الاستعارة قديمة قِدم الأدب و الشعر ، بل قدم الكتابة ، فما الكتابة الا استعارة رموز بصرية لتدل على الالفاظ . و لقد احتلت الاستعارة مكانة مركزية في الدراسات الادبية الكلاسيكية و خصوصا البلاغية ، و كانت و لا تزال احد أركان الشعر و التعبير الادبي . و مع ان التعاريف المتأخرة للاستعارة تنتهي الى حقيقة انها تشبيه حذف احد طرفيه (1) و تقسم عادة الى تصريحية و مكنية و تخييلية و تمثيلية (2) الا ان الفهم الحقيقي للاستعارة هو نقل المعنى من أحد لفظين إلى الآخر كنقل الشيء المستعار من شخص إلى الآخر. (3) . و أهم هذه التقسيمات و انواعها و التي تخدم البحث الأسلوبي المعاصر للنص المعاصر هي الاستعارة التخييلية التي تبحث في ماهية طرفيها من حيث المادية و المعنوية و الحسية و الذهنية (4) و بسبب التوسع الكبير في الاستعارة في الادب المعاصر كان البحث في جهة الملائمة بين طرفيها و عدمها هو الاهم من بين تلك الابحاث من حيث كونها عامية واضحة الملائمة او خاصية تحتاج الى تأمل (5) و من المعلوم ان النص المعاصر يعتمد الاستعارة التخييلية الخاصية التي تعتمد المناسبة التخييلية و يحتاج تبين الملائمة الى تأمل .
اننا و من خلال متابعة الكتابات المعاصرة و خصوصا الشعرية منها و بالأخص قصيدة النثر، فانا نجد اشكالا من الاستعارة و اساليب فيها لا تستوعبها الحدود و المفاهيم المتأخرة بل لا بد من التوسع في فهم الاستعارة حتى تصل الى معناها اللغوي وهي استعارة معنى من لفظ الى آخر (6) وهي بذلك تنتهي الى الرمزية و تستوعبها بسير. و حينما تنطوي الرمزية على عمق فردي و تميز ذاتي و اضافة شخصية على التصور و الفهم اللغوي فانها تنتج التعبيرية .
و التعبيرية هي الافصاح الخاص عن الرؤية العميقة الفردية للأشياء ، فهي تنطوي على التفرد و الاختلاف في الرؤية و البيان (7)، انها لا تعكس ازمة الفرد من خلال بيان ازمة المجتمع بل تعكس ازمة المجتمع من خلال تمثلها و تلبسها في الفرد (8) فالكاتب تعبيري يندب المجتمع الميت بالكتابة عن نفسه الميتة و يندبها و، وهنا تكمن جمالية التعبيرية ، و تميزها الاسلوبي ، و لو قلنا ان الادب و خصوصا الشعر هو افصاح تعبيري لما كان خطأ ، بل لو قلنا ان الاسلوب هو تميّز تعبيري و بدرجات مختلفة لما كان خطأ ايضا . و اننا نرى انّ النص الادبي العربي المعاصر و خصوصا الشعري منه يتبنى التعبيرية بحذافيرها بوعي او من دون وعي ، فان أدباء التعبيرية يهتمون في الأساس بالمضمون والإرادة والموقف الأخلاقى. و التجربة الداخلية للفنان والأديب لابد من أن تظهر على السطح في شكل طاغ من خلال التعبير عما يدور في داخله (9) . و لو تفحصنا كتابات الشاعر عادل قاسم لوجدنا طغيانا لهذا الشكل من الأدب (10)
و من هنا يكون واضحا ان التوظيف الاستعاري اذا اتصف بفردية و تميز خاص ، و اشتمل على المغايرة و الاعتراض الواضح على الخارج و السائد ، مع تلبس المؤلف بالمأساة و ندب نفسه بغاية ندب المجتمع و الواقع كانت تلك تعبيرية و مع التخييلية و الخاصية في المجاز و الاستعارة تكون لدينا استعارة رمزية تعبيرية ، و بهذا الفهم يمكن فهم الاستعارة على انها اسلوب تعبيري ، و هنا سنبحث شكلا من الاستعارة تتجلى فيه التعبيرية الى حد يخرجها من النمطية المعهودة و ينقلها الى عالم تعبيري جدي و اصيل و تجديدي و هو ما اسميناه ( الاستعارة التعبيرية )، و ستكون كتابات الشاعر عادل قاسم انموذجا لهذه الاساليب لما بيناه من تجلي الاستعارة الاسلوبية في كتاباته بشكل واضح.
فالاستعارة التعبيرية اضافة الى ما تتصف به الاستعارة عموما فانها تحمل طاقات تعبيرية و رمزية و تفردات اسلوبية متميزة ، و يمكن ملاحظة و متابعة شكلين واضحين من الاستعارة التعبيرية في الشعر و كتابات عادل قاسم خصوصا ، هي ( الاستعارة التعبيرية التوافقية ) وهي التي يتوافق فيها الرمز مع الرؤية و الرسالة اي ان المؤلف يقول في رمزيته ما يوافق مراده و يمكن ان نسميها ( الاستعارة الرمزية ) بشكل عام ، و( الاستعارة التعبيرية التضادية ) و هي التي تشتمل على معاندة و تضاد بين الرمز و القصد اي ان المؤلف يقول عكس ما يريد برمزيته فهي من قبيل الاستعارة التلميحية و يمكن ان نسميها الاستعارة التبادلية و قد بحثناها سابقا في اللغة التبادلية في شعر انور غني الموسوي ( 11).
في قصيدة (قدمي اليمنى ) المنشورة في مجلة تجديد الأدبية (12) يقول عادل قاسم
( قَدَمي اليُمنى )
عادل قاسم
(( يتوارى خلفَ جُدران الحروفِ السميكة ،كلبٌ يتربصُ بالغبار ، ماعادت الأشرعةُ ولا مراكب الرغبةِ تقودُنا لمناراتِ الخلاص، إنطفأت المصابيحُ وتهاوت الفنارات، تحتَ بساطيلِ القراصنة، مسافرون على غير هدى ًنتبعُ ضياءَ نجمةٍ ميتة، عسى ان ترشدَنا لراية يكحُلُها الندى، كنتُ متوقفاً على حافةِ الصراط، أراقبُ بِدهشةٍ كيفَ يمر عليه المجانين بثقة، وضعت قدمي اليمنى مرتعباً، وانا أنظرُ أسفلَ الوادي السحيق وزفيره الذي يميزُ من الغيظ . لأجري أخيراً برشاقةِ المجانينِ وخِفتِهم..!
يَقف دونما حراكٍ ،ذلك العجوزُ يقلبُ الايام ،المساءآت، التي تنطفئ، ليزدادَ انحناءً، ذاتَ مساءٍ تخشبَ جَسدهُ الطري أصبحَ زَورقاً صغيراً، يُبحرُ في شواطئٍ من الغبار .))
هذه القصيدة السردية العذبة التي تتجلى فيها الشعرية و تقنياتها من انزياحات و عمق و تلميحات ، مع رمزية قريبة و رسالة واضحة ، و مجاز و استعارات لفظية كثيرة ، نجح الشاعر في توظيفاته الرمزية و استطاع ان يبعث رمزية نصية في المفردات و خرج المفردات من مرجعيتها ، فصار لديه مجال تشبيهي و استعاري متعدد الروافد ، و لا يمكن مطلقا تناول هكذا كتابات بالفهم البلاغي للاستعارة و التحديدات التي وضعها البلاغيون ، و هذا كما يشير الى قصور التناول الاكاديمي البلاغي للنص الادبي فانه ايضا فيه اشارة الى عجز باقي التناولات الاكاديمية للنصوص الادبية كاللسانيات حيث ان الاستعارة في الشعر المعاصر تتسع بسعة الشعر ، فتكون هي الشعرية و تكون الشعرية هي الاستعارة ، و من هنا فجميع الانزياحات و التفردات الاسلوبية في النص هي في جوهرها استعارة حيث استعارة المؤلف شيئا لشيء وهذا ما نشير اليه كثيرا بالتوظيفات و التقنيات الشعرية ، و نص ( قدمي اليمنى ) المتقدم مليء بالتوظيفات الانزياحية التي يسع وقت تتبعها .
ان الاستعارة الرمزية التوافقية تبرز في استعمالات معينة في النص ، حيث يتطابق المراد و الاستعمال و الانزياح الاستعاري فتكون كلها في اتجاه واحد ، و هذا في قبال الاستعارة التضادية التبادلية التي تتقاطع و تتعاكس تلك الجهات . فمن الاستعارات الرمزية في النص
(( كلبٌ يتربصُ بالغبار ، ما عادت الأشرعةُ تقودُنا ، يقلبُ الايام ،المساءآت التي تنطفئ، تخشبَ جَسدهُ الطري ، يُبحرُ في شواطئٍ من الغبار )) من الواضح الاستعمال الاستعاري في هذه المقاطع سواء بالفهم الخاص البلاغي او بالفهم العام الذي بيناه كما انه من الواضح الرمزية التي توحي و تدل عليها المقاطع ، و من الواضح التوافق في المقاصد و الاستعمالات و الرسالة .
في جهة خرى نجد استعمالات استعاري تلبسية و تبادلية يضع المؤلف الاشياء و نفسه في موقع الاخر فبينما تتصدر القصيدة وصف للحال الجماعية فان الشاعر ينتقل الى مشهدين الاول عن الذات المتكلم و الثاني عن شخصية العجوز . فهنا ثلاث شخصيات في النص ( الجماعة ، الانا ، و العجوز ) و بينما يكون الوصف المأساوي و التراجعي موافقا لرسالة الخلاص في النص في شخصية ( الجماعة ) و ايضا الى حد ما في الشخصية الثالثة العجوز ، الا ان تلبس هذه التراجعية و تلبيسها الذات هو من الرمزية التبادلية وهو استعارة تعبيرية واضحة . و اضافة الى مقاطع رمزية تستعير فيها التراكيب الجملية المركبة معاني اخرى ، فان الاستعارة حاصلة هنا على مستوى المفردات . و من قبيل الاول أي الاستعارة الجملية التركيبية التمثيل الرمزي الذي تلبس به المؤلف و الازمة الذاتية التي يصفها النص و التي يراد بها الاخر و الخارجي في قوله (كنتُ متوقفاً على حافةِ الصراط، أراقبُ بِدهشةٍ كيفَ يمر عليه المجانين بثقة، وضعت قدمي اليمنى مرتعباً، وانا أنظرُ أسفلَ الوادي السحيق وزفيره الذي يميزُ من الغيظ . لأجري أخيراً برشاقةِ المجانينِ وخِفتِهم..! ) فهنا مركبين جمليين استعمل فيهما الظاهر المعنوي الاستعمالي بخلاف القصد المرادي ، فلا توقف هنا حقيقة و لا ثقة ، و انما جو يغلي و جنون اعمى . و من الثاني أي الاستعارة المفرداتية عبارات ( كلبٌ يتربصُ بالغبار ، عسى ان ترشدَنا لراية يكحُلُها الندى، ، لأجري أخيراً برشاقةِ المجانينِ وخِفتِهم ، يقلبُ الايام ،المساءآت ، أصبحَ زَورقاً صغيراً)
لقد اشتمل هذا النص على تقنيات شعرية و انزياحية و استعارية كثيرة و كبير ، و وظفت كل تلك الاشتغالات لأجل تعظيم طاقات اللغة و لبلوغ النص غاياته ، و من خلال تلك الانجازات التي حققها المؤلف في النص من حيث الفنية العالية و المعقدة ، و الرسالة الواضحة و العميقة ، و العذوبة و السلاسة الكتابية ، بلغ بالنص حالة النص الكامل .و ربما نكون قد تفردنا في تناول الاستعارة التركيبية للجمل و لم نقتصر على الاستعارة في المفردات ، حيث اننا نرى ان الاستعارة لا تحتاج الى الوضع في اصل اللغة ، و انما تحتاج الى وعي بالمعنى يرتكز عليه ، وهذا السبب ذاته أي فقد الاصل الوضعي للمركبات هو الذي منع الاخرين من بحث الاستعارة التركيبية للجمل و الاقتصار على الاستعارة المفرداتية .
1- http://olomtec.blogspot.com/2016/03/blog-post_30.html#.V_ZdCP6KTIU
2- http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=76346
3- http://www.abc4web.net/vb/archive/index.php/t-10601.html
4- http://hewar.khayma.com/showthread.php?t=76346
5- http://forums.roro44.net/497355.html
6- http://www.abc4web.net/vb/archive/index.php/t-10601.html
7- https://ar.wikipedia.org/wiki/تعبيرية
8- http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=10815
9- https://ar.wikipedia.org/wiki/تعبيرية#.D8.A3.D9.87.D9.85_.D8.A3.D8.AF.D8.A8.D8.A7.D8.A1_.D8.B9.D8.B5.D8.B1_.D8.A7.D9.84.D8.AA.D8.B9.D8.A8.D9.8A.D8.B1.D9.8A.D8.A9
10- https://tajdeedadabi.wordpress.com/category/عادل-قاسم/
11- https://tajdeedadabi.wordpress.com/2016/01/27/د-أنور-غني-الموسوي-؛-المشترك-التعبيري-و/
12- https://tajdeedadabi.wordpress.com/2016/09/28/قَدَمي-اليُمنى/