د أنور غني الموسوي
المجاز جوهرة الشعر ، حتى أنّ البعض يعرّف الشعر أنّه المجاز العالي . و لا ريب في تأصّل التوظيف في المجاز ، بأن يُعمد إليه لأجل غاية و وظيفة . و يمكن ملاحظة شكالين من التوظيف للمجاز في اللغة الأدبية الابداعية ، الأول المجاز التوصيلي وهو السائد بأن يلجأ الكاتب الى معنى يشترك في إحساسه تجاهه مع المعنى المراد ، وهو سمة اللغة الحكائية ، الثاني المجاز التعبيري وهو مجاز يعطي للمعنى المتشكّل بعداً دلالياً و إضافة ذاتية تتجلّى فيه رؤية الكاتب وهذا أحد شكال التعبيرية كما هو ظاهر .
المجاز التعبيري ينحى الى توظيف دلالي موسع ، يعرّف المعنى من جديد و يقدّمه بصورة متفرّدة الى الحد المحقّق لدلالة إضافيّة و خلق مرجعية نصيّة مبتكرة . فيتجه الفكر و القراءة بفعل ذلك المجاز الى حقول دلالية و مفاهيم تعريفية مغايرة للّبَنَة الأصليّة المعنوية . فيتعامل مع المجاز ليس كمحسّن لفظي و وسيلة توصيلية كما في اللغة الحكائية و حسب ، و إنما يتعامل معه كحالة إبداع و خلق جديد لمجال معنوي مغاير .
من هنا يتبين أنّ الفرق جوهري بين المجاز التعبيري و التوصيلي ، حيث يكون الإستعمال في الأخير في حدود عملية توظيف اللفظ ، بينما يكون في المجاز التعبيري في مجال التعبير بالمعنى عن المعنى فيكون التوظيف للمعنى ايضا و ليس اللفظ فقط . و لغة بكر زواهره تقدّم نموذجاً لتجلّي المجاز التعبيري ، الموسّع للمفاهيم و الإدراكات إضافة الى الشاعريّة المحقّقة .
في قصيدة ( بين بكائين و أكثر) يتمظهر توظيف للمجاز موغل في الرؤية و لا يرضى بالتسليم لما هو معهود من دلالات وفهم ، حيث يقول الشاعر في مقطوعة عالية التقنية و بلغة تتكامل فنيتها و شاعريتها (أنقشُ في وجهِ الريح \دموعي فيهلُ الغيث الساخن \ في عشبي المثقوبِ رمالا \ والريحُ تمشطُ غابات \الأحزان\ بصهيل حصانٍ \ مضمر ) ، هنا ( غيث ساخن ) و لا ريب أنّه ليس مجرّد تحسين لفظي ، و لا حكاية عما هو خارجي ، انما هو بوح من الشاعرو دعوة لكي نرى غيثاً ساخناً ليس غيثاً مطلقا حرّاً إنّما غيث ساخن . و إيضا ( عشبي المثقوب ) ، فهو ليس فقط تحسين لفظي و حكاية عن الخارج بل هو إطلالة للشاعر على ما يراه و ما رأيناه معه ، انّه ليس العشب الذي يدور في خلدنا إنّه عشب مثقوب ، فهو ليس عشباً فقط أو أيّ عشب. و في ( صهيل حصان مضمر ) تجلّي لرؤية الشاعر و دعوته لنا لكي نحسّ معه و نشعر في ضمور صاحب الصهيل .
و في موضع أخر عالي الشعرية و الإيحاء حتى أنّ المفردات و التركيب في توهّجها تصبح وجوهاً و علامات لعوالم دلالية واسعة و عميقة ، حيث (أتيممُ بالجبل الكاظم غيظ الماء \الى قاع الصبر \وناب الجرافة يفتح جمجمة التاريخ بكابوس قاس كخرافة رعب \ لا أخشى البركان هشاشة\ نيران يطفئها الوقت رمادا بارد ) ، فالجبل الكاظم غيض الماء ، تجلّ للتجربة الذاتية و الفهم الذاتي و دعوة للقارئ الى تلك الرؤية ، إنّه ليس جبلاً بمعناه الواسع المطلق ، إنّما هو الجبل الكاظم غيض الماء ، و في نهايته ( رماد بارد ) إنّه توجيه لخطّ الدلالة لكي يسير وفق رؤية ذاتية و الشعور العميق ـ فهو ليس أيّ رماد ،إنّه الرماد البارد . انّ هكذا لغة موجّهة لا تُكتب إلا من العمق و من مواطن الصدق ، و لا تريد الا البوح العميق و المستقل ، إنّ المجاز التعبيري يقدّم لنا مشاعر نقيّة و واضحة لا لبس فيها و يعلّمنا صوراً للأشياء ، الشاعر سيّدها و مبدعها ، المجاز التعبيري واحة خلق و إبداع من جهة الشاعر ، و فرصة فهم أوسع و إبحار أعمق من جهتنا تجاهه و تجاه الأشياء .
ما تقدّم من أمثلة كان من المجاز التعبيري بتركيب النعت المباشر البسيط ، و في النص ّ المجاز الإسنادي الإسمي و الفعلي و جميع مقاطع القصيدة مثال حيّ لذلك و يمكن ملاحظته بأدنى تأمّل . تاركاً لكم متعة تلمّس ذلك البناء الفذّ الجميل في نص ّ ( بين بكائين أو أكثر )
بين بكائين وأكثر
بكر زواهره
---
أنقشُ في وجهِ الريح
دموعي فيهلُ الغيث الساخن
في عشبي المثقوبِ رمالا
والريحُ تمشطُ غابات
الأحزان
بصهيل حصانٍ
مضمر
وطني مزروعٌ في صدري
وأنا مزروعٌ في الاشياء العليا
مخلوقٌ من لحم الزيتون
ومرسومٌ من ملك الأوطان
عيوني من حدق النخل
المصلوب عبادة
فوقوف النخل سجود للاعلى
مأخوذ بالعشق الصوفي
كل الأشياء تغني
حتى الحزن يغني
كي يفقد أوصاف النزف
كأسراب من طيرِ نداء
تغسل شمس الأرض
بقرص مسيرتها المتعب
أتيممُ بالجبل الكاظم غيظ الماء
الى قاع الصبر
وناب الجرافة يفتح جمجمة التاريخ
بكابوس قاس كخرافة رعب
لا أخشى البركان هشاشة
نيران يطفئها الوقت رمادا باردا
جلدي كفنٌ يحمل أشلاء الأعصاب
ونجمٌ يهوي من سقف البيت
قدست الأحجار ولم أكفرْ
وطني أيقونة عشق لا يعرفها
الا الضالع في دين العشاق
----