .)
نجد في هذا النص الرمزي و السردي كمّا هائلا من المعادلات التعبيري و الاشتغالات الشعرية و التي أقلّ ما يمكن الاشارة اليه هو المجاز العالي و على مستويات متعددة ، على مستوى الاسناد و على مستوى الجمل و على مستوى الحكاية و النص . لكنّ الأهم هنا هو العالم الموازي الذي خلقه النص ، و تحقق مستقلا في هذا البناء ، بحيث انّ الرسالة ما عادت تستفاد من ذات العبارات بل من جميع النص ، وهذا شكل متميز من الرمزية يتجاوز المجاز المعهود من حيث الاشارة و الدلالة الى المقاصد بالكلمات او على اكثر التقدير بالاسنادات في الجمل ، و أما انّ النص كله يتجه نحو مجال معنوي مستقل و بناء مستقل و يكون مرآة و هيئة مشعّة توصل الرسالة و الخطاب من خلال كتلة النص و ليس من خلال مفرداته .
لقد أجلّ المؤلف البوح و بيان رسالته ، و جعلها موزعة بشكل وحدات غير كاملة على النص بحيث يحتاج القارئ الى جميع النص و جميع وحداته التكوينية لاشتفاف الخطاب المحمول فيه . فالقصيدة تتحدث عن رحلة معرفة نحو العمق  و دواخل النفس ، رحلة قسرية في بعض لحظاتها ، لم تحقق غاياتها كما أنها مشوبة بكثير من التشويش و التقاطعات و كثير من لحظاتها تشتمل على اللاجدوى و على الاطلاع و العلم المسبق مع تعذّر الرؤية أحيانا ليس لقلة الاستعدادات ، بل لان الاهداف و المقاصد عالية جدا تقصر عنها الامكانات . من الواضح انّ هذه الرسالة و هذا الخطاب لا يمكن ان يستفاد من كل كيان جزئي او وحدة كتابية في النص مستقلا ، بل لا بدّ من جميع النص للتوصل الى رسالة النص  ، وهذا اسلوب من اساليب تأجيل البوح و هو كثير ما يحضر في نصوص اسماعيل عزيز ، و التي تعد من طبقة الرمزيات المؤجلة التي تحتاج الى جميع النص لفهم الدلالات و الرموز .
في القصيدة يحضر الوسط التعبيري كوسيط مهم بين معادلاتها التعبيرية النصيّة و العوامل التعبيرية الجمالية العميقة ،فكلمة ( هناك ) و هو معادل تعبيري نصّي مكاني ، يرتبط بعامل تعبيري عميق يشتمل على البعد و الانعزال و الذات و الاخر ، و يؤسس لعالم مستقل و منعزل ، و يكوّن لفضاء من الغياب و الحضور . انّ المتتبع للكتابات الشعرية المعاصر سيجد انّ كلمة ( هناك ) كمعادل تعبيري تحتل مكانة متميزة و تمثّل عنصرا تعبيريا مهما و تعكس هاجسا و وعيا بالغياب و أرادة الحضور ، كما انّها تمثل نقطة تبئيرية عند المؤلف و أدعاء معرفي ربما يرتبط كثيرا بالعولمة المعاصرة و بتطور الاتصالات و امتلاك الانسان احاطة متميزة بالعامل ، و ادراك متميزة بالاخر و بالغائب و بالغريب .
بعد أداة الغياب هذه يحضر المؤلف و بسلاسة و من دون قفز بتعبير ( كنتُ ) و الذي يعدّ عنصرا متوسطا بين الحضور و الغياب فهو بين كونه تعبيرا عن الذات و الأنا و المالكية و الخاصية و الاستحواذ و الأرادة ، فانّ الاحالة الى الماضي يجعله عنصرا غيابيا ، لذلك فانّ كلمة ( كنتُ ) لا تقل أهمية عن ( هناك ) من حيث القدرة التعبيرية . و من خلال ما تقدّم نفهم جيدا القدرة التعبيرية  الهائلة للسرد التعبيري و الشعر السردي و الذي تمثل ( هناك ) و ( كنت ) من أهم أدواته و مكوناته .
بعد الانتقال من الغياب التام الى البرزخ الوسطي بين الغياب و الحضور يتجلّى الحضور التام بعبارة ( و أنا أعلم ) ، و هو حضور قوي للذات ، و قد بينّا انّ هذا البيان و التعبير من خصائص قصيدة ما بعد الحداثة بفعل تأثير العولمة و الاتصالات و تحول العالم الى قرية صغيرة يتميز بانتقال هائل السرعة للمعلومات .و بعد ان هيّأ المؤلف الفضاء المطلوب لبناء علمه النص بسرد قريب في عبارات :
(هُناك ،  كنتُ أرتدي أقنعة الأشياء في رحلتها. وأنا أعلمُ أنّ الأرض بركان في هذا العالم السفلي . كيف لي أن أحمل الصورة أو آخذ من كل شيء بذرةً؟ خطوتي كانت ثقيلة في طريق موصلٍ بأعماق الزمان الداخلي . أدري أنّ الطرق التي ندخل في مراياها تسجل موتنا . )
ينتقل الى وحدات بنائية عالية المجاز و بعيدة الدلالات في عبارات :
(كزهرة راحلة في سحب اللون وأطياف التداخل ، مازالت في نفسي همسة فجر ، وأرغب في سرير الملكة . جسدي يسترق السمع  حول أبواب المدينة والجسر الذي بات منحنيا خجلا من عيون تُخبّئ سنبلا ، لا يؤرخ خرائط طفولتنا .)
انّ هذا  المقطع المجازي و الرمزي يحتاج الى وسط تعبيري أمين لأجل استقرار تلك المجازات معنويا ، و من خلال السرد السابق على هذا المقطع و السرد التالي له يكون كثير من الدلالات و القراءات جلية للقارئ ، اذ بعد هذا المقطع يقول المؤلف :
(وفي كتاب الاشتهاء خطوتي كانت حروفاً ، فكلما نقلتُ خطوة تتدلى كرمة الجوع ولا تمطر غيمة ، غير أني لم أزل هناك على حافة جسرٍ يبكي عابريه  )
 حيث يعود الشاعر في هذا المقطع الى لغته القريبة و سرده السلس .  من هنا يكون واضحا انّ النص ينقسم ن حيث درجة الرمزية الى ثلاثة وحدات ، قريبة و بعيدة و قريبة ، و هذا النظام اي ( رمزية قريبة - رمزية بعيدة - رمزية قريبة ) هو من التموّج الرمزي ، و هو ما يدخل  في اللغة المتموجة كما هو ظاهر .
لقد حقّق الشاعر غايات فنية و جمالية عديدة في القصيدة ، فاضافة الى نموذجية النص كقصيدة نثر نموذجية ، و اضافة الى السرد التعبيري و الشعر السردية ، و النثروشعرية بالشعر الكامل في النثر الكامل ، فانّه ايضا نموذج للعالم النصّي الموازي و الرمزية المتموجة .
 انّ اقتران العالم النصي الموازي مع الرمزية المتموجة يكشف عن امكانيات شعرية و فنية للكاتب وهو معروف بها لكل أحد . ولقد كان مقرّرا تناول أكثر من نص للشاعر ، الا انّه بالبيان المتقدم يمكن جعلها نموذجا و مثالا لتلك العناصر و الاشتغالات في غيره ، و نترك للقارئ و  المطلع متعة  متابعتها في نصوص اسماعيل عزيز الأخرى.

إنفجار


 


أنا أراك رغم هذا الصّوت الأرجواني للحزن، ورغم ثوب الموت الزّاهي، فأنا ما زلت استطيع أن أراك. لا تقلق إنني أراك، على سريرك الوفير، تحلم بالغد غير آبه بالموت، وعيناك تتأمّلان الوجه القبيح لهذا العالم الأعمى، عالم نتن يفيض بشاعة، يسرق دمي وأطفالي وفتياني الجميلين، ويحرق بلدتي، ومدرستي وسيارتي الصغيرة.
أنا أراك تخرج من خاصرة الانفجار شيئًا لا ينكسر، شيئًا يذكّرني بالقصب، يذكّرني بجدَّتي. لقد اعتادت أن تخبرني كلَّ صباح أنّ انفجارًا جديدًا وخنجرًا جديدًا وحقدًا جديدًا قد غرزوه في خاصرتك البهيّة، وتخبرني أيضًا عن الأطفال وعن الدِّماء، وأنا أعلم أنَّك وطن يفيض بالدّماء، ويفيض بالصَّخب كشمس الظّهيرة وكشط الحلة والإوزّات فيه تملأ النّفوس بالضَّجيج. فأطرب لصوتها العالي كفراشة صغيرة ترى الصَّباح لأوَّل وهلة. ثمّ أعود إليك بحرًا من عشق، فأنا عاشق أسطوريٌّ، أنا بقايا شبحٍ خالد وحكاية منسيّةٍ قد عادت إلى حديقة جدِّها باسمةً قبل المساء. هكذا أعود بصمتي النَّديّ وردائي الشَّتويّ المتهرئ أنفذ الى بشرتي المتفحمة وسيَّارتي المتفحِّمة وقلبي المتفحِّم، فأجدك نهرًا طويلًا جدًّا بعدد النجوم وبعدد الذين جاؤونا من حقول القمح وبعدد الجراح التي صنعتَ منها سفينتك الباهرة، الباهرة جدًّا .