اللغة العميقة عند إيمان مصاروة



اللغة العميقة عند إيمان مصاروة

د أنور غني الموسوي

الاستجابة الجمالية عمليّة عقليّة ، و كل ّ ما يخالف ذلك من قول يفتقر الى الواقعية ، و في تلك العملية تحصل حالات تنقّل للفكر بين مواطن الإدراك ، و توهّج لعلاقات بينها ، ذلك التوهّج هو مصدر الإبهار و الدّهشة تجاه العمل الفنّي . إنّ في عمق التجربة الإنسانية عالم للمفاهيم و الرؤى ، بقدر الإضاءة التي تحصل فيه تكون الإثارة و الإذعان . و في ذلك الفضاء حقول شعورية و فكرية ، و بإعماق مختلفة بقدر ما يخترق الخطاب العمق ، يكون الإبهار.

اللغة العميقة تحقق إبهارا و دهشة جمالية بنفوذها الى اعماق النفس ، مضيئة مواطن للشعور و الفكر ، و لسنا نريد باللغة العميقة البنية العميقة التوليدية فإنّها من الإبحاث اللغوية التي لا تقدّم حلّا لفكرة الجمال ، و تبقى في إطار الوصفية ، و إنّما نريد بها ما يلامس العمق و ما يثير الأعماق ، تلك البساطة العميقة فينا ، هنا نحاول فهم وجداننا البسيط و عالمنا العميق المتناهي في البساطة المعقدة . ان الإبهار العالي الذي تحققه اللغة العميقة يجعلها أحد اهم ـشكال اللغة القويّة ، التي يتكامل فيها البوح مع الفنية ، فاللغة العميقة تعتمد في قوتها على ما تحدثه من إبهار عميق ، تقدّم لنا أعماقنا جوهرة نقية بكل بساطة و سلالة .

ليست اللغة العميقة لغة قويّة بما تحدثه اللغة من إضاءة للأعماق فحسب تتحقّق لها مساحة تستقي حدودها من حجم الدلالة و حقولها ، وهذا شكل من اشكالها ، و يمكن ان نسميه العمق الدلالي ، و انما ايضا تتجلى قوّة اللغة العميقة بأسلوب يعتمد على الإدهاش بالإنعطاف في منطقية القراءة ، اذ ان لكل كتابة منطقية حين قراءتها ، تميل الى الهدوء ، لكن بالإنعطافات الشديدة تحدث هزّة قراءاتية تنفذ الى العمق ، طارقة إعماق النفس ، محقّقة ذروة صورية و شعورية بارزة ، فتنتهي بشكل يختلف عن الشكل الذي تنتهي به غيرها ، وهذا ما نسميه عمق الصدمة .

شعر الشاعرة الفلسطينية المبدعة إيمان مصارة يشتمل على نموذجين من اللغة العميقة وهو علامة ثراء ، يختلفان في الإسلوب التعبيري و تقنية الاداء ، ما بين القاموس المفرداتي و الايحاء الدلالي المرتكز على المعاني العميقة و تبني القضية و الإنتماء ، فيتلمّس عمق لغتها القوية بإدراك و تتبع ما يضاء بهما من عوالم ، و بين الإسلوبية بإعتماد الإنعطاف الكلامي ، فتتابع قوتها و عمقها بآثار الصدمة و الإدهاش .

في (قدري أنا أيقونةٌ ونداء ) البوح العميق (قدري سبيلٌ هزني \ وهوى على جسدي \
فأدماني السرابْ ) هنا عمق دلالي قاموسي ، فانه القدر الضارب في العمق ، المتحكم بالذات و تشكّلها ، و الذي لا مهرب منه ، فينكشف على يديه السراب ، المؤلم . و وسط جريان هادئ تأتي الإنعطافة أو الذروة ، فنلاحظ ( قدري سبيل هزني وهوى على جسدي) الى هنا الفكر يلاحق الصورة و يتأملها بتناغم و جريان يمسك بحدوده و زمامه ) لكن حينما يأتي المقطع ( فأدماني السراب ) تحدث مثل الهزّة و الصحوة القراءاتية ، انها خاتمة مبكرة لصورة معلنة عاشها القارئ . من أهمّ مميّزات اللغة العميقة الصادمة أنّها لغة تعتمد الضربة و النقرة ، بعبارة ثانية ان المقطع في اللغة العميقة الصادمة يمثل ادبا منفردا مكتفيا بذاته .

و في ذات النص حيث تتلاشى الأماني (كم كنت أحلمُ بالحياة ِ\ كطفلةٍ كتبتْ على الشطآنِ \أمنيةً ولم تدركْ بأن الموجَ \يرقبها ليغتالَ المنى ) انّه و بلا ريب إستحضار و إختصار لتجربتنا العميقة بقاموسية الكتابة و ما وراءها من دلالات ، و لليد الخاطفة للاماني و الاحلام ، انّه العجز المترسّخ في نفوسنا . و كما نرى بوضوح التراكيب و العلاقات تجري و الافكار تنسج و الصورة تتشكل بهدوء و بشكل هامس ، حتى نصل الى الصدمة ( ولم تدرك بأن الموج يرقبها ) الى هنا في الواقع ذروة صورية و تحقيق إدهاش و صدمة بحيث يمكن الاقفال ، الا ان الميل البوحي و الشعور عند الكاتبة بطرق ذروة اخرى بالتعليل ( ليغتال المنى ) هذه ذروة صورية اخرى تضرب عميقا في النفس ، و من الملاحظ محافظة كتابة الشاعرة في الإنعطافات الصادمة على الوحدة المعهودة فلا تصل مرحلة التشظي ، و ربما يرتبط ذلك الى كتابتها الشعر الموزون ، و يبدو ذلك أيضا في التقابلات بين عباراتها و كانّها تنسج أبياتا للقصيدة ، ففي مقطوعة تقترب من الهايكو (تسكبُ السماءُ نـــارَها \على أنفاسِ الفرحِ \\\\\ الكثيرُ من الشهداءِ \ يَصعدونَ إلى اللهِ \\\\\\النّارْ تأكلُ ماتبقّى من \ أشلاءِ الخيمةِ والأجساد ) تقابل واضح بين ثلاثة مقاطع بلغة وامضة مكثفة بدلالات تخترق العمق السماء بنارها و أنفاس الفرح و الشهداء الصاعدون الى السماء ، و النار التي لا تأكل الا الخيمة و الأجساد ، و الذي به تنعطف اللغة محققة صدمة و نفاذا أخر نحو العمق .

و في جوارح لا تغفو (هَمسَ الغيـــابُ بأُذْنهِ مـــازلتَ حيــــاً يافتى \إذ ودعــــوكْ \وتسيرُ فوقَ أكفهمْ \ تسمو كراياتِ إنتصـــارٍ ) مقطع بلغة مكثفة كل مفردة تتعمق في ساحات الدلالة العميقة فالغياب الذي خطف الشهيد ، همس بإذنه ، إنه الهمس العميق للغياب ، بالحياة الحقيقة ، التي تعلو على هذه الحياة ، إنها قدسية الشهادة المتجذّرة في نفوس الثائرين حينما يسير على أكفّ الحاملين ، هو ليس غائبا بل هو راية إنتصار و نبراس للإجيال . هنا إيضا تتجلى القدرة العالية للكاتبة على صناعة الذورة الصورية و طرق اعماق الشعور ، اذ بعد المجازات الشفيفة و الرقيقة و الحنونة ، و جريان التعبير وفق هدوء و اضح ، تعلو اللغة و تنعطف كصوت عال في عبارة (و تسمو كرايات إنتصار ) فتحدث هزّة قراءاتية و ذروة تعبيرية تضرب بالعمق .

و في الحرب و الحب (الحبُ والحربُ \ والبحرُ والأشلاءُ \والحرفُ \الأخيرُ ووجهها \وقنابلُ الضوء الزنيمِ \جحافلُ الغربانِ \ أناتُ الثكلى في خزاعةْ\لستُ غيري \حينَ أكتبُ ما أرى غيرَ الوضاعة )مقطوعة تلخص تأريخا رهيبا من الخسارات ينفذ الى إعماق الشعور ، بحقول دلالاته الحزينة ، و بإنعطافة ملحوظة تتميزّ بها الشاعرة تظهر عبارة ( لست غيري حين أكتب ) ثم ياتي التعليل إذ لا شيء سوى ( الوضاعة ) .

لطالما كان النص مصدر إشعاعا للنظريّة الأدبية و المرتكز الأسمى لبناء تلك النظريّة و تكاملها ، و هنا تقدّم لنا لغة إيمان مصاروة نموذجا للكتابة العميقة بشكلين مختلفين و بثراء بيّن .