ربما لا نحتاج الى كثير من القول لبيان اهمية التقاط اللحظة الشعرية العميقة و التي لا تقل اهمية عن الاسلوب الشعري الجميل . و كنا في مناسبات عديدة قد بينا ان ( العامل التعبيري ) في الادب و الذي نقصد به عامل الابهار و الادهاش العميق المعتمد على الفكرة و المعنى العميق لا يقل اهمية عن ( المعادل التعبيري ) الجمالي و الذي تطرح فيه تلك الفكرة و يعبر عنها به على الورقة . ان ثنائية البناء في النص حقيقة لا يمكن انكارها ، كما ان ثنائية البعد الجمالي فيه ايضا حقيقة يجب التسليم بها . فمن الواضح ان الفكرة الجميلة اذا لم تصاغ بصورة جميلة فانها تهبط و تكون مجرد موهبة و قدرة كتابية مخزونة غير واضحة ، و هكذا العكس فانه مهما بلغ النص من توظيفات و اساليب صورية و تصويرية فانه يبقى خاويا و جافا و لا يلامس الروح ان لم يرتكز على فكرة جمالية عميقة . وهذا ما يثبت اهمية العامل التعبيري العميق بقدر اهمية المعادل التعبيري الصوري .
في قصيدة ( مماس ) و باسلوب السرد التعبيري و النثروشعرية بالشعر الكامل المتجلي في النثر الكامل يقدم حسن المهدي قطعة ادبية جميلة و بنكهة و روح عالمية .
(( المماس
حسن المهدي
هل جربت مرة ان تمّد ذراعيك باستدارة عجلةٍ يكونُ جذعك مَمَاسَها ؟ جّرب وستجد نفسك اشبه بالة جَلوْ في حفل اوركسترا ، ما ان يلامس قوسكَ وتَرَكْ ستبداُ تدور كمِغْزَل وتنَدَلق عيناك في كوَّة بحجم السماء لتتكسر خطوط المسافات كورق صيني ملون قُدَّ بشفرة -حجمه سيكون بمتسع الرؤيا لديك - فتتشابك الخطوط شبكة عنكبوتية تتشكل في اللامحدود من اللّحن والذي ستحس تغيّره كلما تغّيرت النوتَةَ الموسيقية في المنعطفات التاريخية وستدرك حينها فقط : لم القسوة فاكهة الجرّاح والمجرم على حد سواء ؟
يا الله ، كم عتيق وشائخ فهرست الكوكب حتى لم يعد مجلد الزمن يطيق اكتظاظ الخطايا ، نزق البرايا وذنوب اطفال الخطيئة السريين ، طوابير المتسولين على ابواب الملوك ، .الاماء والعبيد، الاشراف والعوام والقناطير المقنطرة من ورق النقد الالزامي.
وكم مقرف لون جلده الارجواني الذي يغفو على رائحة الموت في فروة كهل بيضاء مصفرة بدات تنضح قصص الخرافة من عقابيله المجّعَدة وقد غزاها القّمال والذي ايّاك ايّاك : ان تَظُنه حبيبات سِمْسِم غير مقشر ..
وفي كل هذا انتَ مرغم ان تستمر بالعزف لانك ما ان تتوقف ستَخِر كشهاب سقط من السماء وتلاشى في ظلمات الارض .. وستعزف، وتظل تعزف حتى وان كنت مغرورق العينين وجعاً او سعادة. ))
انّ اهم من يلفت النظر في هذا النص هو تجلي الفكرة بقوة بحيث تطغى على الاسلوب الشكلي ، بمعنى اخر تجلي العامل التعبيري بنفسه من دون الاعتماد على جماليات المعادل التعبيري ، وهذا من اعمق انواع الشعر و من اعلاها مستوى و اقواه نفوذا في النفس .
نجد قوة العامل الجمالي العميق متجليا في اكثر مقاطع النص
فتجد التجلي في عبارة ( هل جربت مرة ان تمّد ذراعيك باستدارة عجلةٍ يكونُ جذعك مَمَاسَها ؟ جّرب وستجد نفسك اشبه بالة جَلوْ في حفل اوركسترا ، ) انه اعتماد كلي على الفكرة ، بعبارة نثرية خالصة تكسر قواعد الشعر الشكلي من حيث المفردات و الاسنادات و التراكيب و من حيث الفكرة نفسها ، انها ابحار حر و نقي نحو الرؤية و نحو الالم و نحو الحقيقة ، انه ابحار مجرد من كل ما يشوبه من اضافات شكلية تثقله . هذا التجريد و هذه اللغة القوية هي بحق من طراز اللغة التي تكتب بها قصيدة النثر العالمية ، و المطلع على قصيدة النثر العالمية المعاصرة سيدرك ذلك بيسر .
ثم يقول ( ما ان يلامس قوسكَ وتَرَكْ ستبداُ تدور كمِغْزَل وتنَدَلق عيناك في كوَّة بحجم السماء لتتكسر خطوط المسافات كورق صيني ملون قُدَّ بشفرة -حجمه سيكون بمتسع الرؤيا لديك - فتتشابك الخطوط شبكة عنكبوتية تتشكل في اللامحدود من اللّحن والذي ستحس تغيّره كلما تغّيرت النوتَةَ الموسيقية في المنعطفات التاريخية )
وهنا مقطوعة رغم لاتناغميتها الشكلية الا انها عالية التناغم في العمق . ان قصيدة النثر هي ذلك الكيان الذي يتخلى عن كل تناغم شكلي و و يستبدله بالتاغم العميق ، و هنا حسن المهدي يقدم نموذج لقصيدة النثر الحقيقية بتناغم عميق و البعيدة كل البعد عن الوهم و الشكلانية التي تغرق فيها القصيدة العربية المعاصرة .
ثم يقول الشاعر ( وستدرك حينها فقط : لم القسوة فاكهة الجرّاح والمجرم على حد سواء ؟ )
ربما لا نحتاج الى كثير كلام لبيان مدى عمق و كونية هذه الالتقاطة و التي تختصر التجربة الانسانية و تكشف عن سعة تجربة الشاعر الادبية .
و يستمر حسن المهدي بنثروشعريته الفذة ليقدم سلسة من الكتل الجمالية التي تتفرد و تحلق في سماء قصيدة النثر النموذجية .
( يا الله ، كم عتيق وشائخ فهرست الكوكب حتى لم يعد مجلد الزمن يطيق اكتظاظ الخطايا ، نزق البرايا وذنوب اطفال الخطيئة السريين ، طوابير المتسولين على ابواب الملوك، الاماء والعبيد، الاشراف والعوام والقناطير المقنطرة من ورق النقد الالزامي. ) فهذا الاسترسال العذب المشحون بالرسالة و هذا الشجن و الحكاية و محادثة الذات تعكس بعدا انسانيا و تعبيريا للشاعر يتجلى بصورة عذبة و سلسة و صادقة .
ثم يقول ( وكم مقرف لون جلده الارجواني الذي يغفو على رائحة الموت في فروة كهل بيضاء مصفرة بدات تنضح قصص الخرافة من عقابيله المجّعَدة وقد غزاها القّمال والذي ايّاك ايّاك : ان تَظُنه حبيبات سِمْسِم غير مقشر .. وفي كل هذا انتَ مرغم ان تستمر بالعزف لانك ما ان تتوقف ستَخِر كشهاب سقط من السماء وتلاشى في ظلمات الارض .. وستعزف، وتظل تعزف حتى وان كنت مغرورق العينين وجعاً او سعادة. ))
و يتجه النص في تموج رمزي نحو رمزية تعبيرية تنتهي الى حتميات لا ارادية هي اعتراض على واقع و طلب خلاص و نحت امل و رؤية جديدة . ان الشاعر هو الذي يقدم صورة المأساة و لا ينسى ان يقدم الخلاص ، ان الشعر طلب الخلاص ، و هنا حسن المهدي كان طالبا للخلاص بلغته و رسالته .