لقد بيّنا في كتابنا ( التعبير الأدبي ) أنّ التعبيرية و
رؤية الاشياء برؤية ذاتية خاصة و تعريف العالم تعريفا فرديا لها شكلان مميزان ،
التعبيرية اللفظية و التعبيرية المفهومية ، فبينما تستعمل الأولى – اي التعبيرية
اللفظية – لأجل ايصال اكبر قدر من الاحساس و البوح بواسطة الفردية و الذاتية التي
يلوّن بها المؤلف تعابيره و الفاظه ، فانّ التعبيرية المفهومية العميقة اضافة الى
ذلك فانّه يعمل على اعطاء تعريف و فهم جديد للاشياء . و بينما تكون التعبيرية
اللفظية شكل من اشكال الرمزية ، فانّ التعبيرية المفهومية العميقة هي توسيع للغة و
الوعي بها . و في حين تكون التعبيرية اللفظية توظيفا للعلاقات الموجودة بين
المعاني فانّ التعبيرية العميقة هي خلق لعلاقات جديدة .
نجد التعبيرية العميقة حاضرة في كتابات الشاعرة أحلام
البياتي ، فانّها اضافة الى البوح و تعظيم طاقات اللغة بتعابيرها اللفظية و تراكيبها
النصيّة ، فانّها تعمد دوما الى اعطاء فهم و معنى جديد للمفردة المركزية في نصوصها
و المفردة العنوانية في غالب النصوص .
في نص جعلت المفردة المركزية و العنوانية في نهاية النص
وهو أسلوب من تأجيل البوح ، و المتمثلة في مفردة ( صرخة ) ، فانّها أعطت تلك
المفردة تعريفا شعريا و عمقا معنويا جديدا .
( تجمّعت \ حروف الاختناق \ والقهر
\ زفَر بصدى \ هزّ أركان الجسد ... (
صرخة))
انّ حالة الالتقاط هذه للمعنى العميق
للصرخة و تعريفها شعريا هو شكل من اشكال خلق العامل التعبيري ، وهو الكيان الجمالي
العميق الذي يحاكيه النص ، وهذه تجربة متميزية ، حيث أن اغلب الكتابات الشعرية تحاول
ان تصف و تحاكي العوامل التعبيرية و الكيانات الجمالية العميقة ، اما ما حصل هنا
فهو خلق للعامل التعبيرية و الكيان الجمالي و ابرازه . عملية الخلق هذه و التعبير
عنه بنظام لغوي واضح و مألف حقّق نظام الابتكار اللغوي و الاضافة المعنوية ، مما
يحقّق التعبيرية العميقة .
و بهذا الأسلوب التعبيري العميق ترسم
احلام البياتي لوحة للوطن بفرديانتها و ذاتيتها
( إناء ازدحم بمن فيه فتناثر بأقصى بعد ....( الوطن))
هذا التعبير وهذه
الرؤية الخاصة التي تلبس لباس الفردية و تسقط على الخارج الوان الذاتية ، مع تقديم
فهم و تصور خاص بالوطن يحقق التعبيرية العميق بصورتها النموذجية .
و أيضا نجد هذا الاسلوب و التعبيرية العميقة في تعريف شعري
للخيانة
( ثرثرة كلام، \ قلب معتم ،\ سلسلة
علاقات.\ ( خيانة))
و كذلك تلتقط
الشاعرة المعنى الشعري العميق و العامل التعبيري المحدث و المبتكر لتعريف الحق في
قصيدتها
( دخان \ يتهيكل
\ يرفع اصبعين \ علامة نصر . ( الحق )
انّ هذه الاسلوبية المتميزة و السعي الشعري و التخيّلي لتعريف
المفردات و اعطائها معنى جديد مبتكر ، و توظيف ذلك لأجل القضية و االبوح و ايصال التعبير
الى اقصى درجات البوح ، يجعل هذه الكتابات في مصاف الكتابات التعبيرية العربية
النموذجية ، التي تتجاوز الرمزية و
التوظيف و تتجه نحو الابتكار المفهومي و صنعة المعنى الجديد .