نظرية علم الحديث (2)
القطعي و الظني من الاخبار
د انور غني الموسوي
الخبر او النقل
عموما الواصل الى الانسان اما ان يكون
قطعيا او ظنيا من حيث الصدور، و لا ريب في حجية القطعي من النقل ، وهو ما بلغ
النقل فيه حد التواتر الموجب للعلم بصدوره من مصدره ، وهذا ليس فقط من بديهيات
الشريعة بل و سلوك العقلاء الذي قرره الشرع. اما النقل الظني فظاهر سلوك العقلاء و
ظاهر الشرع عدم صحة العمل به و لا اعتماده ، و
من الواضح جدا ان المعارف الشرعية
الثابتة مقررة لسلوك العقلاء في عدم العمل به ، قال تعالى (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا
إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) ، و قال تعالى (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا
) ، و هذا الامر
يرجع الى نظام اصولي عقلائي اكبر هو عدم حجية الظن عموما ،
و الخبر الظني اجمالا هو كل خبر لا
يصل حد التواتر مهما كانت درجة سنده من حيث الصحة .
الظاهر من سيرة
المسلمين و الذي لا يناقش فيه احد انهم في العقائد اصولا و فروعا
و في امهات المسائل الفقهية لا يعتمدون الا القطعيات من النقل ، اما في
فرعيات الفقه فالظاهر اعتمادهم على غير القطعي من النقل بشروط سوف نذكرها ، ولم نعلم مخالفا في ذلك الا السيد المرتضى و
تبعه ابن ادريس الحلي في اعتبار النقل القطعي في فروع الفقه ايضا ، لكن المطلع على
استدلالهم يتبين انهم يريدون الظن المتاخم للعلم الموجب للاطمئنان وهذا هو المذهب
الحق عندنا كما بينا في اصول الفقه .
من هنا يكون بحث جواز اعتماد النقل الظني مختصا
بفروع الفقه غير الاصلية ، اي التفصيلات
التي ليس فيها معارف قطعية عند المتشرعة
للاسباب التي سنوردها . و اما الاعتقادات
الفرعية و السير فلا يصح الاعتماد فيها على النقل الظني لان السبب الاهم و الحقيقي في جواز اعتماد غير
القطع من النقل في الفقه هو العلم الاجمالي بوجود احكام شرعية يجب العمل وفقها ،
وهنا يحكم العقل صراحة بجواز اعتماد الظن
المقارب للعلم الذي يتوفر فيه شروط تخرجه من الظن غير المعتبر ، و من الظاهر ان
هذا السبب لا يجري في اخبار السير و الاعتقادات الفرعية التي لا يقوم عليها الدين
، ففي مثلها لا موجب لاعتماد الظنيات من معارف لعدم وجوب الاعتقاد بها ، و لا وجه حينها للعمل بالظن فيها .و لا ينفع
في ذلك تقليد او اتفاق او غيرها من المبررات غير المفيدة .
العمل بالقطعي من النقل هو من فطريات البشر و لا
يحتاج مزيد بيان ، و في اصول الفقه ابحاث
موسعة تخص القطع لا مجال لذكرها هنا ، و لا ريب ان حياة الانسان و فكره و دوافعه
كلها قائمة على المشاهدات و الواقعيات ، و المعارف القطعية تجري عنده كتلك الظواهر
الواقعية ، و اعتماد الشرع على الواقع و الواقعيات من الواضحات ، وليس في الشرع
مانع او رادع عن هذا السلوك ، فاعتماد النقل القطعي في الشرع مما لا يحتاج الى
بيان .
اما العمل بالنقل
الظني البالغ من القوة درجة الاطمئنان المتاخم للعلم ، فكما بينا لا مجال له الا
في فروع الفقه ، اما في غيرها فلا وجه له
، لان ذلك هو المتيقن من دليل جواز اعتمادها ، حيث ان وجه العمل بها في فروع الفقه
ما بيناه من حكم العقل بجواز اللجوء اليها لاجل التوصل الى احكام شرعية يعلم اجمال
بوجودها مع عدم توفر علم قطعي بها ، و
لهذا السبب ايضا يكون من غير الجائز اعتماد النقل غير القطعي مهما كانت درجته في
الاعتقادات ، و لا في امهات الاحكام الفقهية التي تبلغ حد البداهة في الثبوت .
من المعلوم ان
الموضوعية كلها انما تكون لوثاقة الصدور ،
و لا موضوعية ابدا لغير ذلك من اعتبارات ، فكل ما يبحث في جوانب وجهات اخرى كصحة
السند انما تكون لاجل تلك الغاية و لا موضوعية في تلك الابحاث اصلا انما هي طريق
للاطمئنان بالصدور ، وهذا من الواضحات ، فلا
موضوعية في درجة السند من حيث هي و لا في راو معين من حيث هو ، و انما يلتفت الى
ذلك لاجل كونه قرينة لزيادة الاطمئنان
بالصدور .و من الجلي جدا و الذي لا يصح المناقشة فيه انه لا يمكن اعتماد كل نقل
مسند الى المصادر المعصومة ، فهذا القول ليس فقط مفتقر للعلمية بل و خلاف
الوجدانيات و الفطرة ، و كل ما ينقل من اخبار او اقوال في هذا الشأن لا عبرة بها
قطعا . كما ان الظاهر من الشرع كما اسلفنا هو عدم اعتبار الظن اجمالا ، و الاصل في
الشريعة هو عدم الاعتبار كما بينا . في ضوء كل ذلك و لحقيقة العلم الاجمالي باحكام
لا يتوفر فيها علم قطعي فان الاحتياط العقلائي الفطري يوجب الاقتصار على القدر
المتيقن من المعارف المعتمدة التي تتاخم العلم . اذن المعارف النقلية المعتبرة في
الشرع قسمان ، الاولى المعارف النقلية القطعية وهي حجة في جميع مجالات الشريعة من
عقائد و فقه و سير و الثاني المعارف الظنية المتاخمة للعلم و هي
حجة فقط في المعارف الفقهية التفصيلية ، فلا يصح العمل فيها في العقائد و لا السير
و لا امهات مسائل الفقه الثابتة . و اما غير ذلك من نقل فلا يصح اعتماده في
الشريعة مطلقا .
وهنا نقاط لا بد من
الاشارة اليها :
الاولى : ان الاحتياط
العقلائي انما يكون في عدم اعتماد النقل غير المعتبر مهما كانت صفته او محتواه ، و
ليس العكس الذي يعتقده البعض .
ثانيا : النقل
المستفيض بالعمل بما يوافق القرآن لا بد ان يحمل على ما كان بالغا حد القطع او
الاطمئنان المتاخم للعلم ، وليس كل نقل موافق للقران لان الاول هو المتيقن .
ثالثا : لا فرق في كل
ذلك بين الاحكام الوجوبية و الاستحبابية ،
و ما يقال في التفريق بينهما لا يثبت ، و القول بالتسامح في ادلة السنن لا
مجال له ، و كل ما فيه من معطيات يحمل على ما قلناه من مجيئه في المرتبة بعد
الاطمئنان بالصدور و ليس قبله فهو حاكم عليها و ليست هي الحاكمة عليه .
رابعا : لمقدمية اصول
الفقه للمسائل الفقهية الفرعية فان ما يجري في الاخيرة يجري في اصول الفقه ، لذلك يكون واضحا صحة
اعتماد المعارف المتاخمة للعلم في اصول الفقه وان لم تكن قطعية ، فالقول باعتبار قطعية
المعارف الاصولية لا وجه له ، الا ان الظاهر عدم الثمرة العملية في هذه المسالة
لان الظاهر عدم وجود استحداث شرعي مخصص لسلوك العقلاء الاحتجاجي الذي يحكم اصول
الفقه ، فتكون جميع المعارف الاصولية قطعية في الواقع و العمل .
خامسا : اخبار السير و
الاعتقادات لا بد فيها من العلم القطعي ، و اما غير ذلك فلا يصح ان تكون معتقدا
لان ذلك خلاف الفطرة قطعا ، و ما يظهر من تسطير اخبار في السير في كتب التواريخ او
كتب الاعتقادات المنقولة انما في واقعه معتمد على المعارف الثابتة فيها و ليس هو العمدة كما يبدو ، بل الاعتماد
كله على الثابت القطعي من النقل ، فالمجادلة
لاجل تلك الاخبار الظنية في تلك القضايا التاريخية و الاعتقادية لا مبرر له
اصلا ، فالصحيح في التعامل فيها اعتماد المضامين المستفيضة المختفة بالقرائن
المحققة للاطمئنان بالصدور التي فيها معارف اجمالية قطعية من باب تكامل الاعتقاد و استقراره و وضوحه وهو
مطلب عقلائي مهم لاجل الايمان و الاطمئنان الاعتقادي .
بعد هذه التوطئة يكون الكلام في النقل المعتبر شرعا يقع في موضعين :
الاول : النقل القطعي المتواتر .
الثاني : النقل الظني المتاخم للعلم .