تقابل الحضور و الغياب كاداة تعبيرية عند وداد الواسطي



ان الانجاز المهم للمؤلف المبدع لا ينحصر فقط في ابتكار طريقة تعبيرية جديدة و انما ايضا في التكامل في الطرق التعبيرية.   و توظيف صور الحضور و الغياب في التعبير عن الزخم الفكري و الشعوري معروف الا انّ المؤلف المبدع الناجح هو من يستطيع ان يتكامل في توظيف تلك الصور لأجل توصيل الرسالة الى المتلقي  .   انّ ثنائية الحضور و الغياب الدلالية  تبحث عادة كحالة من التخفّي و تأجيل الخطاب و الايحاء البعيد  مما يستدعي اثارة التساؤلات بفعل ما هو حاضر  عند القراءة و الاجابة الافتراضية بفعل وعي القارئ ، الا انّ هذه النظرة النقدية و التي تتكئ على قواعد فكرية و اديولوجية لاايمانية معروفة غير نافعة في بيان جمالية الظاهرة الادبية و الابداعية و التي تتجه بالنظرية الادبية نحو الفردانية و التاويلية و التشكيكية اللاعلمية ،   و هي ليست مقصودة هنا مطلقا، بل ما نقصده هو اسلوبيات نصية مادية واضحة بتجلّي خطاب المؤلف و رسالته من خلال القاموس المفرداتي الصادق و الصور الشعرية التعبيرية و التي من خلال بناء واضح و جلي تحقق دلالات و ايحاءات رمزية حقيقية لاتشكيكية مصدره الصدق و الايمان بالنص و رسالته و ليس مجرد ادعاء و افتراض وهذا ما يمهد الى نظرية ادب علمية  رصينة لا تتدخل فيها الفردية و الفرضيات الشكية . فحضور الشيء هو وجوده الحاضر  و قوته   و تجلّيه و فاعليته و ايجابيته ، و غيابه هو انعدامه و خفاؤه و عدم فاعليته و سلبيته . و التعبير عن ذلك قد يكون على مستوى المفردات و قد يكون على مستوى الصور الشعرية ، كما انّ كلا من الحضور و الغياب قد يكون للذات او للآخر او للزمان او للمكان او لاي شيء له اثر في الوعي الانساني المحلي او العام الكوني .
في مجموعة ( ما تبقى لي من كفنى ) 
( ما تبقى من كفني ) مجموعة شعرية للشاعرة العراقية وداد الواسطي ، صادرة عن المركز الثقافي للطباعة و النشر ( العراق- بابل ) سنة 2016 ،     تشتمل على قصائد حرّة متوسطة الطول بواقع ثمانين عنوانا  في 134 صفحة . اشتملت على توظيفات معبّرة و فذّة لصيغ تركيبية نصية ذات دلالات تعبيرية عن الحضور و الغياب و على المستويين المفرداتي و الصورة الشعرية.
 على مستوى العنوان وهو العتبة المهمة و أحد الموجهات الدلالية للقارئ بخصوص الرسالة و النص، فانّ عنوان المجموعة ( ما تبقى لي من كفني ) وهو عنوان احدى القصائد ، حافل بثنائية تضادية من حيث الحضور و الغياب ، او بمعنى أدق هو الحضور الغائب ، و بمطالعة النصوص و التأمل فيها فانا نجد انّ عنوان المجموعة كان عتبة دقيقة و ناجحة في ايصال و اختزال الرسالة ، انها رسالة الخراب ، و المجموعة بمجملها و بأهمّ النصوص فيها تتحدّث عن الخراب ، حيث حضور الغياب و غياب الحضور للذات و الآخر .
عناوين النصوص تتوزّع بين هذين الموضوعتين الحضور و الغياب كما انّ بعض العناوين اشتملت على الثنائية التضادية بينهما كما بينا في عنوان المجموعة ( ما تبقى لي من كفني ) و ( خدعتني و انت ابي ) و (الحب و الحزن ) و( اسئلة مؤجلة ) و (لعبة الهروب ) و ( ناصية الظلام ) و ( أنت تغادر ) و ( و أنا المغدور ) . و اما عناوين الغياب قمنها  ( رغم الغياب )  و ( السقوط الحر ) و ( دفتر قديم ) و ( سنين الانتظار ) و ( تداعيات غريق) و ( الحلم قضية ) و ( قد) و  ( لا شيء ) و  ( لا شيء يبدو ) .و اما عناوين الحضور  فمنها (نحن ) و ( مثل فراشة ) و ( يا صاحب الدار ) و ( و رسمت كتبت ) و ( ساهزّ عالمك ) و ( نهر الحياة ) و ( كل هذه الوجوه ) و ( ثمة شيء ) و ( حجر في بركة ) و ( أنا و أنت ) و ( يوميات مدينة ) و ( مثل ظلك ) .
و في الوقت الذي تتوسع دائرة الحضور و الغياب في فهمنا فتشمل السلبي الكلي للغياب و الايجابي الكلي للحضور فتنطبق هذه الثيمات و بشكل كامل على نصوص المجموعة و تحقق الوحدة المرجوة من كتاب و مؤلف واحد  فلا يعدّ مجرد تجميع لنصوص متعددة الخطابات و الرسائل كما يحصل احيانا ، بل انّ نصوص هذه المجموعة على تماسك اسلوبي و رسالي و موضوعي واضح و تحقق بذلك التكامل التأليفي . أقول اضافة الى تلك العناصر التناسقية و التناسبية و التناغمية بين النصوص فانّ الشاعرة ادخلت و وظفت مفردة جعلتها محورا في نصوص كثيرة ان لم تكن القاعدة العامة لجميع النصوص لو تأملنا الخيوط البنيوية العميقة لها الا و هي مفردة ( المدينة ) . فانّ المدينة تحضر و بقوة في النصوص و مع انّ لغة الخراب و الفقدان و عدم تحقيق الاحلام المرجوة و الخيبة التي تتصف بها مدينة هذه المجموعة الا انّها ايضا كانت عاملا موحدا و شمس عالية لتكون هذه النصوص تجتمع تحت نورها . و من خلال التركيب الخطابي الجامع بين البوح و الشكوى بين الحلم المفقود و الغياب المخالف للامل و فقدان الحضور و بين المدينة و الاشياء ، فانّ المزاج العام للنصوص ينتج قاموسا تعبيريا عن المدينة الخراب .
في القصيدة الاولى ( خدعتني و أنت أبي ) التقابل بين الحضور و الامل و الحلم و بين الغياب و الخراب و الفقدان حاضر و جلي في العنوان و النص . تقول الشاعرة
( ما زلت هنا \ تحدثني عن مدينتي \ عن الوطن \عن تلك الألفة \ عن عالم ودريّ \ و اناس طيبين \ عن شوارع \ لا يشوبها التراب ..... الى ان تقول ( وهنا حالة التقابل )... حدثتني حتى صدقتك \ باكية انا اليوم \ فلقد خدعتني \ شوهت ذاكرتي \ فالوطن لم يعد ملاذا \ و الناس مختلفون \لم يعد ايماني مطلقا \ انتظر القاد من الايمان \ اجل القرفصاء \ انتظر القادم \ احاول ان انهض من يأسي \ أرمم عالم الطفولة \اعيد ترتيب الماضي \ لعلي اجدك صادقا ....الى آخر النص )
هذه القصيدة الحرة المعبرة تختزل و تختصر الكثير مما تريد الشاعرة قوله و ايصاله الى الاخر بهذه المجموعة و ما اشتكلت عليه من ذكريات و امنيات و حكايات جميلة و واقع مر و مؤلم هو الصبغة العامة للنصوص التي يتقابل فيها الحضور و الغياب ، و انك لتجد في كل صورة و في كل مقطع حلم و ذاكرة جميلة  مفقودة و غائبة و وواقع و عالم مر و مؤلم حاضر .
 في القصيدة التي عنونت بها المجموعة ( ما تبقى من كفني ) يحضر التقابل بين الحضور و الغياب حيث تقول الشاعرة :
( ما تبقى من كفني \يوم سرت وحيدا \ يتبعني ظلي \ نبكيني ايامي \ تلحق بي آخر خطواتي \تشدني الى بلاد مهجورة \ يسكنها الموت\ يخطفها في ومضة \ ماتبقى من كفني \و أنا القي آخرشباكي \لاكي أصطاد حلما\ اقتنص أملا\ أحاكي نجمة\ ما تبقى من كفني \ و أنا أحذوا حذو أبي \ أردد عباراته \ يتقمصني ذات حلم \و تلك الامنية \ما تبقى من كفني \و انا احلم بعباءة امي \ و شالها الاسود و حمرة تنورها \ وهي تلفظ رائحة البخور \ نطرد عنا اشباح الفقر\ ما تبقى من كفني \ و أنا أ ودع مدينتي\ أعشق اسفلتها \ اقبل جدرانها \ أحلّق مع طيورها \ أشدّ على يد من أمنياتها \ و أنا أحلم بـ ......)
النص مزيج من حلم و ذاكرة و أمل و حسرة و واقع مر و يحضر هنا التقابل بين الحضور و الغياب و تحضر المدينة كما هو الحل في جلّ نصوص المجموعة التي تنفذ عميقا الى حلم الانسانية و أملها و ما يقابله من خيبات الواقع المرّ و  المدينة والعالم الخراب .