تجلّي التجربة النقدية في شعر الشعراء النقّاد


تجلّي التجربة النقدية في شعر الشعراء النقّاد
بقلم د أنور غني الموسوي


( وحده الماء يشبهني  \ والضوء في عتمة الليل \ انا الكلمات عارية تحوم حول الحقيقة \ صوتك يأتي من بعيد \ مع المطر...)
ناظم ناصر


تمهيد

لأجل أنّ في هذا المقال وصفا  لرؤى و متبنيّات فكرية قد أقع في خطأ فهمها عن الكتّاب الكبار الذين ذكرت أسماءهم و آراءهم  ، فانّي قد عرضت المقال على جميع الاخوة الذين تناولتهم الدراسة ، و تمت المقالة وفق تقريراتهم و تأييداتهم و تعديلاتهم بذلك الخصوص ، لذلك لم يكن هناك حاجة للاقتباس من ناحية  الافكار. امّا النماذج الشعرية فاني تحدثت عن ملامح واضحة يجدها القارئ في اعمال هؤلاء الشعراء بأدنى اطلاع و تأمل ، و جميع اشعارهم تصلح ان تكون نموذجا و مثالا للطرح الموجود وللموضوع الكلي التنظيري قيد البحث . فلا مبرر للأطالة في زمن صار لا يحبّذ فيه ذلك.
لطالما علمنا انّ الشعر اعتراض ، و انّه فكر و ليس مجرد فنّ و كلمات ، لذلك قيل عن النقد انه اعتراض في اعتراض . وهذا يشير الى ان عملية النقد ليست فقط قراءة فذّة و لا تفسيراً لجماليات الابداع و لا عيناً عارفة و مميزة . انّ النقد كما الشعر رؤية و ابداع ، لذلك ليس مهما كثيرا ان تسبر غور العمل الابداعي بقدر ان تحقّق القراءة النقدية رؤية متميزة و واضحة تجاه الأدب .هذا الجانب الاشراقي في الناقد يتجلّى بوضوح عند النقاد الشعراء ، لان كتابة الشعر تعني في جوهرها بوح و رؤية ،  وكشف شفيف لعوالم الروح و كسر رفيع لحجب الصمت فيكون مصدرهما واحد .
من هنا كان نقد الناقد الشاعر مختلفاً ، و السؤال هل انّ نقدية الشاعر تؤثّر على كتابته الشعرية ؟ و في الحقيقة لا يبدو جواب هذا السؤال سهلا دون التعرّف على الملامح العامة للكتابة الشعرية للشعراء النقاد ، ووفق منهجنا الاستقرائي و الانطلاق من الجزئي نحو الكلي و من التطبيقي نحو النظري سنعمد الى تمعّن مجموعة كتابات شعرية لشعراء نقاد كنموذج لهذه المعارف و العوالم الابداعية ، سنطرحها بشكل موضوعات انتزاعية ذات تشكّل مفاهيمي مقتربين قدر الامكان من مظاهر تلك المعارف في الاعمال الابداعية و سنقتصر هنا على الشقّ الثاني اي ملامح الكتابة الشعرية للشعراء النقاد ، بل على جانب منه وهو تجلي التجربة النقدية  في كتابات الشعراء النقاد ، اما ملامح الكتابة النقدية لهم فربما ستكون في موضوع اخر ان شاء الله في دراسات نقد النقد .

فكرة الكتابة الشعرية

ونحن نتناول موضوع تجلّي التجربة النقدية للشاعر الناقد  في شعره  ، فانّا نتوخى فيه اعلى درجات الدقّة ، اذ ليس الأمر فقط قراءة جمالية اجتهادية ، و انما تحقيق واقعي في عملية التفكير و ميكانزما الكتابة . و لهذا فانّا سنعمد الى المعارف المطروحة بموضوعية كبيرة ، فحينما تتوفر لدينا ادلة كافية للاقرار بمعرفة معينة حينها ستكون في سياق الكتابة العادية لان الاصل فيها ذلك ، اما اذ بقيت المسألة في حيز الفرضية و لم يكن لها ظهور جيد فانّا سنشير الى ذلك و الى الحاجة الى ادلّة داعمة لها.
و من المعلوم ان الناقد ليس متذوّقا جماليا بأدوات معرفية معروفة ،  او خبيرا بنظرية الأدب و النقد و تطبيقاتهما فقط ، بل هو مفكر صاحب رؤية تجاه الأدب عموما و الشعر خصوصا ، وهذا جليّ في كتابات النقاد و اختياراتهم .بل ان النقد التطبيقي على النصوص هو في واقعه تطبيق لتلك الرؤية و تبيين ملامحها.
و قبل الولوج في الأعمال الفنية الخارجية الجزئية لابد من التأكيد على امور كلية ذكرناها في مقالات لنا سابقة في النقد النظري أهمها  ( جماليات اللغة المتوهجة و قانون الابداع  و تجلي رؤية القارئ في الكتابة )  من اهم تلك الامور :
اولا  : رؤية الكاتب و القارئ عند الكتابة  ، اذ انّا قد بينا في محله ان عملية الكتابة تتأثر برؤية الكاتب بما هو قارئ ، اي انّه يمارس العميلتين معا اثناء الكتابة ، ولان الناقد له رؤية متميزة تجاه الشعر فان عملية الكتابة عنده تخضع لتلك الرؤية النقدية. ومن هنا يكون لموضوعنا   – أي تجلي التجربة النقدية في شعر الشعراء النقاد - وجه واقعية و يخرج عن مجال الفرضية.
الثاني : ان تجلّي التجربة له حضوره الجمالي ، وهو من عناصر الابداع في العمل الفني ، فتتجلي التجربة بشكل طبيعي و مستمر في كل كتابة ، ولانّ تجربة الناقد الأدبية تختلف عن تجربة الشاعر ، و لانّ التجربة تتجلى في العمل كما قلنا ، فانّ حضور صور و اشكال و ملامحة التجربة الفكرية و المعرفية تحضر ، الا انه ليس بالمستطاع تحديد قوة الحضور تلك و شدة التجلي ، حتى انه يمكن القول بامكانية عدم ظهورها او تلمسها كشيء خارجي مميز. بمعنى اخر  انّه رغم عدم انفكاك الكتابة من تجلي تجربة الناقد ، الا انه ليس من الضروري ان تكون واضحة المعالم ، و من الواضح ان موضوعنا هو التجربة المتجليّة واضحة المعالم و البينة الظهور و ليس الحالة الاولى .
الثالث :  وهو الاهم ، وهو كيفية تحقق عملية الكتابة ، و ماهيّة عملية تحقق الانزياح و المجاز و اللجوء الى الايحائية ، و العمق ، وهذه العوامل كما هو معلوم   من اهم ملامح الكتابة الشعرية . وفي الحقيقة  - و هو الواضح لكل من يمارس عملية الكتابة -  انه لا يوجد تصوّر واضح عن كيفية تحقق الكتابة الشعرية ، بل انّ سبب الحاجة الى الكتابة و العوامل المحفزة عليها ايضا يشوبها شيء من الضبابية ، و لذلك لا نستطيع القول ان الكتابة الشعرية عملية فكرية ، بل انّها شيء اعمق من ذلك واوسع ، فالواقع لا يساعد على دعوى خضوع كتابة الشعر لعملية فكرية اختيارية، ولا يعني ذلك ان الشعر محض هذيان او انه بمعزل عن تفكير الشاعر، و انّما يعني ان اسلوب التعبير الشعري ليس له ضوابط فكرية محددة ، و لا يخضع لعملية اختيار في تمظهره  ، وان كان انتقاء الموضوعات و الزمان و المكان و حتى المفردات امور اختيارية ، و مما يؤكد ذلك،  ان لكل شاعر لغته المميزة و ان حصل فيها تطوّر او تغيّر الا ان ملامحها العامة تكون بينة بحيث من السهل معرفة  انتساب المقطع المعين الى ايّ من الشعراء الذين يعرفهم القارئ الخبير و خصوصا في الشعر الحديث.

منهج البحث

 مع انا اثبتنا مبدأ حضور الفكر النقدي في شعر الشاعر الناقد ، الا ان هذه الحقيقة تمنع من الجزم بالحكم بتمظهر و تشكل اختياري لذلك الحضور ، فتبقى تلك الحقيقة في عالم الامكان و الثبوت ، و تحتاج الى دلائل لأجل التصديق و الاثبات.
و من هنا يكون بحثنا في النصوص غير منطلق من حقائق مفروغ منها ، وانما  هو بحث تجريبي استقرائي ، و ربما سيكون هذا البحث من اوضح صور النقد التجريبي الاستقرائي الذي ندعو له .
و لكي يتسم البحث بالعلمية سنعمد هنا الى تناول اعمال كتّاب متفق على تكامل شاعريتهم و نقديتهم الواضحة ، ولنا اطلاع واسع على اعمالهم الابداعية الشعرية و كتاباتهم النقدية ، وهذه الشروط لم تكن اعتباطية و لا مزاجية و انما مهمّة لتبيّن التأثير الممكن للفكر النقدي على العمل الشعري .

تأثّر النوع الشعري بالفكر النقدي للشاعر الناقد

يبدو لي ان هذه المسالة من الواضحات ، و من اللاموضوعية وصف ناقد تذوّقَ الجمال و عرفه ان يتعصّب لشكل من اشكال الكتابة وهو على دراية بجمالية الاشكال الاخرى ، اذن فتبنّي شكل شعري معين ينطلق من أسس فكرية نقدية لأسباب جمالية بحتة .
بينما نجد شعراء دار النقد- قصيدة النثر ،  كناظم ناصر و محمد شنيشل و هشام ايوب  يتصدون للقضية كمنظرين لقصيدة النثر ، نجد  فالح الحجية و ضمد كاظم وسمي يلتزمون كتابة العمودي رغم نظرتهم الثاقبة في الشعر النثري ، بل و النص المفتوح و تعدد القراءات كما عن ضمد كاظم في ( النص و المعنى)  ومع ذلك يصرح انه لا يكتب الا العمودي حاليا  ،  مع انه قد كتب قصيدة نثر و اصدر مجموعة شعرية في قصيدة النثر عنوانها ( طيف الاصيل ) ، و بينما يكون الطبيعي ان يتجه الشاعر من قصيدة الوزن الى النثر كما حصل معي ، فان ضمد كاظم اقتصر على الموزون بعد كتابة قصيدة النثر وهذا لا يمكن رده الا الى الفكر النقدي و الرؤية الخاصة للشعر و جمالياته .
و نجد علاء الاديب و انور غني اللذين يتلمّسان الجمال في جميع اشكال الشعر ، فلا تمييز مدرسي لديهما بينها  ، نجد كلّا منهما يميل الى كتابة مختلفة  ، فيكتب علاء الاديب شعر التفعلية ، و يكتب انور غني الشعر النثري. بينما يتفرد هاني عقيل بطيف واسع من التجربة العملية ، فلا زال يكتب في جميع اشكال الشعر من عمودي و تفعلية و قصيدة نثر ، مع تجربة متميزة  في التوظيف الفني .

تأثّر الأسلوب الشعري بالفكر النقدي

بينما نجد الفخامة اللفظية و سمو التراكيب و المجاز التوظيفي و التوصيلية العالية في شعر  فالح الحجية و ضمد كاظم ، نجد التقنية العالية و الايحائية عند هشام ايوب و هاني عقيل و محمد شنيشل ، وطبعا من السهل ردّ ذلك الى متبنيّات فكرية نقدية .
وبينما نجد الاعتراض الادبي و أدب القضية عند علاء الاديب وهو منطلق من فكرته التي يصرح فيها عن الادب ، نجد العمق الرقيق و اللغة القويّة عند ناظم ناصر و انور غني ، وهو ما يمكن اعتباره  ناتجا من فكرة الاهتمام بما وراء اللّغة و الحديث عن عوالم  و بناءات  جمالية هناك .

تأثّر القاموس اللفظي و المعنوي  بالفكر النقدي .

لا ريب ان كتابة الشعر العمودي أكثر تلوّناً من حيث قاموس المفردات  ، حيث انّ طبيعة الالفاظ تتحدد بالغرض ،  فحينما يكتب غزلاً غير ما يكتب حماسة ، و تلوّن القاموس اللفظي ظاهر في اشعار  فالح الحجية و ضمد كاظم و علاء الاديب ، وهو ايضا مشتمل على تلوّن القاموس المعنوي للسبب ذاته  ، ومع ان هذ التنوع اقل ظهورا عند من يتبنى قصيدة النثر ، الا ان ما يجب تأكيده ان توهّج اللغة و اعطاء الكلمات طاقات تعبيرية اضافية هو من سمات لغة   قصيدة النثر فيكون هذا انجاز حقيقي ، فيكون لدينا قاموس نصّي و مرجعية نصيّة ، و ربما يمكن ردّ ذلك ايضا الى الفكر النقدي.

تأثّر اشكال البوح بالفكر النقدي

من الواجب التأكيد على انّ اسلوب البوح  ، و الذي هو من اهمّ ملامح الكتابة الشعرية ، لا يصحّ ان يؤخذ كوصف كلي للقصيدة ، و انما هو حالة انتزاع مقطعي تشريحي ، بمعنى اخر ان القصيدة الواحدة قد تشتمل على اشكال متعددة من البوح ، ومن هنا يبرز تساؤل مهم في اهمية مفهوم القصيدة ، فبينما يتجلى البوح الومضي المجانّي في اشعار معينة لأنور غني و هشام ايوب و علاء الاديب  و ناظم ناصر ، و بينما تتجلى الوحدة الغرضية في اشعار فالح الحجية ، نجد التزاما بمفهوم القصيدة عند هؤلاء أنفسهم و عند الاخرين ممن ذكرنا ، و ردّ ذلك الى رؤية خاصة و فكرة نقدية ليس أمرا واضحا. وان كان مفهوم القصيدة مهزوزا عندي و الاعتماد يكون في الأساس على الشعرية .
يتجلى البوح التوصيلي عند فالح العطية و علاء الاديب و ضمد كاظم وسمي ، بينما الرمزيّة تأخذ مساحة واسعة عند هاني عقيل و محمد شنيشل و هشام ايوب ، اما لغتي ناظم ناصر و انور غني فتتجلى فيها التعبيرية العميقة ، و في الواقع يمكن اعتبار هذا من خصائص الكتابة الشعرية و مستقلاتها الواضحة ، اذ لا يمكننا تلمّس موارد و مصادر فكرية في نقد هؤلاء في تلك الامور ، ففالح الحجية و ضمد كاظم مثلا لديهم اقوال فذّة في نظرية الادب متجاوزة فكرة البوح التوصيلي ، وتجربة ضمد كاظم في قصيدة النثر التي ذكرناها شاهدة ،  و نجد محمد شنيشل و هشام ايوب بمنهجية واسعة مقتدرة تتسع لجميع اشكال البوح .

الفنيّة  العالية

من الملاحظ على شعر الشعراء النقّاد ، انّه يتميز بالفنية العالية  ، وهذا امر منطقي جدا ، فنجد التوظيفات في غاية الدقّة ، و اللغة مستوفية لأعلى درجات الفنية وهذا شيء نردّه و بشكل جازم الى الفكر النقدي لهؤلاء الشعراء  ، و في الواقع على أيّ شاعر لكي ينتج فنّا حقيقيا مؤثرا ان يقرأ نقداً بقدر ما يقرأ شعرا . هذا و انّ جميع اشعار من ذكرنا نماذج للتقنية العالية و الفنية المكتملة ، الا انّ ذلك يبدو ظاهرا جدا عند فالح الحجية و محمد شنيشل و هشام ايوب .

اللغة الحرّة

ربما يكون هذا الموضوع بخلاف ما تقدّم من انّه يعكس ضعف تأثير الناقد على شعره و اطلاق العنان  للشعرية ، مبحرة في عالم طلِق لا يعترف بشيء و لا يفكّر بشيء ، الا انّ هذا ايضا يمكن ردّه عند التأمّل الى الرؤية . و نجد اللغة الحرّة و كسر النمط واضحا عند هاني عقيل و انور غني فلغة( مواسم الوجع ) الهايكوية لهاني عقيل تختلف كثيرا عن لغة غيرها من الشعر النثري وهذا يختلف عن شعره  الموزون . و لغة ( راعي الغنم ) لأنور غني  تختلف عن رسومات وهذي عن ومضاته . و بينما يمكن فهم ذلك بانه تبدّل بالرؤبة للغة الشعر او سعة التذوق الجمالي ، الا انه يمكن فهمه ايضا بانه طغيان لصوت الشاعر على الناقد .
و في كل الأحوال الشاعر الناقد ليس شاعراً ناقداً ولا ناقداً شاعراً و انما هو شاعر و ناقد ، تستقل الشخصية في الاثنين ،و هذه الدراسة كانت لبيان عملية التأثر ، و ليس بيان خضوع احدهما للأخرى ، لذلك حينما نتحدّث مثلا عن الشاعر ناظم ناصر يختلف عن حديثنا عن النافد ناظم ناصر وهكذا الحال في غيره من الشعراء و النقاد . و الحمد لله رب العالمين
كتب في الحلة بئر العلم في 20/2/2015