التوظيف الفني في الشعر السوري المعاصر

التوظيف الفني في الشعر السوري المعاصر
د أنور غني الموسوي

(بينما راح الغروب \يعبث بالموانئ الراحلة خلف المجاز المشاغب \ والقطة ما زالت تنظرني بعيني الدهشة \تسألني أين \تركت خلفي مواعيد العيد \  أين تركت أرجوحتي الحمراء)
رشا السيد احمد
التوظيف اللفظي و المعنوي مهارة عالية تعطي للصورة الفنية ابعادا جديدة ، بل يمكن القول ان التوظيف الفني في اللغة يحقّق البعد الثالث للصورة الفنية ، فيمتدّ بروحها و شكلها الى عوالم اخرى تبحر فيها النفس ويضاء فيها الفكر و يتّسع معها الفهم .
التوظيف الفني سواء اللفظي او المعنوي ليس جديدا بل هو قديم قدم الشعر و اللغة الفنية ، و يمكن عدّ ما موجود الآن امتداد طبيعي للبلاغة العربية و علمي البديع و البيان ، الا انّ للتوظيف الفني في لغة الشعر الحديث مظاهر فذّة و متقدّمة ، يكون من المهم متابعتها و رصدها و تبييّن ملامحهما الظاهرة . و انّ الثراء الطبيعي و الانساني و الفكري للأدب السوري المعاصر يقدّم لنا نموذجا رائعا في  التوظيف الفني مع تنوع منقطع النظير يعكس ذلك الثراء المعهود . وهنا في هذه المقال سنعمد الى مظاهر التوظيف الفني في الشعر السوري المعاصر في نماذج ظاهرة و جليّة تتجلى فيها التوظيفات الفنية التي تهب الصور بعدا ثالثا و تنقل الفهم و التصور الى عوالم من المعنى و فضاءات رحبة من الدلالة و البوح .
اولا :  توظيف صوت الطبيعة
صوت الطبيعة و اشياؤها العذبة و الجلية تحضر بقوة في الشعر السوري الملون بالونها الزاهية يقول محمد الدمشقي:
(رماد آهاتنا \ ذكريات الريح  \ نغمات الأرق \ ليتنا كنا .. غبارا \ يحمل البشرى إلى زهرة \ يرددنا الندى \ يبعثرنا الضياء\ يشربنا السحاب \نسمة نسمة \ ليتنا ما اشترينا بالعبير دخاناً\ و بصفاء لهفتنا ضباب لقاء )
ليس غريبا ان يكون كل سطر من كلمتين او ثلاث ، احدها مفردة من مفردات الطبيعة ، و ليس غريبا ان تكون لها معان غير معانيها ، و ليس غريبا ان تكون هذه اللوحة الرقيقة تأوّه  و حسرة على فقدان روعة الحياة و حلول الدخان و الضباب .
و في لوحة فنية فذة و مجازات عالية  ببوح رقيق تقول رشا السيد احمد:
(على صدر البحر \  المزحوم ببوح أمواجه \ هذب الليل بتأمله الكون  \ نبضي المتسارع \
بأجنحة الحلم \ خلف ريش الفضاء البعيد )
فنجد هنا التوظيف الانسيابي اللطيف لمفردات الطبيعة ، تتجلى بدفق و بوح شفيف ،  المحلق في فضاءات و عوالم من المعاني لما تحمله تلك المفردات من دلالات و وقع و تأريخ في نفس الانسان ،  انّ هذا الارتباط العميق بين النفس و العوالم الشاسعة لأشياء الطبيعة و دلالاتها  الرحبة و المطلقة يحقّق و كما نرى دلالات اكثر قوة و اكثر توصيلا من باقي التوظيفات المتعلقة بالمدنية و ما لها من انقباض و تكتل .  يمكننا الان و بسهولة تبيّن سرّ الميل الى توظيف مفردات الطبيعة في الشعر السوري ، وذلك لأنّه و ببساطة يحاكي الروح المطلقة و الرحبة و الرقيقة و التي لا يمكن ان توفرها مفردات المدنية و معانيها الضيقة و المغلقة . و يتجلى هذا البعد بل يتجسد  بشكل صريح في مقطوعة بوح و محاكاة رفيعة لرشا السيد  احمد حينما تقول :
(قطفت من حدائق الأصيل ألف أغنية \ لكِ وما أغناك أيتها الروح عن البحث \ ترسمين لي
\ في الأفق فراشة مرصعة \ بالرؤى الفريدة \تناوش أغنية الكون بهدبها )
انّ هذه المقطوعة الجميلة بتكثيفها العالي و بوحها الشفيف تختصر كثيرا من المعاني و الملامح و المظاهر الفنية للغة و صاحبتها و روحها الكونية الرقيقة .
 و صوت الطبيعة يحضر ايضا في توظيف عال للبوح بالالم و الحزن  ففي لوحة رائعة لرشا السيد احمد تقول فيها  مخاطبة دمشق :
(كيف تترك حمائمك أعشاشها \ مذعورة من فتك شواهين \ استساغت كأس \ الدم نبيذا تعتق به صباحات الغدر ؟!\ لا فرق دمك دمي . \ دم الياسمين )
ان المفردات المستقاة من الطبيعة و مما هو متأصل في الشام من ياسيمن و حمائم ، ادّت هنا وظيفتها العالية التعبيرية في توصيل عال المستوى و فذ .
و في توظيفات  توصيلية بوحية لاشياء الطبيعة و مفرداتها تقول فيروز مخول :
(عيونك  \ تمزق قميص الليل لترسم \ خارطتي الى بلاد الندى \ابتسامتك \
ترش عبقا \على خد البنفسج  )
اضافة الى المجازات العالية فانّ المفردات هنا ادّت وظيفتها العالية  . و في لوحة فذة يقول ماهر قطريب :
(هو والشام توءمان \هكذا أخبر العصافير يوماً \ وذات ألمٍ أخبرني\ الشام تشبه نبضه
)
تصارع الأورام (\ وعيون الغرباء\  .. وغداً ستنهض كزهرةٍ \وسينهض كبرعمٍ \ بربيع قادم .. أراده لها \  وأرادته له \ هكذا أخبرني \وأخبر الطير والسحاب ..)
من الواضح القدرة التعبيرية للالفاظ المستقاة من الطبيعة الموظفة هنا ، و بشكل احترافي عال ادت وظيفتها بجدارة .
و في لوحة تعبيرية بتوظيف عال لاشياء الطبيعة يقول احمد امين زمام
(فجر هجره عطر البنفسح \ دامية أمطار السماء \ لا صهيل... \لا وقع حوافر...\ هي طعنة..
هي غصة.. )

ثانيا :  توظيف صوت الطفولة
في توظيف لاشياء الطفولة و البراءة تحضر الطائرة الورقية عند محمد الدمشقي   اذ يقول :
(لمَ نلتقي ؟ \ و هل تحرق الشمس ظلي  \ لو ناجيتك نبضا \ و القيد يرسمني \ طائرة ورق 
خيطها سراب \يمسك بي ضياع \يشدني نحو التراب)
انّ تكامل الصورة في هذا المقطع البوح ما كان يبلغ تلك الدرجة من العمق و البوح لولا التوظيف العالي للطائرة الورقية ودلالتها الواسعة و ما رافقها من شرح بخيط السراب و الضياع .
و في لوحة تعبيرية بوحية توظّف لفظة الطفولة تقول رشا السيد احمد :
(بعد تراتيل غياب \ أشتاقت طفلة اللؤلؤ \أن تشرب صوت الشروق الأول )

من الواضح الحجم الدلالي الذي حققت لفظة طفلة اللؤلؤ و الذي يحمل دلالاته الخاصة المختصرة لمساحة واسعة من التعبير . و في توظيف فذ لمفردات الطفولة  بلغة تعبيرية بالغة تقول رشا السيد احمد :
(دون أن أرغب بعودة  \  منذ تاهت تلك الطفلة حباً  \ في غابات اللون القاتل بسحر\
وعدت إلى قطتي الصغيرة \ التي انتظرتني  فوق السطور \ لتدفىء أحلامها في صدري \
وحدها الضفائر الذهبية لتلك الطفلة \  كانت ترمي بسمة  \للحلم وتنهيدة  قاتلة في الوتين \ بينما راح الغروب \يعبث بالموانئ الراحلة خلف المجاز المشاغب \ والقطة ما زالت تنظرني بعيني الدهشة \تسألني أين \تركت خلفي مواعيد العيد \  أين تركت أرجوحتي الحمراء )
من البين الطاقات الدلالية لتلك المفردات التي ادت وظيفتها في هذا النص بقدرة كبيرة .

ثالثا : توظيف صوت العاطفة
ليس خفيا الرقة العالية التي يتميز بها الادب الشامي بلد الياسمين ، و التي تعكس جمال طبيعة و رقة تلك الاجواء ، و لذلك نجد الادب السوري يتربع قمة الادب الرقيق و العاطفة السيّالة الواسعة التي تتسع الكون  في لوحة وجدانية عذبة يقول محمد الدمشقي :

( أين يكتبنا اللقاء ؟\  نظراتك المكان \و قلبي صفحة محترقة  )

و في مقطع اخر يلهج بالامل و التطلع للحياة الاجمل تحضر التعابير العاطفية في لوحة بوح راقية يقول فيها محمد الدمشقي :
(لو كمَّموا فمَ النَّشيدْ \ سيفرِضُ صوتُ العاشقين كلمتَهُ .. \ سيستعيدُ صداه \و يضخُّ في عروقِ الموتِ لحنَ حياة )
لا ريب ان التوظيف العالي لمفردات عاطفية كالنشيد و العاشقين ادت دورها بشكل تام في تحقيق مظهر عميق و متوهج للصورة  كرمز للرغبة بالحياة و الانتصار على الموت .
 و في لوحة تغني بالمدينة الحبيبة  مع نداء رفيع تقول رشا السيد احمد في دمشق :
(نور في عينيها للعلا يندهني  \كلما لاحت لي بيدها  \نبتت لي ألف يد بحبها تلوح \و ألف فرح  \من عينيها ينبثق غمائم حب تظللني )
 نلاحظ كيف وظّفت كلمة الحب لتؤدي دورها التعبيري الكامل المختصر لكثير من الشروحات ،  و اختصرت مديات واسعة من المعاني و الدلالات .و في لوحة تعبيرية توظف فيها مفردات العاطفة و العشق بشكل عال تقول رشا السيد احمد :
(دمشق \ نيران عشق زهت بأماني عاشقيها مع كل \رقصة صباح ومع كل سمر )
نلاحظ كيف قد ادت تلك الكلمات وظيفتها بكفاءة عالية و توصيلية فذة ، مختصرة مساحة تعبيرية واسعة باحجام دلالية كبيرة .

رابعا :  توظيف الصوت الديني
للمناجاة و التعلق بالمعاني العالية انعكاسة رفيعة في الادب السوري فنجد  المفردات السماوية و العالية تتجسد في اشعار السوريين فبتعابير دينية و سماوية تتجلى لوحة بوح عالية و صادحة لرشا السيد احمد تقول فيها :
(الله يا دمشق \ صاغتك يد الإله في العلا آية \فكيف حدث أنك في سدرة المنتهى ما بقيت
سيدة البنفسج والمرايا الخضر ؟)
 ان فن التوظيف من الفنون الباذخة ، و التي تحقق تكثيفا رشيقا للغة ، و تختصر تراكيب تعبيرية ذات دلالات واسعة ، فيتحقق ربح تعبيري هو احد غايات الكلام ، حيث ان الاختزال و العبارات الجزلة كانت و ما زلات غاية تخاطبية انسانية رفيعة . و في لوحة مفعمة بالمفردات الدينية و الصوفية ترسم رسا السيد احمد عالما  رفيعا اذ تقول :
(أنا بكَ فراديسً حالمة \ وقناديل سماويةً تزهو عاشقة  \ يغيبُ ضياؤها حين يرهِقُها الغِياب\ أنا بِكَ كلُّ تسابيحِ الزَّنابق \كلُّ استغفاراتِ الصَّباح  \كلُّ تهجُّدٍ للشَّوقِ المعتقِ في راحتيكَ )
كان جميلا جدا هذا التوظيف لتلك المصطلحات و مفردات الشعائر الدينية و لقد ادّت وظيفتها الفنية ببراعة فائقة .

و في توظيف نادر لمفردات الطقوس  تقول فيروز مخول :
(تعال نقتسم  \ سحابات الاشتياق  \ نحتل سماء الوله \نمارس طقوس العناق \ نشعل مبخرة القبل  )

خامسا : توظيف صوت الفكر
 العمق الفكري بما له من مساحة معنوية ، يجعل لتوظفيه و الاشارة الى مناطقه المعنوية سحرا دلاليا و جمالية  متفردة ، حيث انه بتلك التوظيفات يحقق سرع كلامية كبيرة  لا تقل عن المجازات العالية ، مع الحفاظ على التوصيلية .  في لوحة تعكس عمق الفكر و سعة البحث  و السؤال  تقول رشا السيد احمد :
(هاودينِي \ مرة لنعبر خلف الحجب معاً \ هاودينِي مرة \لنكون نشوة الكون في المرايا معاً
وأجعلينِي \أطوق الكون ذات يوم لوحة سُكنى )
انه نفوذ الى عمق الحقيقة المتجاوز للحجب و المتسع للكون ، انه طلب اللانهاية المنبثق من فكر عميق و فلسفة بيّنة . و في لوحة اخرى اكثر اتساعا و عمقا تقول رشا السيد  احمد :
(ايتها الروح العميقة الحلم \ عودي هنا من أطراف الأبدية .. حلمك وراء الوجود ...\ لاتحاولي رتق شيء ستتسع المنافي أكثر وأكثر .. )
ان كل كلمة في هذا المقطع قد جيء بها في مكانها ، و قد وظّفت بالشكل الذي لا يمكن لغيرها ان تؤدي ما ادّته ،  و من الجليّ كيف ان هذه المفردات العميقة و الفلسفية قد وظّفت لتؤدي دلالاتها الفنية ، فكان صورة بابعاد متعددة تتجاوز الزمان و المكان .
و في لغة كونية عميقة تقول رشا السيد أحمد :
(لا عجب أن تكون أنت الطوفان الأول \ وأكون أنا الجودي \فكلينا شعلة الكون )
انه الاتجاه  الفائق السرعة نحو العمق الكوني نحو الحقيقة ، بعيدا عن كل مالا يمت للحقيقة بصلة نحو النور ، انها روح لا ترضى الا بالعوالي و الاعماق .