جماليات الصورة الشعرية عند سجال الركابي

جماليات الصورة الشعرية عند سجال الركابي
د أنور غني الموسوي

( اِرتبكَ البحر \ لِطَلبي \  موجة عاتية \  تُغرِقُ تردّدكَ \ حفنة لآليء \ ترتّق ريبتكَ \ مالي وللمتردّدين \ سأغمرُكَ \  ببسمةٍ عاتية \ فيهرع الموج \  طالباً  \ طوقَ نجاة )   
سجال الركابي


لطالما كانت الصورة الشعرية شغف الشعراء و المتذوقين ، و لطالما كانت المظهر الأبرز الكاشف عن شاعرية الشاعر و فنيته. و بطبيعة الحال حينما نتناول أدب شاعرة كبيرة مثل سجال الركابي التي كتب عن أدبها الكثيرة، يواجه الانسان صعوبة في ان يحقّق اضافة في هذا الخصوص . الا انّ الامر الذي يسهل المهمة هو التصورات محدثة عن الصورة الشعرية بأنظمة جوهرية كليّة بينا أسسها في أبحاث النقد النظري ،  هي المحتوى الصوري ، و الكيف الصوري و الكم الصوري .
المحتوى الصوري
تشمل أبحاث المحتوى الصوري التناولات الجمالية للصورة ، من حيث التركيب اللفظي و المعنوي ، اي ما يحقق الابهار و الدهشة الذوقية . و شعر سجال الركابي يتمظهر بمحتوى صوري و نظام لفظي و عالم معنوي ثري و خلاب .
تقول في لوحة رفيعة لها :
(دمعتكَ الصامتة  \  عصافير عسلٍ  \  تنوحُ في \عتمة ِ حيرَتي الخرساء )
و في بوح رقيق أخّاذ تقول :
( لا ترمِني بشبكة صيد إنثر توقَك دافِئاً  \ أُغرّد  \ عيونَ نعناعٍ ببحّةِ خَجَل  )

و في لغة شفيفة تقول :
تعالَ نسيماً \ أراقصكَ طائرةً ورقيّة \ أشِدّكَ … نورَ لازوردٍ \ في غيومِ التلاشي )
و في رسم مدهش بمعان و بوح و الفاظ آسرة تقول :
 ( أرسُمُني خطَّ دهشةٍ لعوبفي كفّ ِالرتابة \ أكتِبُني \ .. ... بُستاناً حينَ رمضاء.\..لماذا... ...كلّما رسمتُ قلبَكَ \ إنزلقَ القلمُ \ وانتحرتْ الخطوط...؟... ... سأمحو ما رسمتُ \ أختارُ لوناً... ...\ ليس يُمحى ... بالتنائي )
2-الكيف الصوري
لو انّا جزّءنا الشعر الى وحدات ، لوجدنا تلك الوحدات هي الصور ، و لو تمعّنا في الصور لوجدنها تنتهي الى انظمة لفظية و انظمة معنوية، و ما يميز الشعر عن الكلام العادي انه يبتدع علاقات جديدة بين الالفاظ و المعاني ، و من الواضح ان اهّم ميزة للغة الشعر هي حصول  حالة  تجاوز واعتداء على العلاقة التاريخية المنطقية الكشفية و المرآتية بين اللفظ و المعنى .
انظمة هذا التجاوز و الكسر لهذه العلاقة و الخروج المتعمّد عليها له اشكال متعددة تحدد اسلوب الكتابة ، ويمكن تلمّس ثلاثة اشكال عامة في الكيف الصوري الشعري :
الاول ان يكون الابتعاد عن منطقيّة استخدام الالفاظ غير كبير بمعنى اخر يكون المجاز توظيفي واضح الدلالة و يمكن ان نسمي هذا الشكل باللغة الساكنة و من مصاديقها الظاهرة البوح التوصيلي  .
الثاني ان يكون الابتعاد كبيرا حتى يصل حدّ التجريد و يمكن ان نسمي هذه اللغة باللغة المتعالية و من مصاديقها البوح الايحائي و الرمزية و ومن مخاطر هذا اللغة الغموض .
و الثالث : هو المزج بين الاثنين ، فتظهر لنا لغة متموّجة هي صفة اللغة القوية تتموج بين الرمزية و التوصيلية و هي من اصعب اللغات و أرقاها عندي .
عند سجال الركابي جميع هذه الاشكال حاضرة :
  ففي لغة ساكنة ببوح توصيلي شفيف تقول :
(أروّضكَ ... فتجمح \ الى مسالكٍ خطرة \ أهادنكَ ... فتجنح \ الى شطآنٍ موحِشة... ... ...
أيُّها التوقُ الشفيف \ أراكَ ... لا تركَع... ...\ لازدواجِ اللائحة... ؟؟؟ )
و في لغة متعالية بايحائية فذّة و عمق رفيع تقول :
(ماذا لو...  \ اتكئنا على أحلامِنا \ تبادَلنا أرواحَنا...! \ ضع أساكَ على كتفي \ أَغدِقُكَ غيمةَ بُكاء \ تُزهِرُ سواقي نورٍ...\  بِهمسٍ شفيف \ لكن ... \ الطوطمُ يصفر..\ انتهى الوَقت ...\  موتوا  )
 و في لغة قوية تتموج بين التوصيل و الرمزية تقول سجال الركابي :
( اِرتبكَ البحر \ لِطَلبي \  موجة عاتية \  تُغرِقُ ترددكَ \ حفنة لآليء \ ترتق ريبتكَ \مالي وللمترددين \ سأغمرُكَ \  ببسمةٍ عاتية \ فيهرع الموج \  طالبا  \ طوقَ نجاة )

 من الملاحظة و كما اشرنا اليه في ابحاث النقد النظري ان هذا التمييز لاشكال اللغات انما ينبع من اختلاف الاستجابة الجمالية لها ، حتى انه يمكننا القول ان النقاط الشعورية للاستجابة الجمالية للتعبير التوصيلي تختلف عنها في التعبير الايحائي ، فينما تكون الدهشة و الابهار بنقاط و عوالم التذوق العادية البسيطة  فان الاستجابة للجمالية الايحائية تكون في انظمة وسائطية معقدة ، تظهر حلاوتها و رونقها عند بلوغ اعماق الفكرة و بداعة التعبير ، و ذلك كله يجتمع في اللغة القوية ، بمعنى اخر بينما كل من اللغة الساكنة و المتعالية تحفّز نقاط استجابة مختلفة فان اللغة القوية تحفز الاثنين وهذا مكسب ذوقي و شعوري و امتاعي .


3-الكم الصوري
نقصد بالكمّ الصور مقدار الصور التي تتحقّق في ذهن القارئ اثناء عملية التلقّي ،اي مقدار القراءات للصورة ، اي انها بحث في تشكل المعنى لدى المتلقي ، فلو كان مجال الكم الصوري صغيرا كانت القراءات المتشكلة واحدة او اثنين لا اكثر و تكون اللغة مباشرة ، و اما اذا كان واسعا فانه يكون لدينا قراءات متعددة حتى نصل الى النص المفتوح ، و من الملاحظ للمتتبع ان جلّ شعر سجال الركابي هو من القسم الثاني الايحائي . 
تتجلى اللغة الاولى في لوح بوح شفيف تقول فيها سجال الركابي :
(أروّضكَ ... فتجمح \الى مسالكٍ خطرة \أهادنكَ ... فتجنح \الى شطآنٍ موحِشة... ... ...\ أيُّها التوقُ الشفيف \أراكَ ... لا تركَع... ...\ لازدواجِ اللائحة... ؟؟؟ )
و اما الشكل الثاني فكما قلنا جلّ اشعار الشاعر مثال لذلك و منها مقطع تساؤلي رقيق تقول فيه  :
 ( أيتها الذكرياتُ المستدامة \ الأشذاءُ الصادحةُ برِفقٍ \أيُنيرُ لمعَ البرقِ أصداء الدروب الموحِشة؟ )
و في كتابة تجريبية بعبارات تتخللها فراغات مقصودة  اذ تقول و تكتب :
(أَفِرُّ ... ... \ الى مجرّةٍ أُخرى \ ...بلا جدوى \ أبحثُ... ... \ عن همهمةٍ \كدتُ أن ... لمَستُها )
و اظهر من ذلك في مقطع اخر :
... المواويل تثاءبت ملل تكرار \ دوران\..  ... النبض ... حين تطلُّ ... \  القمر... -لاتشِح نور خدّكَ -\ دوران...\ الترقب بعد-خيبة أمل\ - العقل - حينَ يفكّر بكَ \نهر عطشٍ في جفاءِ ناعور أُمنِيات..)

وهذا الاسلوب يرجع الى التعبيرية الشكلية بتوظيف البصريات ليس فقط لأجل اعمال قدرة القارئ لاكمال البناءات ، بل له دواعي تعبيرية تناغم الفكرة و الصورة فتكون في تكامل معها