الجماهيرية
في شعر عبد الجبار الفياض
د انور غني
الموسوي
(
متى يمتنعُ هذا الغولُ عن قضمِ قافيتي وتمزيقِ
أخيلتي \ وسلبِ رؤاي . .؟ \ لأذوبَ
غزلاً بين الرصافةِ والجسرْ . )
عبد الجبار الفياض
بجنب عناصر الفنية و الجمالية تكون الرسالية الركن
الثالث في الابداع ، بتبنّي هموم الامة و امتثال تطلعات الجماهير و تجسيد الرؤية الادبية ، فالرسالية بقسميها
الفني و الجماهيري تبرز عنصرا مهما في عملية الابداع . ان تمثّل هموم الامة و
الشعب في هذا الزمن الصعب يجعل من الانغلاق على الذات و الذوبان في الذاتيات ترفا
و بعدا عن جوهر الادب . لذلك نجد ان الجلّ
الاكبر من الادباء العرب في زمننا يتمثّلون قضية الامة فكانوا صوتا صريحا و معبّرا
فذّا عن هموم الامة ، و من بين هؤلاء الشاعر العراقي الكبير عبد الجبار الفياض
الذي عجن أدبه بهموم الوطن و حكاياته و معاناته . في هذه المقال سنتناول الرسالية الجماهيرية
في ادب عبد الجبار الفياض ، في ملامحها و صورها الشعرية العميقة .
في لوحة حزينة
يقول الشاعر :
(
قاتمةٌ لونَ طفولتي
صورٌ
لونَ بلدٍ غطّى وجهَهُ دخانُ بنادق
نفاياتُ كُنى )
صورٌ
لونَ بلدٍ غطّى وجهَهُ دخانُ بنادق
نفاياتُ كُنى )
هذا البعد
التعبيري ، و بهذا الصوت و بهذه اللغة الحادة جدا ، التي تبلغ مرحلة الصراخ و
النداء و طلب الخلاص ، حيث استحال لون البلد كله ولون الطفولة فيه لون دخان بنادقٍ و موت ، انّه تأريخ البنادق و تأريخ
الموت في بلد اللون القاتم حيث الطفولة المسروقة و الحياة المسروقة .
و في شجن و حسرة ونداء يقول :
( إلى ضحايا البرد
والجليد
من
أنت ؟
أيُّها الجذعُ المسندُ على أعمدةِ منخورة
المتربعُ فوق كرسيٍّ ملفوفٍ بورقِ بترولٍ
يغسلُ أقدامَ الشّيطان
ويتمندلُ على خدودِ جوارٍ
وقدودِ قيان . . .
ما أسهلَ أنْ يخلقَ البترولُ مُدناً في غيرِ أرضِه
ويُردَّ لأهلهِ خراطيشَ موت )
أيُّها الجذعُ المسندُ على أعمدةِ منخورة
المتربعُ فوق كرسيٍّ ملفوفٍ بورقِ بترولٍ
يغسلُ أقدامَ الشّيطان
ويتمندلُ على خدودِ جوارٍ
وقدودِ قيان . . .
ما أسهلَ أنْ يخلقَ البترولُ مُدناً في غيرِ أرضِه
ويُردَّ لأهلهِ خراطيشَ موت )
انه صوت يمتد الى اللانهاية ، عبر الزمن ، يسأل تاريخ الانسان ، و
ما فعله في اهل الثروة ، ما فعله من نهب و خسارات ، بأيد جاثمة مرّة عمياء ، حيث تبنى الحضارات على أكتاف المتعبين أهل الخيرات ، انه صوت العدالة
المفقودة ، حيث ترى خيرات الانسان يتنعم بها غيره ، انه اعتراض على هذا العالم
الظالم المظلم ، على الانسان الاعمى و تاريخه المرير .
و في ترميز عال يندب الشاعر العدالة المفقودة حيث يقول :
( هامانُ
يعزفُ لحناً يُطربُهُ
وربَه
ولِيسفْ ما عداهُ رمادَ ليالٍ متعبة
فلتدعِ الأيادي الناعمةُ الفرعونَ يحلمُ بأستباحةِ ما يُريد
وممنوعٌ لغيرهِ أنْ يحلمَ بحفنةِ شبعٍ
من أكوامِ لذتِه )
يعزفُ لحناً يُطربُهُ
وربَه
ولِيسفْ ما عداهُ رمادَ ليالٍ متعبة
فلتدعِ الأيادي الناعمةُ الفرعونَ يحلمُ بأستباحةِ ما يُريد
وممنوعٌ لغيرهِ أنْ يحلمَ بحفنةِ شبعٍ
من أكوامِ لذتِه )
انه زمن الزخرف حيث يزين اهل الظلم و العمى بعضهم لبعض زخرف القول
، وسط عالم من الظلم و القهر ، حيث
الانسان في وجهه القبيح يسحق اخاه الانسان ، ينغمس في لذته السوداء ، تاركا اخاه
الانسان في عالم من الجوع ، ان هذا الخطاب الانساني يتجاوز الزمان و المكان يتجه
نحو المعاناة الكلية و الانسان الكليّ نحو طلب العدالة في العالم ، يندب الظلم و
القهر العالميين .
و
في لوحة مأساوية حيث لا يد للخلاص تُنتظر يقول الشاعر :
( إيهٍ
أيُّها القابعون تحت خيمةِ موتٍ بلباسٍ أبيض
يستلبُ الأرواحَ
ويمضي
ولا رادَ لسنابكِ خيلِه . . .
يلتحفُ كُلَّ أماني المحمولين على كفِّ عرّافٍ أعمى
ناءتْ بحملها أكتافُ العمرِ
فكانتْ نجماً بعيداً يُعبد )
أيُّها القابعون تحت خيمةِ موتٍ بلباسٍ أبيض
يستلبُ الأرواحَ
ويمضي
ولا رادَ لسنابكِ خيلِه . . .
يلتحفُ كُلَّ أماني المحمولين على كفِّ عرّافٍ أعمى
ناءتْ بحملها أكتافُ العمرِ
فكانتْ نجماً بعيداً يُعبد )
حيث الموت لا رادّ له ، حيث القهر و الاستلاب ، و سنابك خيله المريرة ، تسرق المكان
و الروح و الحلم ، فلا شيء هناك ، سوى عالم من البؤس الغريب ، انه
دمع عنيف و صوت شفيف و طلب العدالة و الخلاص ، انه صوت العدالة الانسانية
المفقودة .
و
في تطلع نحو الحلم و نحو الخلاص من الألم القابع في المكان يقول الشاعر :
( متى أكتبُ قصيدتي من غيرِ ألمْ
من غيرِ طيفٍ لخنساء؟ْ
لا تُريدُ أنْ تغادرَ زمناً
برؤوسٍ
يهزُّها إلتواءُ حروفْ
وأفواهٌ يسافرُ فيها الذبابْ
ولا تقتاتُ رحاهُ إلآ الدورانِ ...!
لطفٍّ
ولودٍ لطفوفْ
تشظتْ في بقاعٍ
غارتْ بحناجرِها صرخةُ رعدٍ
وصفيرُ ريحْ
ما اجتمعتْ من قبلُ على مائدةٍ سواء )
من غيرِ طيفٍ لخنساء؟ْ
لا تُريدُ أنْ تغادرَ زمناً
برؤوسٍ
يهزُّها إلتواءُ حروفْ
وأفواهٌ يسافرُ فيها الذبابْ
ولا تقتاتُ رحاهُ إلآ الدورانِ ...!
لطفٍّ
ولودٍ لطفوفْ
تشظتْ في بقاعٍ
غارتْ بحناجرِها صرخةُ رعدٍ
وصفيرُ ريحْ
ما اجتمعتْ من قبلُ على مائدةٍ سواء )
ان
الشاعر ينشد زمنا بلا ألم ، بلا حزن ، في وطن ارهقه هذا التاريخ الطويل الباكي ، هذا
البلد الجريح ، المثقل بالنكبات و الدمار و سلسة لا تنتهي من الخسارات و الحسرات و
الاحزان ، يبرز السؤال ، متى نهاية كل هذه الموت و القتل و الدمار .
ان
الحزن يأسر المكان ، فكان ارثا و رثه هذا الوطن المنكوب يقول عبد الجبار في مقطع حزين :
(
أيُّ حزنٍ
هذا الذي تنطقُهُ كُلُّ لغاتِ العالمين ؟
لحلاّجٍ
تتسعُ بقعةُ دمهِ كُلَّ صباحْ
خارطةً لسائرينَ نحو منازلِ القمر . . .
جذعةُ صلبهِ
أرثٌ يستودعُهُ بغداد
وينصرفُ بصحبةِ موتهْ
باصقاً على سفالةِ أضدادٍ ومسوخ )ْ .
هذا الذي تنطقُهُ كُلُّ لغاتِ العالمين ؟
لحلاّجٍ
تتسعُ بقعةُ دمهِ كُلَّ صباحْ
خارطةً لسائرينَ نحو منازلِ القمر . . .
جذعةُ صلبهِ
أرثٌ يستودعُهُ بغداد
وينصرفُ بصحبةِ موتهْ
باصقاً على سفالةِ أضدادٍ ومسوخ )ْ .
ان
الحزن الذي التفّ بوطن هذا الشاعر ، التفّ بروحه و سرقها ، حتى انك لا تجد عبارة و
لا مقطعا الا و يخيم عليها الحزن ، ان شعر عبد الجبار هو دموع الكلمات و بكاء من
نوع اخر ، انه شعر البكاء و الندب ، انه ادب البكاء و الدموع .
و
في مقطع يصف واقعا مريرا يقول فيه :
( متى يمتنعُ هذا
الغولُ عن قضمِ قافيتي وتمزيقِ أخيلتي
وسلبِ رؤاي . .؟
لأذوبَ غزلاً بين الرصافةِ والجسرْ . . . )
وسلبِ رؤاي . .؟
لأذوبَ غزلاً بين الرصافةِ والجسرْ . . . )
انه تبنّ و تمثّل لاحلام شباب هذا الوطن المنكوب
، انه يتطلع لزمن الحب و الرفاهية و الدعة
، حيث يذوب الشباب في العشق و الغرام من دون ألم و لا حسرات ، انها الحياة
المفقودة ، حيث هذا الغول الدموي يسرق كل شيء
، يسرق الكلمات و الاخيلة و الرؤى ، يسرق الروح و الزمان و المكان . فلا يبقى فسحة للفرحة في هذا البلد الجريح .