مستويات التجلي

لقد بينا في مقالة سابقة لنا  ان للتجليات الفنية صور اربع ، هي باربعة مستويات و تمثل مراحل تطور الفن من مرحلة ما قبل الحداثة مروارا بالحداثة ثم  بالعولمة و ما بعد الحداثة ثم بعصر ما بعد العولمة  ، متمثلة بالتجلي الوصفي و التجاوري و التداخلي و الشيئي . 
و في الحقيقة ان هذه الاشكال من التجلي غير مختصة بالتجليات الفنية القصدية ، بل انها تجري في كل تجلي انساني  .

ان جوهر عملية التجلي هو تجاوز  حدود الزمان و المكان  المادة و الهيئة ، فالحضور و التشكل يكون للذات و تجربتها ، و ليس من شيء حاضر و قوي سوى الذات بحيث ان كل شيء تصويري و صوري و ظاهراتي يتضاءل و يصغر امام حضور الذات نفسها ، فلا وسائطية و لا طريقية لادراك الذات و تجربتها .
ان المادة و الهيئة و الصورة و التصوير و الزمانيات و المكانيات تنتقل من حالة المبين و الكاشف و الطريق و الدال على الذات و تجربتها في  العمل التصويري  المعهود ، الى حالة من المساعدة و الدعم و المناسبة في العمل التجلياتي .
و رغم قوة و سعة هذه المشتركات بين اشكال التجلي الا انه يمكن بيان صفات تمييزية لكل شكل من اشكال التجلي .
 
1- التجلياية ( اللامادتاية ) الوصفية : بان يكون الاستعمال لمادة واحدة  في عملية التجلي كأن تكون الفاظا او الوانا او غير ذلك من مواد الفنون ، لكنها تصف وتصور و تستحضر العناصر المغايرة ماديا.
2- التجلياتية ( اللاماداتية ) التجاورية : بان يتكون العمل من اكثر من مادة فعلا مع الحفاظ على  تميز كل منها فتتجاور لكن لا تتداخل .
3- التجلياتية ( اللامادايتية) التداخلية : بان يحصل اضافة الى تعدد المواد ، تداخلها و ليس فقط تجاورها . فلا تتمايز .
4- التجلياتية ( اللاماداتية ) االشيئية : و التي يتم فيها تجاوز المادة بالكلية و تتجلى التجربة بذاتها فتكون الصورة بالتجربة ، اي حالة صورة التجربة اللازمانية واللامكانية  ،بدلا من صورة واصف التجربة و الدال عليها المادي الهيأوي الزمكاني المعهود .

قد يستدعي الطلب  الحثيث  اللاواعي التراكمي للنوع البشري للصورة الزمكانية   وجود وحدة صورية ، و مع تعدد المواد يكون من الصعب تصور مثل تلك الوحدة ،  لكن هذا الامر لا يجوز ان يستمر ،  لعدم المبرر  فان الوحدة بالتجربة الظاهرة و بالذات  الحاضرة اقوى من كل وحدة صورية زمانية مكانية  بمادة او هيئة ، انها الوحدة القاهرة الاسمى ، كما ان التجلي ما هو الا حالة من السعي الحثيث نحو التوحد الوجودي ، فالاشياء جميعا تسعى نحو غاية الكمال ، و في كل مرحلة من مراحل هذا السعي تتخلى عن الاختلافات و تعتنق الامشتراكات لان الطرق النهائية نحو الغاية الكمالية لا يمكن ان تكون مختلفة ، لذلك مع الزمن تتلاشيى التميزية و تعظم المشتركاتية ، حتى يصل العالم الى حالة الوحدة   الظاهرية الصورية  ، نحن الان لا زلنا في عصر   توحد  الاشياء  ظهوريا و ليس ظاهريا ، اي ان الذات تحتاج لاجل التجلي تجاوز مظاهر الظاهر الصوري و مطالب وجود العناصر الزمانية و المكانية  ، اما في الوحدة الظاهرية فان حالة التجلي بدل ان تكون   استثنائية  وتحتاج الى ادوات غير عادية تحقيقا و ادراكا ، فانها ستصبح الموجود الحياتي اليومي و العنصر التعاملاتي و الواقعي ، اي ان العالم ينتقل من  التجلياتية التاملاتية  التخصصية كما  عليه  الوضع الان الى  التجلياتية الواقعية الحياتية  كما سيكون عليه وضع البشرية مستقبلا .