الواقعية الجديدة في قصيدة نثر ما بعد الحداثة ، قصيدة ( حرب ) للشاعر فريد غانم نموذجا



 

في خضم كل هذا الزخم المعرفي و الضغط المادي و السطوة العلمية و التداخل الثقافي  في عصر العولمة ، ما عاد كافيا و لا مستساغا الاعتماد على المجاز و الاستعارة كمركز للصورة الشعرية ، و اتخذ النص الشعري منحى جديدا و مميّزا بتوظيف الصورة الواقعية البعيدة عن المجاز المحلّق و الاستعارة الشاعرية الحالمة .

ان القصيدة العالمية المعاصرة بقدر محافظتها على الابهار و الادهاش ، فانها تحقّق ذلك من خلال توظيف تعبيري و أسلوبي للغة واقعية ، تحمل في جوفها الصدمة و الايحاء ، انه أسلوب الجمع بين واقعية الصورة و عمق الايحاء  و لاتناهيه .  هذا النظام التعبيري التوهّجي  الجامع بين تناهي الصورة و بين لاتناهي الايحاء يختلف تماما عن الشكل المعهود بل يعاكسه حيث انّ المجاز و الاستعارة و التشظّي التركيبي يحقق لاتناهيا صوريا مع تناه في الايحاء وهذا معروف لكلّ أحد . و من هنا تمثّل هذا الظاهرة التوهّجية  او ما نسميه أدب ( الواقعية  الجديدة ) شكلا  متميزا و مختلفا عن السائد من الكتابات الشعرية المعتمدة على الاستعارة المحلقة  و المجاز العالي .

ما عادت القصيدة المعاصرة تستسيغ اللغة  المحلّقة  و لا المجاز العالي ، بسبب وطأة الزمن و الاحداث  التي تضرب عميقا في نفس الانسان وسط كمّ هائل من التحكّم و التسلط العلمي و السياسي  و الاقتصادي مما يحتّم ظهور أدب واقعي في موضوعاته و تعبيراته ، انّه زمن الواقعية الجديدة وهو ما يميّز قصيدة نثر ما بعد الحداثة .

للواقعية الجديدة  صور و اشكال منها التعبير العميق البسيط كما في كتابات أنور غني و منه السردية التعبيرية كما عند كريم عبد الله  و من صورها هو السريالية الواقعية كما عند فريد غانم ، و الجامع لكل تلك الاساليب هو اللغة المتموجة التي تجمع بين التشويق و العذوبة و الابهار و سعة الدلالة .

في قصيدة ( حرب ) للشاعر فريد غانم -


 

-         تبرز ملامح قصيدة نثر ما بعد الحداثة بالشاعرية الواقعية ، و اللغة المتموجّة  و سريالية موظفة لأجل خلق النظام الشعري من الوحدات التعبيرية الواقعية ، بما يحقق شاعرية واقعية  في أحدى اساليبها .  تتحقق اللغة المتموجة في السريالية الواقعية من خلال الجمع بين  ذوات واقعية و يومية في نظام سريالي حالم موظف لأجل الايحاء و التعبير . حيث انّ القارئ يتنقل من وحدة واقعية توصيلية الى وحدة خيالية تعبيرية فتكون القراءة موحية ، يتنقل الذهن فيها بين الواقعية و الخيالية . انّ المجاز الذي تشتمل عليه السريالية الواقعية و اللغة المتموجة بشكل عام يختلف عن المجاز الصوري المحلق للاختلاف في الوظيفة  ، فيبنما المجاز المعهود يصار اليه لأجل بيان خصائص الذات و المعنى المشبّه ، فانّ وظيفة المجاز التعبيري في اللغة المتموجة هو لأجل تعظيم طاقات اللغة و الايحاء الى الفكرة العميقة دون النظر و التوقف كثيرا الى ما صاراليه نظام التشبيه وهو استخدام متطور للمجاز يعطيه صبغة واقعية رغم خياليته  ، بينما لا تتوفر هذه الواقعية في المجاز المعهود .

 

في مقطع متموج  توصيلي يتبادل الخيال مع الواقعية في نظام سريالي  :-

( يمامَةٌ مُبرقشةٌ بالأسوَدِ، يطيرُ بياضُها من رأسي كُلَّما أفاقَتِ الحَربُ )

يمكن ملاحظة ثلاثة مقاطع في هذه العبارة : (يمامَةٌ مُبرقشةٌ بالأسوَدِ ) وهي صورة واقعية  ، ثمّ  (يطيرُ بياضُها من رأسي ) و هي  صورة خيالية ، ثمّ  (كُلَّما أفاقَتِ الحَربُ ) وهي مجاز قريب يقترب من الواقعية  . فليدنا نظام سريالي مركب من ثلاثية تعبيرية:

 ( واقعية –  خيالية – واقعية )  .

هذا النظام من التعبير هو شكل من اشكال الوحدات الاساسية للغة المتموجة .   

في نظام آخر تموجي لكنه رمزي .

( صوتٌ يسقطُ من نافذةٍ مُحملِقَةٍ في الفراغ المُكتظِّ بالهَشاشةِ والتَّفاهاتِ، وينكسِرُ على الشَّارع المَصدوع. )

نجد عبارة خيالية (صوتٌ يسقطُ من نافذةٍ مُحملِقَةٍ في ) ثمّ عبارة مجازية قريبة من الواقعية  (  الفراغ المُكتظِّ بالهَشاشةِ والتَّفاهاتِ، )  ثم عبارة مجازية  قريبة من الواقعية (  وينكسِرُ على الشَّارع المَصدوع. ) فيتكون لدينا نظام ثلاثي ايضا لكن بالشكل التالي

( واقعية – خيالية – خيالية )

وهذا شكل آخر للغة المتموجة و هناك اشكال أخر لها نواتها التبادل بين الواقعي و الخيالي و الرمزي  التوصيلي .

من خلال هذين المقطعين نلاحظ انّ التموّج التعبير تحقق على مستويين ، مستوى العبارات بتناوب التوصيلية و الرمزية و مستوى الجمل الجزئية داخل كلّ عبارة بتناوب الخيال و الواقعية .

هذا التمّوج التعبيري اضافة الى عذوبته و ابهاره ، و بيانه و كشفه عن المقصود بطريق قريب من دون اغلاق او ابهام ، فانّه يحقق أحد أهم انطمة الشعر في قصيدة النثر الا وهو التوهّج و بكفاءة عالية . و من هنا يمكن ان نلاحظ انّ التموج التعبيري الذي حققّته الشاعرية الواقعية هو أحد تقنيات قصيدة ما بعد الحداثة لاحداث التوهّج في المفردات و تعظيم طاقات اللغة . وهكذا نجد هذا الاسلوب حاضرا في باقي فقرات القصيدة التي نترك للقارئ متعة تتبع تلك الانظمة السريالية و اللغة المتموجة و الشاعرية الواقعية في قصيدة ( حرب ) لفريد غانم التي هي نموذج لقصيدة ما بعد الحداثة .

 

حَرْبٌ//

بقلم   فريد غانم

****

يمامَةٌ مُبرقشةٌ بالأسوَدِ، يطيرُ بياضُها من رأسي كُلَّما أفاقَتِ الحَربُ؛

صوتٌ يسقطُ من نافذةٍ مُحملِقَةٍ في الفراغ المُكتظِّ بالهَشاشةِ والتَّفاهاتِ، وينكسِرُ على الشَّارع المَصدوع. صدأٌ يتعمشقُ على أشجارِ حَديقةٍ راحَت تُرخي شَعْرَها وتدلقُ أصباغَها وتبيعُ ماءَها وهواءَها على قارعةِ الطّريق. شتلَةُ نعناعٍ تسيلُ لُعابًا أخضرَ في البالوعةِ. جِمَالٌ تحمِلُ ماءً ومِلْحًا وحماسةً قبليَّةً وتنفُقُ في آخر الصّحراء، من شدَّةِ العطَشِ والجَعير. حُزَمُ أوراقٍ النّقدِ المقدّسةِ تصعدُ بلا رائحةٍ نحوَ الحَلَقةِ الديجيتاليّة، في لولَبةٍ عمرُها في عُمْرِ خنجرِ قابيل. ملائكةٌ يوزِّعونَ الرَّسائلَ في سوقِ البُورصا. وحِمَارٌ لا مُبَالٍ ينهشُ كُتُبَ التّاريخِ التي يحملُها، منذُ جفَّ الطّوفانُ، فوقَ رَسْمِ الصَّليب.

ثمَّ، فيما يواصلُ النّهْرُ الجُحُودَ ونسيانَ الظِّلالِ الّتي مرَّتْ بِهِ، ويضَعُ الصَّدَأُ لمستَهُ الأخيرةَ على خارطةِ العَودَةِ إلى العَدَمِ، يخرجُ طفلٌ من جِلدِهِ المُحروقِ ويلملمُ بسمتَهُ التي وقعَت سهْوًا تحت الأحذيةِ المستعجلةِ في آخرِ حربٍ. فتحطُّ الحمامةُ المبرقشةُ وتبِيضُ في ماسورةِ مدفَعٍ معطُوب.

ثمَّ تفيقُ الحربُ، مرَّةً أخرى.