نحو اسلام بلا مذاهب ؛ العلم سبب الوحدة





المعرفة العلمية معرفة اعلى درجة من المعرفة الاطمئنانية ، لذلك فان نسبة الشك فيها تكاد تكون معدومة ، كما ان نسبة الاختلاف تكون مهملة لا تذكر ، و الاهم من ذلك كله انها تقلل بل تمنع من ظهور الفردية و تمنع من امكانية استفحال تلك الفردية الى مدرسة تؤسس فيما بعد الى مذهبية . و لاجل تحقيق هكذا علمية لا بد ان تتصف المعارف بالقطعية ، و القطعية العلمية لها شكلان الاول القطعية الاولية الاصلية التي تكون قطعية بذات ادلتها ، أي ان ادلتها تكون كافية في تحقيق القطع بها ، و الشكل الثاني هو القطعية الثانوية الفرعية ، و هي المعارف التي تكتسب قطعيتها من خلال الاتصال و التفرع من المعارف القطعية الاولية ، و تتميز هذه المعارف القطعية الثانوية و التي كانت في بدايتها ظنيات بانها غير ظنية في النهاية تحقق الاطمئنان المفيد للعلم و باتصالها بالقطعي تحقق القطع .
لقد افرطت التراكمات المختصة بالمعارف الدينية في مسألة الاحتفاء بالظن المعتبر ، و اكسابه اهمية غير مسبوقة ، بحجة التسليم و الايمان ، و مع ان هذا خلاف الفطرة و النص القرآني و السني الموصي بامتلاك الحق و الحقيقة و عدم القبول بالظن ، فان ما نراه من التمذهب و الخروج عن الخط المستقيم هو نتاج طبيعي لهذا التبجيل للظن. و من الواجب التأكيد ان الحقيقة و الحق امر بين في المعارف الواصلة الى الاجيال ، و انما التبريرات و الاقناعات هي التي تصنع الغشاوة و ما يمكن من اصطناع هكذا غشاوة هو ذلك التبجيل للظني و وضعه في المقدمة في قبال القطعي ، و ذلك الخروج و الانحراف  ضريبة على من بجلّ و قدس الظن ان يدفعها.
ان الخلل في العلمية الدينية تكمن هنا ، أي في ادعاء العلمية للظنيات ، و من الواضح ان هذا لا يمكن ان يسمى علما ، لان العلم بطبيعته درجة اكثر رسوخا من الاعتقاد الناشيء عن الاطمئنان ، و المحاولة التي اعتمدها الخط الظني بادعاء ان الظن الشرعي هو علم امر لا اساس له و كانت له اثار خطيرة ، و اهمها المذهبية .
لو انا راجعنا جميع الخطوط الانحرافية و التمذهبية فانا سنجد ان المنفذ الاهم ان لم يكن الوحيد هو الظنيات ، بالتغاضي و الالتفاف حول الوصايا الفطرية و العقلية و القرانية و السنية الموصية برد الظني الى القطعي، حيث يجنح الخط التمذهبي الى عدم رد الظني الى القطعي ، و التمسك بالظني و تحمله بحجة انه العلم و انه الظن الشرعي الذي لا يجب رده . و هذا ليس صحيحا وهو محض ادعاء ، بل لا بد للعلم ان يستند على معارف تنتهي الى القطع و اليقين و لا يمكن قبول الظن كمعرفة علمية . و حينما تكون المعارف العلمية مبنية على القطع فانها بلا ريب ستكون منسجمة و متناغمة و متناسقة، و تكون الاختلافات فردية اجرائية و لا يمكن ان تتجاوز الفردي و لا يمكن ان تكون جوهرية او حتى مدرسية تمكن من التمذهب .
ان اهم ما يترتب على علمية المعرفة هو التقليل من الفردية ، و هذا بالتالي يقلل من فرصة ظهور المدرسية ، و هذا بالتالي يقلل من امكانية بل يمنع من ظهور المذهبية . المعرفة العلمية ليست فقط تخلو من الشك و تتجنب الوهم ، بل انها تعمل على خلق نظام موحد و مجال عمل موحد ، وهذا هو العامل الاهم لمنع ظهور المذهبية . و من الواضح انه لا يمكن و بأي شكل من الاشكال و تحت أي عذر من الاعذار تحقق المعرفة العلمية بدعاء علمية الظن ، بل لا بد من  ان تبتنى تلك المعرفة على القطع . و لا يصح تصور ان ذلك يتطلب أصلية قطعية كل معرفة فيصطدم بحقيقة محدودية المعارف القطعية بالاصل في الشريعة ، لأن هذا الامر عام في اكثر العلوم صرامة من حيث القطعية فان سدّ الفجوات بالتفسيرات المنطقية و المناسبة و الفرضية موجود و هذا لا يضر بعلمية العلم ، لكن المهم ان تكون تفسيرات صلبة و غير متنافرة و لا متعارضة مع ما هو معلوم و مقطوع به ، و الا يترتب عليها عمل يتقاطع و يتعارض مع ما يكون عن المعارف القطعية . و من المهم التأكيد ان قطعية المعرفة و صلابة ما يتصل بها من معرفة تكون قطعيتها فرعية ، ان كل ذلك يجب الا يتأثر لا بعواطف من يتبنى المعارف الخطئة و لا بكثرتهم ، لذلك ليس من العلمية في شيء تغييب بعض المعارف القطعية الاولية او الثانوية مراعاة لعواطف المخالف للحقيقة او لاجل غالبية من يخالفها ان لم تصطدم مع ما هو اهم كالحفظ و البقاء مثلا .