قصيدة النثر هي حالة التكامل في التضاد ، انها ليست فقط حالة اجتماع الاضداد بل هي حالة تكامل تلك الاضداد المجتمعة . على مرّ العصور و الشعر يفهم انه ضد النثر ، الا انهما و بشكل غير مسبوق يجتمعان في قصيدة النثر . اذن قصيدة النثر انجاز انساني منقطع النظير .
لقد صار معهودا تراجع النثر في النص حينما يكون المجال للشعر ، و ايضا العكس حاصل اي تراجع الشعر في النص حينما يكون المكان للنثر ، بل في بعضها ينعدم الاخر بوجود احدهما وهذه هي الضدية الكاملة ، اما في قصيدة النثر، فالشعر و النثر ليس فقط يجتمعان و يحضران بل و يتكاملان و هذه هي حالة التكامل ( النثروشعري ) وهو امر لم يكن ليخطر على بال انسان حتى كانت قصيدة النثر .
لكل من الشعر و النثر خصائص كتابية و عناصر نصية ، حينما تتحقق تلك العناصر و تتجلى تلك الخصائص فان الشعر يتحقق و النثر ايضا يتحقق . في قصيدة النثر نجد خصائص الشعر و النثر حاضرة و نجد عناصرهما حاضرة في النص الواحد و في العبارة الواحدة .
يتجلى النثر في الكتابة بانسيابية العبارة و البناء الجملي المتواصل و كتابة النص بشكل جمل و فقرات ، و يتجلى الشعر بالرمزية و الايحائية و الانزياح و التقاط الصورة العميقة و تجلي التجربة الانسانية بمعادلات نصية. و من الواضح عدم امكانية تحقيق الاجتماع للشعر و النثر في الشعر الموزون فضلا عن المقفى لتعذر النثر فيها ، كما ان القصيدة الحرة – وهي القصيدة التي تتخلى عن الوزن الا انها تحافظ على الموسيقى البصرية بالتشطير و الموسيقى الذهنية بالتشظي – القصيدة الحرة ايضا تفشل في تحقيق اجتماع الشعر و النثر ، فلا تتحقق قصيدة النثر فيها . اما قصيدة النثر المعتمدة على الجمل و الفقرات و المعتمدة على السرد و البناء الجملي المتواصل من دون سكتات و لا تشطير و لا تشظي ، و التي منها و من وسط هذا العالم النثري المتكامل ينبثق الشعر برمزيته و ايحائية و انزياحيته و التقاطاته العميقة و معادلاته النصية المحاكية للعوامل الجمالية الانسانية المتخفية .
لقد استطاع شعراء مجموعة تجديد تحقيق النموذج لقصيدة النثر ، بصورتها التي يتجلى فيها الشعر و النثر و التي يتكامل فيها الشعر و النثر بكتابة قصيدة شعرية تشتمل على كل تقنيات الشعر بنص مكتوب بنثرية كاملة مشتمل على كل مقومات النثر ، و من هؤلاء الشعراء الشاعر ميثاق الحلفي ، و هنا سنجد ( التكامل النثروشعري ) حاضرا في قصيدته ( سومري يبحث عن أرض سومرية ) بتجلّ واضح للنثر و الشعر بالسرد التعبيري و الجمل و الفقرات و الرمزية و الايحائية و الانزياحات و التقاطات و الصور الشعرية .
( سومري يبحث عن أرض سومرية )
ميثاق الحلفي
( وهو يجمعُ سُحبَ الهورِ العالية ، وينقلُ رسائلَ العشقِ من جيبٍ الى جيب ،يُغسّلُ موتى البردي بمشحوفِ أبيه الذي استعاره من صيادٍ نفقَ سمكه ذات جفاف. وحدكَ ايّها النهرُ تعرِفُ الغرباء وتفهرسُ احلامَ فتيتِكَ وأشلاءَ ثواركَ ،تعرِفُ أثارَ الجّلْدِ ، ما من أصبعٍ مبتورةٍ إلاّ وسامرته قيثارتك. يامَنْ لَمْ تخنِ الطينَ حينَ كانوا يحملونَ المشانق ، كلُّ جرفٍ فيكَ تاريخٌ. كنتَ تمسحُ على رؤوسِ اللقالقِ ،تُدوزِنُ تقاسيمَ انبعاث الضوءِ على أكفانٍ غير مدفوعة الثمنِ،ت َعدّ العصافيرَ على قواربِ القيامة، أيّها الخارجُ من فوهاتِ الجراح، أحقاً تموتُ تحتَ المطر وتسقطُ نبوءة السماءِ وتدفنُ وجهكَ بينَ نهدي (عشتاروت) .
سومريٌ يرى نهايته على ابوابك المخلّعةِ لَنْ تهدأ رئته عن دخانِ فجرك. سأبكي بحرقةٍ، تُداعِبُ يدي أطراف الأرضِ المذنبة، بعكازٍ متسخٍ عليه خطيئة إلهٍ. ايامك الراسبة في قاعِ الدِّلالِ ، وبعد أنْ ينام اطفالي سأخبرهم بأنّي عثرتُ على ارضٍ لا يموتُ فيها نبيٌ. )
لدينا نص متكون من عشرة اسطر كتب ، بسبع جمل في فقرتين فقط ، ببناء جملي متواصل حيث الكلام الانسيابي و الحديث المتواصل و السرد التعبيري المكون للفقرات ، و بهذا يتحقق النثر .
من وسط هذا الفضاء وهذا الجو النثري ينبثق الشعر حيث الرمزية في مفردات النص و كياناته و الايحائية المتجلية و الانزياحات الشعرية الواضحة و الالتقاطات الشعرية الفذة و صور شعرية عالية و معادلات شعرية تحاكي عوامل جمالية عميقة ، و كل هذه الامور واضحات جدا في النص لا تحتاج الا لقراءة النص لتبينها و الدلالة عليها . و بهذا يكون هذا النص قد حقق الحالة النموذجية للتكامل النثروشعري ، بالتجلي العالي للشعر و النثر ، و بذلك تتحقق حالة نموذجية لقصيدة النثر .