ملامح اللغة القوية عند عيسى ابو الراغب
د أنور غني الموسوي
( لست أحب
الثلج أبدا \ وأحب فيه لون البياض \ فذاكرتي
لا تحمل إلا وجعاً \ حين
منفى في أيّار \ حين
ولدتني أمي في خيمة مشرعة للريح وللبرد \ وكان صراخي يملأ الحي )
عيسى
أبو الراغب
الأساس النظري للّغة
القويّة
قد
يُتصوّر أنّ أساس عملية النقد هو التذوّق ، و هذا التصوّر في منتهى الخطأ ، بل أساس
عملية النقد هو الفهم ، أي فهم لغة المؤلف ، و لكي تستطيع نقد نص لا بدّ أولا ان
تفهم لغته.
ليس
من واجب النقد ان يعلن عن جمالية النصّ ،
بل واجبه أن يجب عن سؤال محدّد : لمَ هو جميل ؟ و من دون فهم لغة النصّ لن يكون جواب
هذا السؤال متيسّراً.
لقد
بينا في مقالات النقد النظري انّ للاستجابة الجمالية مقدار كمي و كيفي . فمن حيث
الكم فان حجمها يتناسب مع البعد و المساحة التي تنفذ اليها الدهشة بعنصر المشاهدة
، فالادهاش المباشر يحقّق استجابة جمالية طولية أي ببعد واحد ، و الادهاش الايحائي
يحقّق استجابة جمالية مستوية اي بشكل مستوي ثنائي البعد ، واما اذا كان
الاستجابة جامعة بينهما فان الشكل الحاصل سيكون مجسما اي ثلاثي الابعاد ، وهو
يتحقق بلغة تجمع بين المباشرة و الايحاء.
واما
من جهة الكيف فان نقاط الاستجابة مختلفة بالنوع وهذا ظاهر . وكما انّ كل حاسّة لها
انواع من الحواس و درجات ، فكذلك الاستجابة الجمالية ، فبينما تحفّز الجمالية
المباشرة نقاطا معينة ـ و الجمالية الايحائية
نقاطا اخرى مختلفة ، فان اللغة التي تجمع
بين الايحاء و المباشرة تحفّز جميع تلك النقاط ، وهنا يبرز السرّ الاعظم للغة
القويّة ، و هو ليس من مجال الدلالة ، لكي يقال بتعذّر الجمع فامّا مباشرة او
ايحاء ، او ان تكون المباشرة طريقا الى الايحاء . بل الايحاء في اللغة القويّة اضاءة
نقاط المعاني و الشعور ، انه الاشعاع ، هو ليس من دلالة لفظ على اكثر من معنى او
دلالة معنى على معنى ، مع انّ هذه اشكال من اللغات الجمالية .
ما
يحصل في اللغة القويّة ان اللفظ يشعّ و المعنى يشعّ ، فاضاءة اللفظ لمعانٍ ليس
بطريقة الدلالة ، و اضاءة معنى لمعنى ليس بالدلالة انما بالاشعاع .
حينما
تصبح الالفاظ و المعاني التي في النصّ كالشمس واضحة مفهومة معلومة و بنورها تنير الاشياء
، فتكون القراءة كضوء الشمس الذي يحرّر الارض قطعة قطعة من الظلام ، هكذا كلمات
اللغة القويّة الفاظاً و معاني تنير عوالم المعنى ، عالماً عالماً كما تنير
الشمس الاراضي المجتاورة ـ بل قد تتجاوزها بان تكسر قيود المكان و الزمان
فتنير البعيد قبل القريب .
تأريخ اللغة القويّة
في
البدء كان السؤال . كيف لشعر معيّن ان يحقّق الدهشّة الجمالية الكاملة ، كيف للغة
المتنبي العظيم و السيّاب و محمود درويش
ان تفعل ذلك ؟
لطالما
علمت أنّ لغة المتنبّي العظيم هي أفضل لغة في
زمن الكلاسيكيّة ، و لطالما علمت أنّ لغة
السيّاب هي أجود لغة في زمن الحداثة ، و لطالما علمت أنّ لغة محمود درويش هي أفضل لغة
في زمننا .
وكنت
أشعر أنّ خيطا قويا يوصل بينها ، من ثم التفت الى تلك اللغة العميقة الموحية و
الحاكية في الوقت نفسه ، التي تجمع النقيضين المباشرة و اللامباشرة. فليس الأمر
جمال صورة فقط .انّه أعظم من ذلك .انّه سرّ عظيم.
اللغة
اما مباشرة حكائية او غير مباشرة ايحائية الا أنّ ما يكتب هؤلاء الكبار ليس كذلك
ليست من اللغة المباشرة و لا اللغة غير
المباشرة ، انّها ليست أيّاً من ذلك لكنّها كل ذلك ، انّها لغة تنفي أيّاً من ذلك
لكنها تثبت كل ذلك. اذن هي لغة النفي و الاثبات ، انها لغة مباشرة و غير
مباشرة في الوقت نفسه ، انّها لغة تجمع النقيضين.
تجمع الايحاء و التوصيل ، تجمع الاشارة و البيان ، فهي في الوقت الذي تقول توحي ، و
في الوقت الذي توحي تقول. انّ هذا الشكل من الجمع بين النقيضين هو الكفيل في
تحقيق الصدمة الجمالية العالية و الابهار و الادهاش الكبيرين .
هذه
هي اللغة القويّة نحسّ بها قريبة و سهلة و
بسيطة، الا اننا نحسّ ايضا انّها غير متناهية
و انّها واسعة و انّها ليست بسيطة . و مع
انّه لا تأجيل هنا ، فكل شيء واضح ، المعاني واضحة ، و معاني المعاني واضحة و ما وراء
ذلك و ما وراء الوراء واضح ، عالم واسع من
الوضوح ، عالم غير متناه من الوضوح ، كل شيء واضح ، لكن في الوقت نفسه كل شيء يتجاوز الوضوح و
البساطة و حدود الفهم ، بسعة تجعل السهولة صعوبة و البساطة تعقيدا ، فيتحقّق
العجز أمامها ، و الاقرار العميق بعلوّها .
يقول
المتنبي
العظيم :
( وهكَذا كُنتُ في أهْلي وفي
وَطَني إنّ
النّفِيسَ غَريبٌ حَيثُمَا كَانَا )
انّها ليست صورة فقط و لا حكمة و تفاخر و تباه ، انّها عالم ثائر
و هائج من الارادات و النداءات انّها اضاءات مساحات افكر الشاسعة . و يقول في بيت آخر
:
أوَدُّ مِنَ الأيّامِ مَا لا
تَوَدُّهُ وَأشكُو
إلَيهَا بَيْنَنَا وَهْيَ جُنْدُهُ
وايضا ليست هنا صورة شعرية فقط و
لا شكوى و لا حزن و حسرة فقط ، انّها
اختصارات و اختزالات لحكايات و مديات و آ مال . و يقول في لغة صادمة لا تتكرر
أنا
الذي نظـر الأعمـى إلـى أدبـي و أسمعـت كلماتـي مـن بـه صمـم
و
يقول السيّاب الكبير مالئاً عالمنا بعالم من النداءات و الالام و الحزان :
( و تنضح الجرار أجراسا من المطر
\ بلورها
يذوب في \ أنين
\ بويب يا
بويب \ فيدلهم في دمي
\ حنين
\ إليك يا
بويب \ يا نهري الحزين
\ كالمطر
)
انّها
ليست مجرد شكوى و صور شعرية و حزن عميق ، انّها عالم واسع من النداء ، و الارادات
، و الحكايات .
و تتجسد هذه اللغة القوية المعطاءة
التي لا حدود لها في شعر محمود درويش الكبير حيث يقول :
(
تعلّمتُ كل كلام يليقُ بمحكمة الدم كي أكسر القاعدهْ
\ تعلّمتُ
كل الكلام، وفككته كي أركب مفردةً واحدهْ
\ هي:
الوطنُ
( ...
انها ليس مجرد اعتراض و شكوى و حزن و الم ، و لا مجرد
صور شعرية آسرة ، بل هي عوالم رفيعة و فضاءات واسعة من النداء و الارادة و الخلاص
. و بهذه المباشرية الايحائية تتكامل لوحة
عظيمة له يقول فيها :
( تُنسى، كأنك لم تكن \ تُنسى كمصرع طائر \ ككنيسة مهجورة تُنسى، \ كحب عابر\ وكوردة في الليل... تُنسى )
هنا
ليست فقط بوح شفيف و حوار رفيع و تجربة متجلية
و صور رائعة ، بل مديات واسعة من المعاني و الهموم و الاحزان متكاثرة .
|
اللغة القويّة عند عيسى أبو الراغب
تتجسد
اللغة القوة بمظاهر خلابة و شاعرية عالية المستوى في شعر عيسى أبو الراغب ، جامعة
بين المباشرة و الايحاء ، بين البساطة و اللابساطة ، بين السهولة و الصعوة ، بين
القرب و البعد ، انها اللغة الساحرة ، اللغة التي لا تترك شيئا من طاقات اللغة .
يقول
في تصوير عال :
( على
مرأى من الله
أكلوا لساني
لم أغنّي منذ زمن بعيد
لست أنا حين مات الضوء في بيت جارنا
كنت
أتوضأ من مزراب البيت الطيني
و أفتح في الظلام شفة لقبلة )
ليس الابهار هنا وحده حاضر ، و ليست التوظيفات و
الصور البديعة وحدها حاضرة ، و ليس البوح الرفيع و الشكوى و لوحة الحزن وحدها حاضرة
، بل يشرق هنا عالم من المعاني لا ينتهي ، ليس له بداية وليس له نهاية ، انه يتمدد في المكان من السماء
حتى الارض ، و في الرؤية من الضياء الى
الضلام و في الروح من الغناء الى الصمت و
من يأس و موت الى أمل و قبلة ) . هكذا اللغة تعبّأ باكبر طاقة ممكنة ، تتوهّج
باقصى درجة ممكنة .
و في مقطع خلّاب أخر يقول :
( لست أحب الثلج أبدا
وأحب فيه لون
البياض
فذاكرتي
لا تحمل إلا وجعا
حين منفى في
أيار
حين ولدتني أمي
في خيمة مشرعة للريح وللبرد
وكان صراخي يملأ الحي )
انها ليست فقط صورة تعبيرية عميقة ، و ليست فقط توظيف ماهر للاشياء الباردة ، انها حكاية برد ،
برد قاتل موحش ، انه عالم من الصراخ و النداء و سط عالم من الثلج )
و
في حوار عميق يقول :
يا
ابي هذا انا
حين اوقفتني الشمس وهي تشرق خارج مدارها
وسقط سهوا في حضن بلاد بعيدة
هذا انا حين نصب الزمان لي كمينا
ونامت عيون الغزالة في الحديقة المجاورة
واكل الناس لسان الالهة القديمة
هذا انا
انعكاس الحياة بعد الموت الاخير
حين اوقفتني الشمس وهي تشرق خارج مدارها
وسقط سهوا في حضن بلاد بعيدة
هذا انا حين نصب الزمان لي كمينا
ونامت عيون الغزالة في الحديقة المجاورة
واكل الناس لسان الالهة القديمة
هذا انا
انعكاس الحياة بعد الموت الاخير
( انه عالم من تداخل الذوات ، و الحواس ، و
الاشياء ، انها النداءات التي تأسر المكان ، توقض كل شبر فيه ، فلا يبقى له حدود ،
انها الحياة بعد الموت )
و في مقطع بلغة عظيمة مكثفة تسبق كلماتها الضوء
يقول:
( يا
سيدتي لا تبحثي عن جسدي ولا عن الأسطورة الساكنة في مداي / فمداي المدينة البعيدة
الحزينة /والكثير يحمل مناديل بللها الدمع
فقط أنا ابحث عن الأسئلة القلقة ورسائل تبحث عن نفسها في دم الشوارع /كل الحواس تندس في الجدار الصامت وترسم جسد أنثى تتمايل في الثلث الأخير من الليل / سأصحو قبل الفجر علني اسرق ما بقي منها قبل أن يفيق الجميع/وأخر سر اتركه شهقة قصيدة دمي . )
فقط أنا ابحث عن الأسئلة القلقة ورسائل تبحث عن نفسها في دم الشوارع /كل الحواس تندس في الجدار الصامت وترسم جسد أنثى تتمايل في الثلث الأخير من الليل / سأصحو قبل الفجر علني اسرق ما بقي منها قبل أن يفيق الجميع/وأخر سر اتركه شهقة قصيدة دمي . )
ليس
هنا بوح فقط ، و لا حكايات اسطورية عن المدينة ، و لا قصيدة موت فقط، انه عالم واسع من المعاني المضاءة و
الحكايات و النداءات و الارادات .
و
في نص مفتوح عالي المستوى يرسم ما لا يرسمه الخيال فيقول :
( لم يكن معي في ليلي إلا حلمي وحقيبة سفر / ورنين لموتى قد رحلوا قبل وقت يكتبون أسماءهم على سطح الماء / وقصيدة تدخل مخاضها الأخير / غريبة كانت تلك الوجوه التي تطل من الجهة البعيدة / ويتقلب جسدي في الفراش وابعد عن حلمي الذئاب / وندخل الامحدود من القتال / وتصبح كل شوارع المدينة مصبوغة بلون احمر / هذا أنا الميت داخل حلمي / السائر على طريق الماء )
انه
السير على طريق الماء ، انه الموت داخل الحلم ، انها اللغة القوية ، اللغة التي تغنّي التي تملأ الأرض بالنداء .
و في مقطع مذهل في تصويره يقول :
(
جمجمةِ الطفل
ذاكرةَ الوجع
في ملح الأرض
وفي الطين
افتح بابك للهزيع الأخير
للغة تتشكل من دهشة الظنون )
ذاكرةَ الوجع
في ملح الأرض
وفي الطين
افتح بابك للهزيع الأخير
للغة تتشكل من دهشة الظنون )
انها
ليست فقط فكرة الحياة ، و لا فكرة اللغة ، و لا فكرة الشعر حتى ، انها عالم اوسع
من الزمان و المكان ، اوسع بكثير ، و اعلى من الشعر و اعمق من اللغة ، انه ينبوع
السحر المدهش ، السرّ الكبير )
و في لغة اشراقية عالية يقول :
( تذكر
سيكلمك الله من فوق سموات سبع
عبر الألواح الممحية
وتعلمك الملائكة اللغة البكر
قبل الذبح
وقبل أن تصل ذاكرة الخيال لعمى الكلمات )
سيكلمك الله من فوق سموات سبع
عبر الألواح الممحية
وتعلمك الملائكة اللغة البكر
قبل الذبح
وقبل أن تصل ذاكرة الخيال لعمى الكلمات )
هذا
ليس شعرا فحسب انه حياة و وجود ، و كيان و انفاس ، في عالم فسيح ، لا تتمكن
الكلمات و اللغة العمياء من تلبية نداءاته .
و في لوحة حلم
خجلة يقول :
كنت
احلم / كما يحلم الذين رحلوا وحين امسكوا خيط الشوق وحاكوا ثوبا يحميهم من صقيع
البلاد
كنت اخجل من أن احلم أكثر من الذين ماتوا حين كان الحلم بيد السلطان
كنت اخجل حين امسك مزامير الآلهة القديمة فتبصق بوجهي
كنت اخجل حين اجلس على طاولة المقهى ارتشف قهوتي في مقهى في وسط المدينة / ولفافة تبغي تحترق أمامي كما البلاد / وأغمض عيوني الحزينة .
كنت اخجل من أن احلم أكثر من الذين ماتوا حين كان الحلم بيد السلطان
كنت اخجل حين امسك مزامير الآلهة القديمة فتبصق بوجهي
كنت اخجل حين اجلس على طاولة المقهى ارتشف قهوتي في مقهى في وسط المدينة / ولفافة تبغي تحترق أمامي كما البلاد / وأغمض عيوني الحزينة .
انه
عالم من البكاء الرفيع ، انه صوت و نداء ، و حمم صقيع و ثلج لاهب . انها اللغة
القوية .انها لغة عيسى أبو الراغب .