اللغة التعبيرية في ديوان ( موسم البنفسج ) لعفاف السمعلي

اللغة التعبيرية
في ديوان ( موسم البنفسج ) لعفاف السمعلي

د انور غني الموسوي

تمهيد
الجملة اللفظية بما لها من إفادات ، تتّخذ أشكالا مختلفة من التعبير ، إذا ما نظر اليها من جهة الإفادة الإبتدائية و المعنى الثانوي الذي يفهم من معناها الابتدائي . كلّ من هذين المعنيين ، أقصد الابتدائي و الثانوي ، يمكن أن يكون خاصّا و عاما . و من هنا يكون لدينا أربع صور لنظام العلاقة بين إفادة الجملة و ما تشير اليه من عوالم معنوية .
 الاولى : أن تكون الافادة و ما وراءها من دلالات ومفاهيم كلها خاصّة ، فتنتهي الدلالة عند الافادة الابتدائية وهذه ميزة اللفة التقريرية  .
 الثانية : أن تكون الافادة المباشرة عامّة و ما تدل عليه من دلالات ايضا عامة وهذه  هي اللغة  القانوينية التي تمتاز بها الاحكام ، و يمكن بعنصر الخيال ان تصبح فنية .
  الثالثة : وهي الاهم و تكون فنيّة بالدرجة الأساس تكون الافادة خاصة ، لكن دلالاتها عامة ،  وعادة ما توصف بانها إتجاه من الخاص الى العام ، وهي لغة راقية ، تحقّق لذّة جمالية و ايحائية بنغم و موسيقى عميقة .
الرابعة : هي لغة تكون بإفادة عامة الا ان القارئ يسقطها على نفسه وهي لغة عبقرية و عادة ما تكون لغة الحكمة و الموعظة .
إنّ كل لغة مهذّبة تحقّق لذلة ، لذلك لا بدّ من تمييز اللغة الفنية الجمالية وهي الثالثة و ما ينطوي على الخيال ، عن غيرها من اللغات المهذّبة . اللغة الجمالية التي تتجه من الزمان و المكان الى اللازمان و اللامكان ، ومن الخاص الى العام ، هي اللغة التعبيرية ، ولها شكلان مميّزان ، الاول ان تكون الافادة الخاصة بيّنة قريبة مع ايحاءات عامة وهذا هي اللغة التعبيرية القويّة ، الشكل الثاني ان تكون الافادة الخاصة بعيدة متعالية مع ايحائية عامة وهذه هي اللغة التعبيرية الرمزية . في ديوان ( موسم البنسفج) تتجلى اللغة التعبيرية ، بشكليها المتقدّمين ، في لوحات فنية مهمة ، و متميزة ، ومن هنا يكون لدينا موضعان للبحث .
الموضع الاول : اللغة التعبيرية الرمزيّة
في قصيدة (إقحون ) تقول الشاعرة  :
(وتاريخ ولادتي سؤال
ورمل على مشارف القلب
مثقلة شراييني
تعزف وتر ألف عام
وفي كل مرّة أشعل جفن حرفي
عسى أن يقطفني حريق رمش
يزرع الضوء أقحوان(
 المقطوعة مليئة بقاموس من التعابير الخاصّة ( ولادتي ، شراييني ،  جفن حرفي ، يقطفني ) ، الا انها متسيّدة للمجانية ، و ضاربة في الهمّ الكبير ، و الارادة الانسانية الكليةة ،  بضربات تعبيرية تنقل النصّ الى عالم واسع ، انه تأريخ السؤال ، الذات المثقلة بعزف الف عام ، ذات تمتد الى الف عام ، ذات كليّة ،  و في كل مرة دورة و كوكب و اطلالة تنظر الى الشعلة و تطلب الجواب و الخلاص ،  ترنو الى النور الى الضوء .

 و في لوحة ضاربة في العمق ، تتسع لعوالم من المعنى بعيدة ، تقول الشاعرة :
( كلّما اختنق وتر
بجداولي
ولدت أوتار )
إنّها الارادة و الصلابة و الاتساع ، يتجه من الخاص الى الكلي الى الوجود الكلي ، و الابداع الكلي ، الى ذات الانسان التي لا تعرف التوقف ، مهما حلّت فيها النكبة او السكون في جانب ، تفتّقت فيها جوانب عدة نحو العطاء نحو التغيير .

و في قصيدة ( زبد الامنيات) تقول الشاعرة :
( من فواصل الغياب
تقف أنفاسي
تغربل زلاّت السّنين
على أرض الخراب )
في عالم المعاني الخاصة و الذاتيات ، يتجلى الوجود الكلي و الشكوى الكلية انه عالم الغياب ، و زلّات السنين ، و الارض الخراب ، حيث :
 ( تمشي الوعود النّائيات
وهزيع الظّنون
يرّج شهوات القلب
زوابع القسوة تعفّر الرّوح
هاربة... هاربة من عثرات متكرّرات )
انه الخراب من العثرات المتكررة ، و الوعود و الظنون ، انه عالم الخراب و الخواء و الظنون حيث :
( أرتعش في مهبّ الرّيح
وردة تقرّحت أوجاعها
ولسان الحلم بات يقطع خطاي )
في عالم الاوجاع التي تقطع الذات و القلب و الارادة و الحلم ، كل شيء صار في عالم كئيب يقطع انفاس الخطى .

الموضع الثاني اللغة التعبيرية القوية
في فصل  (القرار) تقول الشاعرة :
( حين قررتُ أن أستعيد "عفاف"
نهبتُ ذاكرتي البالية
وأمطرتها زهر لوز
يستحم بروح امراة اغتالت لغة العجز.)
البوح عال و صوت التوصيل رفيع و واضح ،  وسط هذا الصوت و العالم الخاص ، هناك اشعاعات عليا كلية تنطلق نحو العام ، نحو الكلي ، نحو المرأة الكليّة ، بل نحو الانسان الكلي ، و الهم الكلي و الرغبة الكلية ، في نشدان التغيير و تخطي ذاكرة العجز و التأخر و عدم الاقتناع .
و في لوحة شفيف في فصل جفون الكلمات بتعبير رقيق تقول الشاعرة :
( وأحزن إن أغمضت
جفون الكلمات عنّي
فالهوى لا يقبّل التورط
في غياهب العتمة
سأهبُ عمري لرعشة الضوء
في مقلتيك)
 وسط هذا البوح و القصد و العتاب المخلوط بالنداء ، و سط هذا العالم الخاص ، تبرز كليات المعاني في الحب و الشوق و الارادة و العواطف الصريحة نحو المرادات و الرغبات ، نحو عالم واسع من المعاني الكلية .
و في فصل (سنونوة  في لوحة شفيفة من البوح تقول الشاعرة
(ويسرقني ازدحامي...
لأغرق في خاصرة الوجع ...
سنونوةً أهرقها بكر الفجائع...
أتوسلُ صلابتي الموشومةَ بالذكرى
لتنثالَ نتوءاتُ الهزائم على المنحدر)
 وسط قاموس الخصوصية ( يسرقني ، ازدحامي ، صلابتي ، ) و سط عالم البث و الشكوى ، و سط التوغل في الهم الخاص ، تبرز عوالم المعاني الكلية ، انها حكاية الانسان ، حكاية الذات المريدة ، و سط طرق المعبأ بالآهات ، انه عالم الصلابة الدفينة ، و تجلي الأردة وسط الفجائع و الهزائم )
و في فصل ( وجع)  تبوح الشاعر بشكواها
( يرتديني الوجع
والوترُ مكسور...
يا زمن الفجيعة ارحل...
فالروح مزقتها الآلآم ...)
انه عالم الوجع الخاص ، و الانكسار ، و زمن الفجيعة ، و الالام التي تمزق الروح  ، الا انه من هذه الخصوصية تنبثق المعاني الكلية المتجاوزة للزمان و المكان  ،لتمثل الوجع الكلي ، الذات المتألمة الكلية ، لتتمثل عالم الفجيعة الممزق للروح .
و في لوحة رقيقة  في فصل ( حبيبي) تقول الشاعرة
( كلّما حاول الحزن اقتحام حصوني
رسمت ثغر حبيبي
وردة على شفتي )

وسط العالم الخاص من الحزن و من صورة الحبيب و وجوده المزيل لغمامة الحزن ، و سط عالم العاطفة الرفيع و الانس و الابتهاج بالحبيب ، وسط هذا العالم الخاص تبرز المعاني الكلية حينما يصبح الحب و الحبيب رمز العادة و البهجة بوجه زمن الحزن و الالم الاقتحام  و المأساة الكلية .

و في مقطع بثّ و شكوى و ألم رفيع تقول الشاعرة في قصيدة ((وطني الحزين)


(كم يلزمك من زمن
كي تزرعني في أرضك الجدباء سنابلا؟؟
يعلو صوتي نورسة
في كفّ صفصافة واقفة
تأبى الإنحاء...
واضحة في الضباب مواقفي
ومرايا الوقت ذئب مندس
في رداء الشمس )
انها النداءات و التساؤلات و الارادات ، المتجهة بسرعة البرق من الخاص الى الكلي ، الى طلب الربيع في الارض الجدباء لأجل بزوع السنابل و المواقف الواضحة  في زمن الضباب و الذئاب المرتدية لرداء الشمس . في بوح رفيع و صوت عال و نداء .
لقد كانت كتابات عفاف السمعي بحق مناسبة فنيّة فذّة لتكون نموذجا واضحا و رفيعا للغة التعبيرية الموغلة في التوظيف و تعدد ابعاد المعنى و التفلّت من  الزمان و المكان الخاص نحو المجانية نحو العالم  العام ، باتجاه عميق من الجزئي الى الكلي ، بقلب شاعرة مليء بالنظر الى العالم و الانسانية ، حتى ان كلماتها تأبى القرار و البقاء وسط المعاناة الخاصة فتلونها بالوان المعاناة و الرغبات الكلية و الانسانية ، فتكون لسنا الانسان و الوطن و العالم ، بتعابير عالية الدلالة متعددة العوالم ضاربة في تجاوز الزمن نحو عالم مطلق رفيع .