لا يمكن و بأيّ حال من الاحوال انكار التطور الهائل الذي حصل على النص الأدبي في المئة سنة الاخيرة ، و ما صاحبه من وعي مكتسب جديد حول اللغة و التعبير . كما ان تداخل الاجناس الادبية و الذي برز في الخمسين عام الاخيرة أدى الى توسعة في فهم التعبير و تعظيم غير مسبوق لطاقات اللغة و النص الادبي . و بالقدر الذي اكد عليه اللسانيون من التمييز بين اللغة و الكلام و منه النص ، فانّ التعبير الانساني عموما و الادبي خصوصا بواسطة الانظمة الهجينة في اللغة أدى الى تجلي ظاهرة في منتهى الابتكار و الابداع و هي تعدد مستويات التعبير . و لقد ساعدت الكتابة النثرية للشعر في قيادة دفة هذه الظاهرة و ترسيخها .
لقد ترسخ و لميآت السنين ان النص مكوّن و مركب من الكلمات و المعاني، لكن و بفعل الوعي العميق بالنص و ادبيته و تعبيريته ، حصل تطور في فهم النص ، و صار النص ليس مجرد نظام مكون من كلمات و صورة خارجية للغة ، بل تعداه ليكون له وجودات و مستويات مختلفة و ان كان النص اللغوي هو المرآة لتلك الوجودات و المستويات .
انّ الحرية الكبيرة التي وفرها الشعر السردي أدت الى ظهور اشكال تعبيرية مصاحبة للنص لا تتكون من وحدات لغوية ، و بعبارة اوضح اصبح لدينا انظمة تعبيرية محمولة في النص غير الانظمة اللغوية ، وهذا هو تعدد مستويات التعبير ، و كل من تلك الانظمة غير اللغوية التي تصاحب النص يمكن ان نسميه ( نظام التعبير الموازي ) . و بتعريف مادي موضوعي فان نظام التعبير الموازي هو ذلك التشكل الادراكي المكون من اية مكونة ادراكية غير اللغة و الذي يكون محمولا في النص اللغوي. فيكون لدينا تعبير لغوي و لدينا تعبير غير لغوي معه و ربما تتعدد انظمة التعبير غير اللغوية .
يمكن لنظام التعبير غير اللغوي المرافق للنص ان يتنوع بتنوع التجربة الانسانية و ما يوافق طاقات اللغة ، لكن من أهم تلك التشكلات التي رصدناها في الشعر السردي هي التشكلات الشعورية العاطفية (التعبيرية الشعورية التجريدية ) و التشكلات الاسلوبية ( التعبيرية الاسلوبية ).و التشكلات القاموسية ( التعبيرية القاموسية ) و التشكلات الايحائية ( التعبيرية الرمزية ) و التشكلات الفكرية ( التعبيرية الفكرية ) .
ان المؤشر الواقعي والصادق على وجود نظام تعبيري غير لغوي مرافق و محمول في النص هو تحقق الاثارة و الاستفزاز بغير اللغة و الكلام ، فيجد القارئ ان هناك معطى غير اللغة و المعاني يستفزه و يثيره و يدهشه ، و وظيفة النقد هو تحليل و تفسير هذه الظاهرة المهمة جدا و التي ربما لم يشر اليها سابقا . و ستكون لنا وقفات مطولة مع تلك التنظمة التعبيرية الموازية الا انا سنشير هنا الى بعض ملامحها و نماذجها البينة .
(التعبيرية الشعورية)
في التعبيرية الشعورية تكون الرسالة مبرزة بمكونات عاطفية و شعورية اضافة الى الكلمات و المعاني ، بمعنى اخر ان النص او المؤلف يوصل رسالته من خلال مكونات شعورية و عاطفية اضافة الى المكونات اللغوية او من دون الاهتمام بالاخيرة كما في التجريد . و من النماذج الواضحة هو قصيدة ( شتاء ) للدكتور انور غني الموسوي حيث يتشكل نظام تعبيري اخر واضح متكون من وحدات عاطفية و شعورية غير النص اللغوي .
شتاء
أنور غني الموسوي
إنّه فضّي كحلمي ، هذا الشتاء الذي بدأتُ أشعر به بقوّة و كأنّه قصيدة هادئة. ربما لأنني غرقتُ أخيراً في نهر ناعم مصنوع من ألوان ساحرة . و ربما لأنني عثرتُ على حقل رطب في زوايا حلمه المسائي فتيان حفاة مصنوعون من النسيم ، يتقافزون فوق الحشائش كسناجب تتلفتُ بين الاغصان . ليتك رأيتَ الغروب في عيونهم الباسمة، كانت تنشد أغنية شفافة كتلميذة ذهب بها الصباح الى مدرستها القريبة. كنتُ حينها ورقة خضراء بلّلها المطر .
و هكذا نجد نظام تعبيري مواز بالتشكلات الشعورية في قصيدة الزهور البرية للشاعر عادل قاسم
الزهور البرية
عادل قاسم
حين تغفو الريحُ فوق وجهِ البركة الضاحكةِ ،وتنطلقُ بِرشاقةٍ ،ورهافةٍ موسيقى الاشجارِ الناحلةَ ،يَستفيقُ المساءُ أخيراً، وتلتمعُ في الافقِ البعيد،ِ خلفَ التلالِ النائمة، بقايا الجدائلِ المُشرقةُ للشمسِ وهي تلملمُ برشاقةٍ ثوبها القرمزي الموشى بالبهجة ،وتستكينُ بِدعةٍ في اوكانَها الطيور ُ المحلقةُ، بينما تنث عطرَها الزهورُ البريةُ في هذه المهادِ المُمتدة ،تحت زرقةِ النجومِ ووجهِ القمرِ الذي تفيضُ خدودهُ بالذهبٍ في هذا الفضاء الفسيح.
و في الحقيقة التعبيرية التجريدية الشعورية هي من اهم تطورات الكتابة الادبية و من اكثرها نفوذا الى حقيقة الانجاز و الاضافة على مستوى الوعي باللغة و الوعي بالنص .
( التعبيرية الاسلوبية ).
وهذا هو من أهم ابدعات الشعر السردي حيث توصل الرسالة من خلال اسلوب الكتابة من دون توظيفات بصرية و سمعية معهودة في الشعر .
1- السرد التعبيري ( التعبيرية السردية)
حيث السرد لا بقصد السرد بل بقصد الايحاء و بقصد توصيل رسالة الى القارئ غير الحكاية كما في قصيدة ( فَيْءٌ للآخرين ) للشاعر فريد غانم حيث نجد الوصف و الحوار الذي ليس الغاية منه خيال الحكي و القصة بل التعبير و الايحاء و ايصال رسالة شعورية الى القارئ وهذا السردية التعبي مضاد للغنائية كما هو واضح فتتحقق الاثارة بذات الاسلوب و ليس بالمعاني و الافكار فحسب .
فَيْءٌ للآخرين
فريد غانم
في كلِّ مرّةٍ أعودُ إلى بيتي، أخلعُ الضّوءَ عنّي، فينزلقُ ظلّي ويدخلُ في خزانة الملابس. أعاتبُهُ. أقولُ أنت ناكرٌ للجميل، تُوزِّعُ الفَيْءَ على كلِّ شيءٍ ما عدايَ. لكنَّهُ، كعادتِه، يردُّ على الكلامِ بالصّمت، ولا يقولُ شيئًا. لا بدَّ أنّهُ أبكمُ.
حينَ أدخلُ في الزّحمةِ، وتنهالُ عليَّ أضواءُ المدينة، يتسلَّقُ ظلّي على المارّةِ فتحمرُّ وجنتايَ. ويدورُ حولي بلا لونٍ. أعاتبُه: لماذا تخلعُ عنكَ ألوانَ ملابسي وشكلَ دمي؟ فلا يقول شيئًا. لا شكَّ في أنّهُ لا يسمعُني وسطَ الضّجيج.
في منتصف الظّهيرة، يختبئُ تحتَ نعليَّ. أمشي فوقَه حتّى شاطئِ البحر. أخلعُ نعليَّ، فينقسمُ ظلّي إلى اثنَين: واحدٌ يلوذُ تحت قدميّ والثّاني تحتَ نعليّ. أُناديه بينَ هديرِ موجَتَيْن: أين اختفيت أيّها الجبانُ؟ لكن، كعادتِهِ، يبتلعُ الإهانةَ ويمتهنُ لُغةَ الأسماك. ذلك لأنَّ وجهَهُ بلا ماء.
أركضُ على الرّملِ، فيظلُّ قابعًا تحتي. أجاملُهُ. أسألُهُ بلطفٍ. أدغدغُهُ. لكنَّهُ لا يردُّ. فهو، لا ريبَ، مقطوعُ السّاقَين واللّسان.
في الصّباحاتِ الباكرة يمتدُّ على طولِ البحر المتوسّط، في ساعاتِ العصرِ يمتدُّ حتى جزرِ اليابان، وفي الأيام الغائمة ينغمسُ في الظلِّ الكبير. أؤنِّبُهُ لاجتيازِ الحدودِ بلا إذنٍ. أشتمُهُ. لكنّهُ لا يجيب، كأنَّهُ ناسكٌ صامتٌ.
هكذا هو ظلّي، يوزِّعُ فيْأَهُ على الآخرين مجّانًا، وينساني بلا قُبّعةٍ. هكذا هو، كلَّما اشتدَّ الظّلامُ، ينفصلُ عنّي ويركضُ وحيدًا، وحيدًا، باحثًا عن نُقطةِ ضَوْء.
2- التعبيرية البوليفونية
في النص البلوليفوني متعدد الاصوات يوصل الشاعر رسالته و يثير المتلقي من خلال سرد متعدد الاصوات و الرؤى يكون فيه المؤلف صوتا واحدا من بين اصوات متصارعة داخل النص وهو مضاد للغنائية كما هو واضح فتتحقق الاثارة بذات الاسلوب و ليس بالمعاني و الافكار فحسب ،ولقد اشرنا الى هذا الاسلوب في مناسبات سابقة و نجده في قصيدة ( الساعةُ تنامُ في جيبٍ هرمٍ) للشاعر كريم عبد الله
الساعةُ تنامُ في جيبٍ هرمٍ
كريم عبد الله
عادَ أكثر نضارةً وجهيَ بعدَ أنْ كانَ متجعداً , الساعة في الجيبِ رقّاصها يسمعُ دقاتَ القلبِ المرتبك , الأصابع تتفقّدها كلّما يزدادُ الأشتياق , الأحلأمُ تأتي تتظاهرُ تطفىءُ خيبةَ القصائد تحنو عليها أبجدياتِ اللغة , توهّجها يمنحُ سنين القحطِ بعضَ الدهشةِ تُبحرُ في سنواتٍ لا تعرفُ طريقَ النهر , مروجها الخضراءَ ليتها ترمّمُ ضحكةً خلفَ ابوابِ ثرائها الفاحشَ , وغيماتها الرماديّةِ وحدها تتكاثفُ على التلولِ المطلّةِ تسمعُ همهمة الياسمين : يا للشيب كيفَ ينطفىءُ والتصاوير( الشمسيّةِ ) تتزاحمُ تلوّنُ عتمةَ دفاترِ الطفولةٍ ... ؟ !
تتساقطُ الثمار في مواسمِ القطفِ , قطارات المنافي تدهس المزيدَ مِنَ أسرارها , وذاكَ القنديلُ حزينٌ في المحطةِ جرسٌ يسرقُ زيتهُ , أينَ تختبىءُ والسواترُ تبعثرها الحروب تستطلعُ صحوةَ هذا السأم .... ؟ !
مقصلةٌ تشحذُ تويجاتِ الأزهار , يندلعُ الحرمان يعطرُ مساحاتي الشاسعةِ وهي تنأى تركضُ خلفَ حدائقها , فــ يعودُ الصبح ضريراُ يعلّقَ ظلمتهُ على الأبواب ويسحبُ الغياب ذكرياتها مِنْ رزنامةٍ لا تعرفُ التواريخ ........ !
( التعبيرية القاموسبة )
في التعبيرية القاموسية تصل الرسالة الشعورية و الاثارة الى القارئ من خلال قاموس مفردات النص وهذا قد اشرنا اليه في مناسبات شابقة و نجده في قصيدة (غراب في مقبرة ) للشاعرة سما سامي بغدادي ، فانا نجد ان المزاج و الجو العام للنص قد صيغ بلون مفرداته كما هو ظاهر .
غراب في مقبرة
سما سامي بغدادي
سنوات كرفة جناح يمامة أعتادت الرحيل ,شموسٌ مرّت مثلومةالزوايا تشكو قحطها , ونعيق رياح يتطوى في خواءمرّ , أي شيء يتذكرالغراب الساكن فوق جدار مقبرة؟الموتى بلاذاكرة قرب جذور العمق المهيب , ملح الارض قطع أوصافهم ,يد لها لون تفاحة على وشك السقوط ,وصوت لاصدى له,
أسماء تنتظرالرحيل نحو شراع ونجمة,يشهدون الظل الاخر وراء الريح كصدفة مغَلّقة في غمار بحر يتقاذفهم الموج في تيه الابديه , توارت أنفاسهم اللهاثه وإنزاحت عنهم غمامة البحث عن وجه مفقود ومرآة مكسوة,غاب لهاثهم للأمجاد ، لا يسألون غراباً على غصن يابس، ماذا يتذكر.يظل ساكناً فوق الساعات كروح تمثال بلا عيون ,سواده الكالح يشكو غياب الافق الابيض , حشد ينامى يتجمع في ذاك الطائر, تجاعيد مهترئه , وأحضان مبتورة ,وضحكات مكتومةأمال مأسورة، ومحطات صامتة في سبات الظل الساكن , جراحات اللامرئيين تتوارى في داخله , معلقة تتنظر الرجوع الثاني, أحلام مهزومه , وأماني تنتحب ,أشلاء الطفوله المذبوحه, ونساء أودعت أقمارها أحضان الارض المتخمة بربيع العمر, أشكال غريبة غارقة في التربة، لا تجرؤ على لمس قطرة ماء ,الوادي إسوّد من شراب الدماء العفراء ,ودهاليز الموت الجامحة لاتبالي حين يتوارى السكون وسط الاحزان فلانفرق بينهما , اللهب الأسود الساكن خلف السماءالرمادية ينتحب مع نعيق الغراب, بين الجرح والجرح رمح أسود ، الذاكرة سكنت رياحاً تذروها ترباناً تعبُّ بالحياة المبتوره ,صارع بين الظلال لحياة راقدة في سبات, يتسمّر الغراب فوق جدارمتهالك بالانين , بعينين باهتتين,وهو يشهد الشمس تحمل مجاميع الكويكبات نحو الافق الحاني ,وراح يعد ذاكرة الأجفان المطبقة, كشفق يبزغ فيخفي دمدمة النحيب المتواصل في سديم الفضاء .
( التعبيرية الرمزية )
في الرمزية التعبيرية تتحقق الاثارة من خلال التهيحج و الاستفزاز الرمزي وهذا معروف و كثير في قصيدة الحداثة و نجده في قصيدة وجه المدينة للشاعراسماعيل عزيز فانا نجد الرمزية العالية التي تصنع عالما موازيا يثير و يستفز القارئ و ينقله الى مجال في الوعي مركب غير الخطابية اللغوية .
وجه المدينة
اسماعيل عزيز
كم مساء مضى؟ هل تحصون معي ؟ منذ أن غابت الشمس يوماً لتتركني غسقاً عالقاً في بقايا شجر!
في يديّ خرائط الصحراء .وفي قلبي نجم بعيد..وهل تسمعون هذا الخواء الذي ينهش الروح.وهذا المزيج الغريب من الوهم والوهم؟ .آهٍ وألف ..نسيت ..رأسي هنا. لكنّ سريري هناك.فأنا ..أنا الطين الذي أنقاد مراراً ويبقى , للزرقة البشرية . قادتني خطى الطريق لأبجدية مائعة…أنني أسقط الآن مُستسلماً على أعتاب كتاب..
قال لي قائلٌ في الكتاب : لا تعطي وجهك للشمس ..وعانق يمين القمر ..
–ربما قمراً قلقاً ، حينها ينتابني اللحن صوب السفر..فتورق بي رغبة للرحيل..
–أحمل معك حجر الذكريات ..أو أدخل نافذة من حلم . لا يبدأ الحُلمُ الأزرق ولا ينتهي !
أنني أرى الآن مُدناً من دخان تحت رأسي ونهراً تأرجح بين بقايا شجر
–أوقد على الطين نار الحجر ولا تخلط بين الحبيبة والبرتقال والزورق الورقي ..
أيها الرجل السائر بين الدخان وبين الضباب ..أيّها العالق بين الرمال وبين خطى الموج
أن المدينة يابسة لا تعد.
( التعبيرية الفلسفية )
حيث ان الاثارة و الاستفزاز الذي يحصل لدى القارئ لا يقتصر على المعاني و الافكار بل ينتقل الى مستوى اخر هو الشخصية و رؤيتها تجاه العالم و يكون هناك تحد و ردة فعل تجاه ما مطروح من فلسفة و فكر في النص وهذه هي التعبيرية الفكرية التي تتميز بها كاتبات صدام غازي الذي يعبئ نصه دوما باطروحات فكرية و فلسفية كما في قصيدة الرقص .
الرقص
صدام غازي
الرقص بالنقر على الأسفلت ، رقصة من لا يكترث . الرقصة من طائر الفلامنكو , سرقته بوهيمية. ورقصة الدبكة يختص بها البردي . أستمع لكِ الى النهاية , فلا تقصي حنجرتي من المنتصف . الأعمى لن تشي به ألسنة البكم . الفكرة أستنتاج , وغيمة ماطرة . التلميح لبلابة في طور النمو . العزف على الناي ,بحاجة الى حبال صوتية جديدة . ثقافة الأكتراث , وسلال المهملات المملوءة . الأختبار بالقرعة , كرالي الصحراء على الأقدام . الهطول نحو حافة ما بحاجة الى كفيكِ السماوية . اللعنة ليست بحاجة الى تميمة مدفونة . نهاية الحافة ، هنالك تسمع صوت جوقة زغاريد الوداع . بعد الهطول ، منتصف البداية , تشعر بالزغب الساقط من أجنحة ملاك . كل شيء رائع الى حد الآن .