كتابات فريد قاسم غانم احيانا تحدث ارباكا لدى القارئ في
تجنيسها ، و هذه حقيقة جلية لكل من يقرأ لفريد قاسم . و في واقع الامر ان هذا
ناتج من حقيقة ان فريد قاسم غانم يكتب نصا عابرا للاجناس بامتياز و بكل عفوية و
طلاقة ، حتى ان المحلل لو استعمل ادق المميزات و الفوارق الاجناسية فانه لا يستطيع
رفع حيرته التجنيسية لبعض نصوص فريد قاسم . وهذا تجل واضح و نموذج
مثالي للنص العابر للاجناس .
النص العابر للاجناس بهذا الواقع يشتمل على ظاهرة (تعدد الاسلوب )
في الوحدة التعبيرية الواحدة ، وهذا التعدد ليس من النظر الى الكاتب بلا
ريب بل من النظر الى الكتابة و القارئ . و في الحقيقة هذه النظرة
تتجاوز الاسلوبية التي غالبا ما تربط الاسلوب بالكاتب .
هنا نص (
مملكة ) لفريد قاسم سنحاول تلمس ذلك الاسلوب المتعدد الاسلوب و النص العابر للاجناس
، ومن الواضح ان هذا النص نموذج لاكثر كتابات فريد قاسم كما يعلم المتابعون له .
(
مملكة ) ، نص في السردية التعبيرية ، السرد الممانع للسرد ، السرد المتوهج . كما
انه نص تعبيري بامتياز أي ان الرؤية تنطلق من عمق الكاتب الى الخارج ، فالنص يرسم
عالما بنظرة الكاتب الخاصة .
ان هذا النص يحقق ظاهرة التعدد الاسلوبي و النص العابر
للاجناس على مستويات مختلفة و اهمها على مستوى النص و على مستوى الوحدات التعبرية
المتميزة واهمها الجملة .
و من الجيد الاشارة الى امر وهو ان النص المفتوح عادة ما
يعرف بانه نص متعدد الدلالات ، و في الحقيقة هذا الفهم هو اداة و الية نقدية اكثر
مما يكون تشخيصا و تعريفا لظاهرة ادبية . و لا يخفى ان ملاحظة
تعدد الدلالة في الوحدة الكتابية قديم قدم البشرية . و من هنا امكن القول ان
فكرة النص المفتوح و ان كانت معالجة متطورة للنص الا انها لم تأت بشيء جوهري و لم
تشخصا شيئا جديدا .
في قبال ما تقدم من تصور هناك فهم للنص المفتوح هي كونه
عابرا للاجناس الادبية .و هذا اسلوب من الكتاب الذي تتعدد فيه الاجناس و تتعدد الاساليب في النص
الواحد يمكن ان نصفه (
بالاسلوب المفتوح )
و النص الذي يكتب كذلك من الانسب ان يسمى ( النص العابر للاجناس ) كما في كلمات البعض .
للاسلوب المفتوح مستويان ، الاول على مستوى النص و
الثاني على مستوى الوحدات التعبيرية الصغيرة واهمها الجملة . في الاول يكون اللااجناسية طوليا اي انه يتجلى بمجموع النص بينما في الثاني
عرضيا اي يتجلى في الجملة او العبارة الواحدة كما سنبينه .
في نص مملكة نلاحظ التعدد الاجناسي و الاسلوب المفتوح
على مستوى النص و الجملة ، اي بالتعدد الاجناسي الطولي و العرضي .
فمن الاول اي على مستوى النص لا نحتاج الى كثير كلام
لبيان ان هذا النص قد كتب بمزيج اجناسي بين القصة و الشعر و الرسالة . كتب بسرد تعبيري متميز ، سرد يفجر طاقات اللغة و يصل بها الى مستويات
تعبيرية قل نظيرها .
ففي جزء منه
(هي، في الأوَّل والأخيرِ، مملَكتي الصَّغيرةُ. \لها سقْفٌ يسُدُّ عليَّ
أبوابَ الشَّمْسِ والنُّجومِ واللَّعناتِ، وجدرانٌ مُلوَّنةٌ بأَحلامي، ومرآةٌ
تَنامُ واقفةً كلّما مَرَّ الظَّلام.\ في غُرفتي، أكونُ حينًا
إلٰها صغيرًا, وحينًا عبدًا يبتكِرُ التّراتيلَ ويلصِقُ التَّمائِمَ والطُّقوسَ، ويستنشقُ
البَخُورَ والغُبَارَ والعَثَّ السّاكنَ في الوسائدِ والكِتَاب.)
منطقية التخيل وهي من ميزات القص ظاهرة في مطلع النص ،
ثم فجأت يتحرر النص من المنطقية في كل شيء في الخيال و في اللغة (لها سقْفٌ يسُدُّ عليَّ أبوابَ الشَّمْسِ والنُّجومِ واللَّعناتِ، ) هنا كسر للمنطقية واضح و لا مجانية تتحرر من الزمان النصي مما يحقق مستوى
عال من الشعرية .و في عبارة (في غُرفتي، أكونُ حينًا إلٰها صغيرًا, وحينًا عبدًا يبتكِرُ
التّراتيلَ ) تبلغ الرسالة و التبيين مرحلة متميزة تختلف عن غيرها . وهكذا باقي اجزاء النص ، حتى يتكون لدى القارئ تصور و وعي اجمالي بان ما
امامه من كتابة عابرة للاجناس و ان اسلوبها مفتوح على كل تعبير .
و اما على مستوى الجملة فالتعدد الاجناسي ايضا حاضر . في هذا المقطع الذي له وحدة موضوعية (في غُرفتيَ الصَّغيرةِ، أعتلي لِبْدَةَ الأسَدِ الهَصورِ
وأتثاءَبُ مِلءَ الكَوْنِ، وأصادقُ البَعُوضَةَ؛ فأُعلِّقُ اسْمًا هَشَّا على
جيدِها، أُطلِقُ الرِّيحَ في الجَناحَيْنِ، أشحذُ نابَها بالمِبراةِ ، أجلو بكفِّي
صوْتَ طنينِها، أفتحُ لها الجِهةَ الخامِسَةَ، وأسقيها ما أقطفُ من ماءِ السّماءِ
وبعضًا من دمي. ) من الواضح ان في هذه العبارة قد اجتمعت تقنيات القص و الشعر و الخاطرة . فلا يمكن ان يرى هذا المقطع على انه قص بشكل واضح و لا يمكن ان يقال انه
شعر بشكل واضح و لا يمكن ان يقال انه خاطرة ، انه مزيج اجناسي مبهر و عذب او انه
جنس متميز متجاوز للاجناس المعهودة .
و بهذا المزيج الاجناسي نفسه نجد مقطع (هنا، في غُرفتي الصَّغيرةِ، أكونُ كما أشاء. \أُعلِنُ الحربَ على
الأَساطيلِ، أكسِرُ شَوْكَ الجنرالاتِ بأُمنيَةٍ رشيقةٍ، أنقلُ القسطنطينيَّةَ إلى
إسطنبولَ، أزرعُ بقايا قرطاجَ في بقايا العراقِ، )
ربما التوظيف التعبيري للكنايات و المجاز يمكّن البعض من
رؤية المقطع انه قص ، و ربما يمكّن الكسر الواضح للمنطقية و التحليق العالي للخيال
و التصويري انه شعر والسردية لا تمنع اذ ان النص سردية تعبيرية ، و من خلال الحديث
عن النفس و احلامها يمكن ان يرى انه خاطرة الا ان التعبيرية و الرمزية واضحة و
غايات النص التوهجية واضحة .
ان الاسلوب المفتوح من وظيفته صنع الحيرة التجنيسية فهو
من جهة يفتح الباب للقارئ للسير بخط السرد المنطقي لكن يصدمه باللامنطقية ، و من
جهة يفتح له خط التصوير و التحليق الشعري لكن يصدمه بالسردية و الحكاية ومن جهة
يفتح له خط الخاطرة و الحديث عن النفس الا انه يصدمه بالرمزية و التوظيف و التوهج . بهذه البيان الاخير يكون واضحا الجواب عن تصور قد يطرح ، بان القارئ و كذا
الكاتب غير مهتم بجنس النص و لا باسلوب الكتابة ، و هذا صحيح فان غاية الكاتب
التعبير و غاية القارئ التلقي ، لكن هذه الغايات انما يسلك فيها العقل خطا تجنيسيا
معينا لاجل استفادتها ، بمعنى ان الكاتب اذا كتب شعرا فانه يبدع في شيء يظهر له
انه شعر و كذا في غير الشعر من اجناس و القارئ حينما يتمتع و يندهش و بشعر فانه
يفعل ذلك في كتابة تظهر له انها شعر ، اي ان الابهار و الادهاش و الامتاع كلها
تكون حسب منطقية اجناسية .
اما في النص العابر للاجناس ، و الاسلوب المفتوح فان القارئ يتحصل على
الدهشة و الانبهار و المتعة من خلال مستويين من التجربة الادبية ، من اللامنطقية
الادبية المختلفة عن الكلام الحياتي العادي و من اللامنطقية الاجناسية المختلفة عن
الكتابة الادبية المجنسة .
و طبعا هناك مستوى ثالث من الابهار هو اللامنطقية الفنية المختلفة عن
الابداعات الفنية بانها عابرة للفنون وهو ما اسمينها بالعمل التجلياتي العابر
للفنون و التي لدينا تجارب فيها .
فريد قاسم غانم صاحب القلم المدهش ، لم يقبل الا ان
يدهشنا و يبهرنا على مستويين الاول على مستوى الكتابة الادبية المختلفة عن الكتابة
العادية و على مستوى الادب اللاجناسي المختلف عن الادب الاجناسي ، ، فيعلمنا هذا
الشاعر الامهر ، ان الابهار الكتابي لا ينحصر بادبية النص بل هناك طريق اخر
للابهار هو لاأجناسية النص بالاسلوب المفتوح و النص العابر للاجناس .