لقد اوضحنا في مناسبات سابقة انّ الخطاب و الرسالة التي
يريد ان يوصلها المؤلف قد تكون بلغة توصيلية او بلغة رمزية ، و في كلا الحالتين
يكون هناك التقاط للمعنى الانساني العميق الذي اسميناه ( العامل التعبيري ) ، يعمد
المؤلف الى اختار صورة و شكل نصّي للتعبير عنه وهو ما اسميناه بـ ( المعادل
التعبيري ) .
في جميع الاحوال يستطيع القارئ و حسب استعداده و خلفيته و
ذائقته ان يصل الى رسالة المؤلف ، الا انه قد يحتاج احيانا الى انظمة تعبيرية و جسور تصل بين المعادل التعبيري اي البناء
النصي السطحي و بين الانظمة الجمالية اي العامل التعبيري و بينهما و بين البنية
العميقة للنص اي الخطاب و الرسالة
المستترة و المحمولة بالنص . تلك الانظمة و الجسور الوسطية هي ( الوسط التعبيري )
يحتلّ الوسط التعبيري مكانة متميزة كعنصر اشتغال و عامل فني
في الرمزية التعبيرية ، و أحيانا قد يكون الوسط مركبا من أكثر من مستوى كياني رابط
بين الرمز و ما يرمز اليه و بين الدال و المدلول التعبيري . فالوسط التعبيري كما
انّه وسيط للفهم و التوصل الى رسالة النص فانه عنصر جمالي في النص و عامل ابهار و
ادهاش لما يحققه من عجز في نفس القارئ لكشفه عن مخيلة و قدرة تأليفية لدى الكاتب .
من المعروف انّ اسماعيل عزيز يكتب بمجاز عال و يخلق في
نصوصه ما يمكن ان نسميه بـ ( العالم النصّي الموازي ) حيث يتكون نظام زمكاني خيالي كامل تتحرك فيه الشخوص و الكيانات
النصّية في عالم من المجاز و الانزياح مستقل كليا و لا يحتاج الى اية مرجعيات
خارجية لبنائه و تحقّقه ، و هذا من مزايا الرمزية العالية ، و هي تختلف جدا عن
اللغة التوصيلية التي تستدعيها الرسالة احيانا و عن اللغة المتموجة التي تحدثنا
عنها كثيرا .
في قصيدة ( على حافّة الجسر ) تحضر
السردية التعبيرية في قصيدة نثر نموذجية بادوات النثر الشكلية من حيث الافقية و
الجمل و الفقرات و السرد و الانسيابية ، و من وسط هذا البناء النثري ينبثق الشعر
بل الشعر العالي و المجاز و الخطاب الرمزي ، الذي يعصف بالنص و يحيل تلك النثرية
الى جوّ من الشعر قاهر و فاتن .حيث يقول اسماعيل عزيز :-
( هُناك ، كنتُ
أرتدي أقنعة الأشياء في رحلتها. وأنا أعلمُ أنّ الأرض بركان في هذا العالم السفلي
. كيف لي أن أحمل الصورة أو آخذ من كل شيء بذرةً؟ خطوتي كانت ثقيلة في طريق موصلٍ
بأعماق الزمان الداخلي . أدري أنّ الطرق التي ندخل في مراياها تسجل موتنا . لا نافذة بها فكيف نرى أنوثة الورود . كزهرة
راحلة في سحب اللون وأطياف التداخل ، مازالت في نفسي همسة فجر ، وأرغب في سرير
الملكة . جسدي يسترق السمع حول أبواب
المدينة والجسر الذي بات منحنيا خجلا من عيون تُخبّئ سنبلا ، لا يؤرخ خرائط
طفولتنا . وفي كتاب الاشتهاء خطوتي كانت حروفاً ، فكلما نقلتُ خطوة تتدلى كرمة
الجوع ولا تمطر غيمة ، غير أني لم أزل هناك على حافة جسرٍ يبكي عابريه .)
نجد في هذا النص الرمزي و السردي كمّا هائلا من المعادلات
التعبيري و الاشتغالات الشعرية و التي أقلّ ما يمكن الاشارة اليه هو المجاز العالي
و على مستويات متعددة ، على مستوى الاسناد و على مستوى الجمل و على مستوى الحكاية
و النص . لكنّ الأهم هنا هو العالم الموازي الذي خلقه النص ، و تحقق مستقلا في هذا
البناء ، بحيث انّ الرسالة ما عادت تستفاد من ذات العبارات بل من جميع النص ، وهذا
شكل متميز من الرمزية يتجاوز المجاز المعهود من حيث الاشارة و الدلالة الى المقاصد
بالكلمات او على اكثر التقدير بالاسنادات في الجمل ، و أما انّ النص كله يتجه نحو
مجال معنوي مستقل و بناء مستقل و يكون مرآة و هيئة مشعّة توصل الرسالة و الخطاب من
خلال كتلة النص و ليس من خلال مفرداته .
لقد أجلّ المؤلف البوح و بيان رسالته ، و جعلها موزعة بشكل
وحدات غير كاملة على النص بحيث يحتاج القارئ الى جميع النص و جميع وحداته
التكوينية لاشتفاف الخطاب المحمول فيه . فالقصيدة تتحدث عن رحلة معرفة نحو
العمق و دواخل النفس ، رحلة قسرية في بعض
لحظاتها ، لم تحقق غاياتها كما أنها مشوبة بكثير من التشويش و التقاطعات و كثير من
لحظاتها تشتمل على اللاجدوى و على الاطلاع و العلم المسبق مع تعذّر الرؤية أحيانا ليس
لقلة الاستعدادات ، بل لان الاهداف و المقاصد عالية جدا تقصر عنها الامكانات . من
الواضح انّ هذه الرسالة و هذا الخطاب لا يمكن ان يستفاد من كل كيان جزئي او وحدة
كتابية في النص مستقلا ، بل لا بدّ من جميع النص للتوصل الى رسالة النص ، وهذا اسلوب من اساليب تأجيل البوح و هو كثير
ما يحضر في نصوص اسماعيل عزيز ، و التي تعد من طبقة الرمزيات المؤجلة التي تحتاج
الى جميع النص لفهم الدلالات و الرموز .
في القصيدة يحضر الوسط التعبيري كوسيط مهم بين معادلاتها
التعبيرية النصيّة و العوامل التعبيرية الجمالية العميقة ،فكلمة ( هناك ) و هو
معادل تعبيري نصّي مكاني ، يرتبط بعامل تعبيري عميق يشتمل على البعد و الانعزال و
الذات و الاخر ، و يؤسس لعالم مستقل و منعزل ، و يكوّن لفضاء من الغياب و الحضور .
انّ المتتبع للكتابات الشعرية المعاصر سيجد انّ كلمة ( هناك ) كمعادل تعبيري تحتل
مكانة متميزة و تمثّل عنصرا تعبيريا مهما و تعكس هاجسا و وعيا بالغياب و أرادة
الحضور ، كما انّها تمثل نقطة تبئيرية عند المؤلف و أدعاء معرفي ربما يرتبط كثيرا
بالعولمة المعاصرة و بتطور الاتصالات و امتلاك الانسان احاطة متميزة بالعامل ، و
ادراك متميزة بالاخر و بالغائب و بالغريب .
بعد أداة الغياب هذه يحضر المؤلف و بسلاسة و من دون قفز
بتعبير ( كنتُ ) و الذي يعدّ عنصرا متوسطا بين الحضور و الغياب فهو بين كونه
تعبيرا عن الذات و الأنا و المالكية و الخاصية و الاستحواذ و الأرادة ، فانّ الاحالة
الى الماضي يجعله عنصرا غيابيا ، لذلك فانّ كلمة ( كنتُ ) لا تقل أهمية عن ( هناك
) من حيث القدرة التعبيرية . و من خلال ما تقدّم نفهم جيدا القدرة التعبيرية الهائلة للسرد التعبيري و الشعر السردي و الذي
تمثل ( هناك ) و ( كنت ) من أهم أدواته و مكوناته .
بعد الانتقال من الغياب التام الى البرزخ الوسطي بين الغياب
و الحضور يتجلّى الحضور التام بعبارة ( و أنا أعلم ) ، و هو حضور قوي للذات ، و قد
بينّا انّ هذا البيان و التعبير من خصائص قصيدة ما بعد الحداثة بفعل تأثير العولمة
و الاتصالات و تحول العالم الى قرية صغيرة يتميز بانتقال هائل السرعة للمعلومات .و
بعد ان هيّأ المؤلف الفضاء المطلوب لبناء علمه النص بسرد قريب في عبارات :
(هُناك ، كنتُ
أرتدي أقنعة الأشياء في رحلتها. وأنا أعلمُ أنّ الأرض بركان في هذا العالم السفلي
. كيف لي أن أحمل الصورة أو آخذ من كل شيء بذرةً؟ خطوتي كانت ثقيلة في طريق موصلٍ
بأعماق الزمان الداخلي . أدري أنّ الطرق التي ندخل في مراياها تسجل موتنا . )
ينتقل الى وحدات بنائية عالية المجاز و بعيدة الدلالات في
عبارات :
(كزهرة راحلة في سحب اللون وأطياف التداخل ، مازالت في نفسي
همسة فجر ، وأرغب في سرير الملكة . جسدي يسترق السمع حول أبواب المدينة والجسر الذي بات منحنيا خجلا
من عيون تُخبّئ سنبلا ، لا يؤرخ خرائط طفولتنا .)
انّ هذا المقطع
المجازي و الرمزي يحتاج الى وسط تعبيري أمين لأجل استقرار تلك المجازات معنويا ، و
من خلال السرد السابق على هذا المقطع و السرد التالي له يكون كثير من الدلالات و
القراءات جلية للقارئ ، اذ بعد هذا المقطع يقول المؤلف :
(وفي كتاب الاشتهاء خطوتي كانت حروفاً ، فكلما نقلتُ خطوة
تتدلى كرمة الجوع ولا تمطر غيمة ، غير أني لم أزل هناك على حافة جسرٍ يبكي
عابريه )
حيث يعود الشاعر في
هذا المقطع الى لغته القريبة و سرده السلس .
من هنا يكون واضحا انّ النص ينقسم ن حيث درجة الرمزية الى ثلاثة وحدات ،
قريبة و بعيدة و قريبة ، و هذا النظام اي ( رمزية قريبة - رمزية بعيدة - رمزية
قريبة ) هو من التموّج الرمزي ، و هو ما يدخل في اللغة المتموجة كما هو ظاهر .
لقد حقّق الشاعر غايات فنية و جمالية عديدة في القصيدة ، فاضافة
الى نموذجية النص كقصيدة نثر نموذجية ، و اضافة الى السرد التعبيري و الشعر
السردية ، و النثروشعرية بالشعر الكامل في النثر الكامل ، فانّه ايضا نموذج للعالم
النصّي الموازي و الرمزية المتموجة .
انّ اقتران العالم
النصي الموازي مع الرمزية المتموجة يكشف عن امكانيات شعرية و فنية للكاتب وهو
معروف بها لكل أحد . ولقد كان مقرّرا تناول أكثر من نص للشاعر ، الا انّه بالبيان
المتقدم يمكن جعلها نموذجا و مثالا لتلك العناصر و الاشتغالات في غيره ، و نترك
للقارئ و المطلع متعة متابعتها في نصوص اسماعيل عزيز الأخرى.