مفهوم قصيدة النثر ، كتابات صدام غازي نموذجا




يقول بودلير ( من منا في لحظته الطموحة لا يحلم بمعجزة الشعر النثري ، من دون وزن و لا قافية ، سلسل بشكل كاف و صارم بشكل كاف لأن يعبر عن غنائية النفس ، و عن تموج الروح ، و عن وخز الوعي ) (1) . و تقول باربرا هننغ (Babara Hening )  ( ان قصيدة النثر هي جنس أدبي متاخم -- حيث تكون الطبيعة شعرية لكنه يطرح بشكل افكار و كلام عادي جدا ) (2)  . و تقول دانييل متشل (  قصيدة النثر تكتب بالجمل انها تظهر ككتلة واحدة من دون تشطير   )(3) . و تقول مليسا دونوفان (Melissa Donovan  ) ( النثر ما يكتب باللغة العادية بالجمل و الفقرات  ، و الشعر بطبيعته يعتمد على الخصائص الجمالية للغة ، و قصيدة النثر هي   شعر يكتب بالجمل و الفقرات من دون نظم او تشطير . لكنه يحتفظ بخصائص شعرية اخرى كالتقنيات الشعرية و الصور و التكثيف ) (4)  .و يقول زيمرمان  (Zimmrman)( في قصيدة النثر  تكون الكتابة متواصلة من دوت تشطير ) (5)و في التعريف المعتمد في الويكبيديا ( ان قصيدة النثر شعر يكتب بصيغة النثر بدل النظم لكنه يحافظ على الخصائص الشعرية من التصوير العالي و ترادف و التأثير العاطفي .) (6)
ان قصيدة النثر فتحت افاقا جديدة للكتابة الادبية غير مسبوقة و لذلك قد احاطها الشك يقول جالرز سيميك ( Charles Simic ) وهو من رواد قصيدة النثر الامريكية (  قصيدة النثر لها مميز غير عادي بانها ينظر اليها بعين الشك و الريب ليس فقط من قبل الكارهين التقليديين للشعر بل من قبل الشعراء انفسهم ) (7) . و تقول نيكول ماركوتك  (Nicole Markotic)   في مقالها المهم ( قصيدة النثر و السرد الجديد ) ( قصيدة النثر هي ستراتيجية شعرية مغروسة في بنية سردية   انها دعوة للمساواة ، حيث النحو النثري و التشظي الشعري ، قصيدة النثر تتحدى التشطير و ترفض الاكتفاء بالصورة المعهودة للشعر او للنثر - الى ان تقول -  واهم ما يشدني الى هذا الشكل هو الجملة ؛ ما الذي يجعل الجملة سطرا شعريا بدلا ان تكون جزء من مقالة او قصة ) .(8)
  مع كل هذا الفهم الواقعي لقصيدة النثر ظهر اتجاه نقدي معاصر، و صار محورا للنظرية النقدية المعاصرة على يد الرائد فيه البروفسور بيتر هون (Peter Huhn  ) الذي نظر و طبق اليات التحليل السردي في الشعر، و ناقش ان التحليل السردي و علم السرديات يتميز بالشمولية  بحيث يمكن من خلاله تناول جميع اشكال الأدب بما فيها الشعر الغنائي ، و كتابه ( التحليل السردي في الشعر الغنائي ) الصادر عام 2005 كان فتحا كبيرا في هذا الاتجاه (9) ، و صارت الان مدرسة كبيرة تعمل على تتبع التقنيات السردية في الشعر الغنائية و متخصصة في هذا الشأن ، معتمدة على منهج ( السرديات العابرة للاجناس )(  (transgeneric narratlology  . (10) و اهم تلك التقنيات  السردية التي برهنوا على وجودها في الشعر الغنائي هي التتابع و التوالي (sequentialty ) و التوسّط والابراز (mediation ) و التواصل و الافصاح  ( articulation  )  (11)  .

من هنا تظهر ملامح قد ترسخت عبر تأريخ طويل لقصيدة النثر ، استطاع من خلالها ان يخرج الباحثون و الدارسون بتحديدات عامة تجنيسية لهذا الشكل الادبي و اخرجت قصيدة النثر من اللاتجنيس الى التجنيس ولكن بوجودها الواسع الحرّ و الثرّ و المتميز . من تلك الملامح التي اشير اليها  كما بينا الامور التالية :
(1) ان قصيدة النثر  تكتب بالجمل و الفقرات .
(2) انها سلسة .
(3) انها كتابة متواصلة من دون تشطير  .
(4) انها تحافظ على الخصائص الشعرية من   الزخم العاطفي و الصورة الشعرية.
(5)  انها شعر يكتب ببنية سردية .
لو لاحظنا الملامح المتقدمة فانا سنجدها صفات النثر و الشعر ، فقصيدة النثر هي الوجود الخارجي الذي يجمع الشعر و النثر اي هي حالة التوافق بين الشعر و النثر . سنحاول هنا تتبع تلك الملامح في كتابات الشاعر العراقي صدام غازي . الذي هو احد كتاب قصيدة النثر   السردية الفقية ، بكتابتها بالجمل و الفقرات و بسلاسة و من دون تشطير او تشظي ، بسرد تعبيري رمزي ايحائي محافظ  على التكثيف و الصورة الشعرية و الانزياح ، و بهذه المواصفات التي سنبحثها تطبيقيا و تفصيليا كانت كتابات صدام غازي نموذجا لقصيدة النثر حسب التعريفات السابقة .

1-    النثرية ( الكتابة بالجمل و الفقرات )

نثرية صدام غازي معلومة لكل متابع، و الجمل و الفقرات حاضرة فيها دوما، فجميع نصوصه السردية نماذج لتلك النثرية. و كنموذج لدينا ثلاثة نصوص تتميز بالعذوبة و النثرية الواضحة ( صفصافة ) و ( قطار ) و ( الزمن الصفر).
(صفصافة )
صدام غازي
ليس هذا هو الشارع . تهت في العنوان بحثا عن الصفصافة . عشتار أصبحت نبية ، لكنها نسيت أن تمسح بصماتها عن جدران معبد ننماخ . تذكر ، بفعل الأمر أن الصفصاف لن يتسعه الأسفلت ، فإن رأيت صفصافة تمشي على الأسفلت ، فأنها من البلاستيك المدور . لن تعرف الفرق من لون الأسفلت ، ولا من لون الماء ، ولن يستحضر الجنّ كي يخبرك ما نوع هذه الصفصافة .  الرياح كالأنهار في تدفقها . تهرب دوما من حرارة الصيف لتختبئ بين الصفصاف. لن تعرف الفرق ، الأ أن يخبرك البئر. هذا أن لم تنس فعل الأمر .


( القطار )
صدام غازي
بمساحة آجرتين ، لا يمكن لمقصّ الحلاق أن يقصّ لك فرحة بحجم ماموث  يبحث عن أنيابه العاجية ليحارب مخالب القطّ . خلف الكواليس بالجنب من محرك الخيوط  بآجرتين ونصف ، تسمع زغاريد القطار. يشتري الراكب رئة من البائع المتجول.  رئة لأستعمال واحد . هذا ما كتب عليها ، واشترى مظلة من أجل المطر الحامضي الذي يسكبه القطار. غم أن الثلج لم ينزل . أبتاع جزرة لأنف الأمنيات ، كسكارة جدي قبل أن يخترع الفلتر. رمى بآخر أمنياته على آجرة متغير لونها وسط رصيف المحطة ، علما أن جدي لم يعرف أنه رمى بصمته الوراثية حين لصق السكارة .

( الزمن صفر )
صدام غازي
عند أول الشفق ،  حين جلست الشمس خلف تلك التلة  تمشط شعرها ، لم نكن عندها وليدي الصدفة , لكنا ألتقينا في الزمن صفر . ليس كل شيء واضح المعالم , ولا كل الافق معتم كأعمى يلبس نظارة سوداء . لم نلتق على ذلك القمر النحاسي كما قلنا , ولم ننكث بوعدنا حين رحلنا حاملين صرة خيبة الأمل , مع القليل من قوت ذكرياتنا . ففي الزمن صفر تتغير الاحداث , فزمن القصيدة تخط على صفحة الريح . زمن عناق الارواح للأرواح في زمن هجر أهل التناسخ أرواحهم . زمن خيانتي مع قصيدة تحمل ملامحك . زمن التمني بليلة أغفاءة من أجل عين الحلم .
الزمن الصفري فيه المدى يده تسكن الصدى . التوقيت بعدد ذرات الرمل . الشمس تجلس خلف تلك التلة . السكون يركب ظهر الخفافيش ويقتل الحركة . في الزمن الصفر لا تعدّي الايام . هكذا ولدنا لا نعد ولا نحصي , في بداية أول الغسق عند بداية التوقيت صفر .
و لا نحتاج الى كلام لبيان البناء الجملي و الفقراتي لتلك النصوص ، فانها تتحدث عن نفسها .
2-    السلاسة
تتميز كتابات صدام غازي بالسلاسة ، البعيد عن التعقيد النحوي ، و هذا من خصائص قصيدة النثر التي تلزم بمنطقية اللغة و نحوية الجملة ، و يمكن للمتابع لكتابات الشاعر ان يدرك هذه السلاسة و التداولية و التعاونية التي تتميز بها . و واضحة السلاسة في النصوص الثلاثة  السابقة ( صفصافة ) و ( القطار ) و ( الزمن الصفر)
3-    البناء المتواصل ( عدم التشطير )
النثرية في كتابات صدام غازي السردية الافقية  تحقق تكاملها ، بجمل و فقرات و سلاسة و بناء جملي متواصل ، من دون سكتات و لا فراغات و لا تشطير و لا توظيفات بصرية . و كتابة  صدام غازي عبارة عن مقطوعة نثرية و في الغالب كتلة واحد ، و كتابة الكتلة الواحدة (one block ) احدى غايات قصيدة النثر الكبرى . بالبناء الجملي المتواصل بجمل تامة و واضحة تتجلى احدى اهم خصائص النثر و تكالمه عند صدام غازي ، فمثلا في قصيدة ( القطار) المتقدمة يقول الشاعر :
( 1- بمساحة آجرتين ، لا يمكن لمقصّ الحلاق أن يقصّ لك فرحة بحجم ماموث  يبحث عن أنيابه العاجية ليحارب مخالب القطّ . 2- خلف الكواليس بالجنب من محرك الخيوط  بآجرتين ونصف ، تسمع زغاريد القطار.3-  يشتري الراكب رئة من البائع المتجول.  رئة لأستعمال واحد . )
لدينا هنا ثلاث جمل ببناء متواصل و بمنطقية نحوية تامة من دون اية توظيفات بصرية . كل جملة تتجاوز السطر وهذا من صفات التكامل النثري كما هو معلوم .

4-    الصورة الشعرية الزخم العاطفي
هنا تكمن مقدرة كاتب قصيدة النثر و هنا تبرز امكانياته الشعرية ، و تصور ان قصيدة النثر فن سهل تصور ساذج لا يمت الى الواقع بصلة ، و كلما كانت القصيدة اكثر نثرية كان تحقيق الشعرية فيها اكثر صعوبة . و مع هذا التجلي القوي للنثر في كتابات صدام غازي ، يكون خلق الشعر من ذلك الوسط النثري كاشف عن مقدرة لدى الشاعر .  في النصوص الثلاثة ليس فقط تحقق لصور شعرية ذات زخم شعوري عال هنا و هناك ، بل متواليات من الصور الشعرية ، و عمق فكري و رؤيوية جلية ، و شعرية عميق تنبثق من اعماق النفس ، و الهم الشعري و طلب الخلاص واضح ، فليست النصوص مجرد تراكيب انزياحية و رمزيات متجاورة بل هناك تجل واضح لقضية الشعر و رسالة الشعر و العوامل الجمالية العميقة و الالتقاطات الشعرية و المعادلات التعبيرية الفذة .
ففي ( صفصافة ) نجد متواليات في الصور الشعرية و الصيغ التعبيرية المعبأة بالطاقات الشعورية و الزخم الاحساسي ( 1- ليس هذا هو الشارع . تهت في العنوان بحثا عن الصفصافة . 2- عشتار أصبحت نبية ، لكنها نسيت أن تمسح بصماتها عن جدران معبد ننماخ . 3- تذكر ، بفعل الأمر أن الصفصاف لن يتسعه الأسفلت ،4-  فإن رأيت صفصافة تمشي على الأسفلت ، فأنها من البلاستيك المدور .5-  لن تعرف الفرق من لون الأسفلت ، ولا من لون الماء ، 6- ولن يستحضر الجنّ كي يخبرك ما نوع هذه الصفصافة .  7- الرياح كالأنهار في تدفقها ، تهرب دوما من حرارة الصيف لتختبئ بين الصفصاف .8-  لن تعرف الفرق ، الأ أن يخبرك البئر. هذا أن لم تنس فعل الأمر .)
لدينا هنا ثمان جمل نثرية حقق الشاعر فيها ثمان صور شعرية ، من دون ان يحتاج الى نفَس تمهيدي او تهيئة للصورة التالية ، و جاءت الصور في انسيابية كبيرة و تلاحم .
و هكذا نجد الصور الشعرية و التعبيرية و الزخم الشعوري حاضرا في النصين الاخرين ، و الامر هو كذلك في باقي نصوص صدام غازي السردية الافقية .

5-    البنية السردية
انّ السردية في قصيدة النثر ليست شرطا  فحسب بل هي اداة لاجل اعطاء الحرية للشاعر ، و من خلال السرد التعبيري يتمكن الشاعر من التنقل بحرية غير معهودة في جميع جوانب اللغة الجمالية و التوصيلية ، و يستطيع من خلال السرد الشعري ان يستنطق اللغة و ان يستخرج عمقها الشعري و المعاني الجمالية العميقة و ان يطرحها للقارئ بصورة هادئة و عذبة  من دون ارباك او تشظي او تعال .
انّ السردية في الشعر لا تكون بقصد الحكاية و القص و لذلك لا تجد تطورا حدثيا قصصيا في قصيدة النثر بخلاف القصة كما انك لا تجد حبكة و قضية قصصية و انما ما تجده تقنيات سردية لاجل نقل الاحساس الى القارئ و طرح المعنى الجمالي و الفكرة الشعرية بتلك الصيغة لاجل تحقيق التكامل النثروشعري . فالسردية في قصيدة النثر وسيلة لتحقيق التكامل بين الشعر و النثر . و لقد رأيتَ بوضوح كيف ان قصيدة ( صفصافة ) السردية قد تضمنت ثمان جمل اشتملت على ثمان صور شعرية . و هكذا نجد السردية و التوافق النثروشعري حاضرا في قصيدة القطار بتناسب ملحوظ بين الوحدات النثرية و الوحدات الشعرية ، و ايضا الامر كذلك في قصيدة ( الزمن الصفر ) التي يتجلى فيها السرد الى ابعد حد ، حيث يقول الشاعر فيها :
( عند أول الشفق ،  حين جلست الشمس خلف تلك التلة  تمشط شعرها ، لم نكن عندها وليدي الصدفة , لكنا ألتقينا في الزمن صفر . ليس كل شيء واضح المعالم , ولا كل الافق معتم كأعمى يلبس نظارة سوداء . لم نلتق على ذلك القمر النحاسي كما قلنا , ولم ننكث بوعدنا حين رحلنا حاملين صرة خيبة الأمل , مع القليل من قوت ذكرياتنا . ففي الزمن صفر تتغير الاحداث , فزمن القصيدة تخط على صفحة الريح . زمن عناق الارواح للأرواح في زمن هجر أهل التناسخ أرواحهم . زمن خيانتي مع قصيدة تحمل ملامحك . زمن التمني بليلة أغفاءة من أجل عين الحلم . الزمن الصفري فيه المدى يده تسكن الصدى . التوقيت بعدد ذرات الرمل . الشمس تجلس خلف تلك التلة . السكون يركب ظهر الخفافيش ويقتل الحركة . في الزمن الصفر لا تعدّي الايام . هكذا ولدنا لا نعد ولا نحصي , في بداية أول الغسق عند بداية التوقيت صفر .)
ان السردية طاغية الا انه في الوقت ذاته لاتجد حكاية و لا حبكة و انما افكار عميق موحية و مرمزة و ترمي الى ابعاد عميق في النفس ، و التطور النصي مبني على تطور تتابعي للمكونات الشعرية المجازية و الرمزية و الايحائية .