ما
عادت في ظل هذا التغير الكبير الحاصل في وعي الانسانية و الاتجاه نحو التشبث
بالانتماء و الاعتداد بالهوية في قبال رياح العولمة الثقافية ، ما عادت فكرة الفن
الرومانسي و البوح الذاتي امرا يجلب الحماس ، بل ما نراه من اتجاه نحو تمثل الواقع
و الامة هو الذي يسلب مراكز الاولوية في الثقافة و الادب المعاصر . هكذا تغير في
فهم الفن و الجمال لا يعني انه ينطلق من فهم تعبوي للعمل الابداعي ، بل يمثل وعيا
عميقا بحقيقة الابداع عموما و الكتابة خصوصا ، فأخذت الرسالية و القضية و الموقف
تحتل مكانة متميزة في الكتابات المعاصرة . من هنا امكننا القول و كما اشرنا كثيرا
الى دخول التجلي الرسالي في نظام الابداع ، و اعتبارها ركنا من اركانه .
الرسالية
الابداعية اما ان تكون جمالية تتمثل بالابتكار و التطوير و منها الكتابة التجريدية
او جماهيرية تتمثل بتمثل الامة و الانسانية ، و مقدار التمثل و الوعي به و تجليه
يحقق درجة متقدمة في جانب من جوانب الابداع . تمثل تطلعات الامة و المها هو
الرسالية الوطنية .
و
رغم ان النقد الثقافي لا يقدم حلا حقيقا لفهم الابداع ، الا انه يشير و بصدق الى
تأثر الكتابة بالوعي الانتمائي و الفكر المجتمعي العام ، و لا يعني ذلك جواز فهم
النص على انه انعكاس لثقافة المجتمع او موطنا لانساق ثقافية ، و انما يعني ان تمثل
ما ينتمي اليه الكاتب من ثقافة و امة يضرب عميقا في وعيه و كتابته ، و ربما يكون
احيانا الجوهر المشع الذي تشكل بفعله النص او ادب الكاتب كله . ان الحساسية
العالية و الرؤية الواضحة و التطلع نحو الافضل المترسخ في نفسية الاديب تدفعه و
بقوة الى ان يكون صوتا صادقا في التعبير عن الامة ، في ظل الحرية الفكرية طبعا ، و
يصبح حقيقة لا لبس فيها لأجل تبين ملامح المجتمع الذي يعيش فيه . ان الشعر كان و
لا يزال صوت اعتراض و طلب للخلاص ، انه تمجيد للحرية السامية و الوجود الافضل ، ما
عاد الفن عموما و الادب خصوصا مكان ترفيه و تعبير وجداني بسيط ، انما هو في كل
جهاته رؤية و موقف ونداء ، انه نداء صادق و خالد ، و حينما يمتزج هذا الصوت بحلم
الامة و يتمثل تطلعاتها فانه يكون رسالة شفيفة الى العالم و الاجيال .
من
المهم التاكيد ان الرسالية تتطلب بوحا ، بمعنى اخر تتطلب توصيلا ، و لا يعني ذلك
ان يكون التعبير بتراكيب لغوية مباشرة بحجة البوح و التوصيل ، و انما يمكن ذلك
بالتعبير الفني العالي ، وهذا سر اللغة القوية التي تبوح بالكثير مع الفنية
الادبية العالية ، البوح التوصيلي كما يمكن بالتعبيرية العالية ، يمكن ايضا بالرمز
و الايحاء بل ان من تجليات اللغة البوح الايحائي ، كما ان الخيال ميدان خصب للبوح
الرسالي .
ان
الرسالية الوطنية الادبية يمكن ان تتنوع بتنوع الاجناس الادبية و اصناف اللغات
الفنية ، و بتنوع الموروث الاجتماعي و الابعاد الحضارية و الثقافية للمجتمع ، لذلك
يمكننا القول اننا في مجال ( الرسالية الوطنية الادبية ) لدينا عدد هائل بل غير
محدود من الاشكال اللغوية ، يمكن تصورها اجمالا بشكل انظمة مركبة تصنف حسب جنس
الكتابة من شعر و قصة و نحوهما او حسب صنف اللغة من مباشرة و رمزية و غير ذلك او
حسب المكونات الاجتماعية الفكرية و الثقافية و المادية .و لقد تناولنا الرسالية
الادبية تجربة الكثير من الشعراء العراقيين و العرب في كتابنا ( التعبير الادبي )
و هنا نتحدث عن الرسالية الأدبية المؤداة باللغة التعبيرية و التجريدية . انه كريم عبد الله ، احد ابرع كتاب القصيدة
التجريدية في الشعر المعاصر حيث يقول (كلّما تعزفُ السماء برذاذِ الخذلان ../
أدخلُ في زجاجةِ الصقيع ../ مقروحٌ يساورني حلم يتلصصُ .....\الأرضُ العانس تتلمسُ
أجساداً تتسلّقُ واجهة الموت ../ عيونٌ زجاجيةٌ مِنْ خلفِ الصقيعِ ترنو ../ وقناصٌ
أرعنٌ يتدفأُ بسيلِ رشقاتٍ على وجهِ التاريخ ). لقد بينا مفهوم التجريدية و
نماذجبه في مناسبات عدة و تتجلة هنا
بالحضور القوي للعمق التعبيري الذاتي و الزخم الشعوري و الحسي للكلمات . و تتجلى
الرسالية هنا في ان الشاعر يتمثل العراقي الذي مسه البرد ، من نازح و مهجر و فاقد
و محزون و متألم ، انها ملحمة العراق الجريح المبكي ، الم طويل ، و من هناك تعزف
السماء اغنية هي فرحة رأس السنة لغير العراقيين الا انها الم مر و صقيع حارق لهم ،
انه الصقيع السجن الذي لا فرار منه ، اين يذهب العراقي الذي خذله كل شيء حتى البرد
، لقد فقد العراقيون كل شيء يتوسدون الارض ، فصاروا لوحة عظيمة للموت الكئيب ، هنا
نحن بعيوننا الجميلة البريئة الطفولية نتطلع للخلاص وهناك في الجانب الاخر لا شيء
سوى الذئاب و الاعداء و المفترسين ، يقتنصون الخبز و الخيرات لا شيء هناك في الجانب
الاخر سوى المتفرج الوقح انه العالم القبيح .