شرفات النور في القصيدة الفلسفية النثرية
قصيدة ( الكهف ) للشاعر الناقد د . أنور الموسوي
بقلم رشا السيد احمد
( الكهف
)
حينما فتح عينيه و أطلّ إطلالته
الأولى ،
رأى خراباً ،
فكتب قصيدةً .
و حينما أطلّ إطلالة ثانية ،
رأى موتاً ،
فتجمًد في صمته الحزين .
و حينما عاوده الوهم ،
أطلّ إطلالة ثالثة ،
حينها رأى أرواحاً هزيلة و عقولاً مظلمة ،
فتلاشى بهدوء .
و لجأ الى كهف يبكي وحده ،
على النقاء الغريب ،
على القلب الغريب .
هناك وحده ينتظر حياة أخرى ،
يرقب جيلا يأتي ،
جيلا يعرفه .
القصيدة الفلسفية
من أتى
أولاً يا ترى لساحة اللغة ؟ هل هي الفلسفة أم الشعر؟ هل سبق الشاعر الفيلسوف أم العكس ؟ أم كلاها
جاءا معاً ؟ أم هما بالأصل شخص نظر للحياة
من بوتقة فلسفته الخاصة , ورؤاه الشخصية بعد تحليل الواقع ضمن إطار معرفي عميق
وجمالي بعيد الرؤى ؟ تحت مجهر فكر شاسع المدى , ينظر للحياة نظرة تحليلية وإجمالية
ويستنبط قواعدها الموجودة أصلاً في الكون . أم هو الشاعر تلك الحالة الوجودية
والخيالية , التي مازجت الحالة الواقعية , بما ملكت من وجدان يملك المساحة
الشعورية الشاسعة بكافة أكوانها المختلفة وفضاءها الكبير جدا ليحاكي الكون
كافة ؟ ويكلم كل شيء حوله بلغته الجمالية , ويصيغ الكون في خياله كما
يشاء
بعد نظرتنا المجملة أظننا ما عدنا نعرف من جاء أولاً ؟ فماذا لو كتب الشاعر القصيدة الفلسفية , أو كتب
الفيلسوف القصيدة بفلسفته الخاصة ستكون معنا من الصورة المجازية المركبة , بكل
رموزها وإيحاءتها وأبعادها ، بالنظر إلى فضاء الفلسفة وإلى فضاء الشعر وإلى فضاء
القصيدة النثرية أجد أن .
القصيدة
الفلسفية , فضاؤها عميق وبعيد جداً ، فكما هو الشعر صفوة اللغة وأعلى عتباتها
, تعتبر القصيدة الفلسفية برأيي هي الأعمق والأبعد للشعر , فماذا إذا كانت هذه
القصيدة فوق ذاك هي قصيدة نثرية تحمل الكثير من الرموز الصورية , والسيكولوجية
الشعرية والإيحائية؟
أن
مدلولات القصيدة الفلسفية تفتح جهات التأويل على اتساعها , وتعطي للمجاز تلك
الصورة الإنسانية الأعمق, التي تُنسج بتأثير من الواقع , مع ذاك الخيال المحلق
بعيدا بأجنحة الذات عبر أفق الكون ندخل لقصيدة د . أنور ، فنجده قد أفتتح قصيدته بعنوان (
الكهف ) وهي فاتحة القصيدة وأن لم يكن العنوان في قصيدة النثر , أحيانا يحمل خلاصة
القصيدة فهو حتماً يحمل الدلالة التعبيرية الواسعة للحالة الوجدانية والصورية لمرمز
القصيدة . " الكهف "
هو تناص ديني خفي يطل علينا , لو ذهبنا في أعماق القصيدة لرأيناه أشبه بعالم خاص
للشاعر , فقد صنع لنفسه عالماً خفيا ، فالشاعر دائما يصنع لنفسه , العالم الذي يناسب
ذاته العميقة فها هو يفر من عالم يملؤه العنف والتدمير , عالمٌ يرفض كل تنوير وإصلاح
ويتجه للدمار والإبادة وذاك بفساد عقول الكثير وضمائرهم وقلوبهم الغُلف التي خربت
المجتمع ، هو إذا كاؤلئك اللذين فروا بدينهم وأعتصموا بحبل الله من ملاحقة
ذاك الطاغية لهم .. وهذا الطاغية هو ذاك الواقع المرّ . انّ المعامل الداخلية
للشاعر تضافرت لتعطينا مجازية عميقة جدا من وحي كتابنا العظيم , أنه تناص ديني
يضعنا فورا ضمن الحدث .
يقول : في المقطع الأول :
( حينما فتح عينيه و أطلّ
إطلالته الأولى ، "
رأى خراباً ،
فكتب قصيدةً " )
وكأنه
أفاق بعد قرون طويلة وهو مجاز يبين مدى التأثّر الداخلي , المؤلم جدا .. أنه
واقعنا المضني ، وكأنّ سنوات الشقاء في
الأوطان , سنوت تعادل قروناً يقول .. بعد أن فرّ من هذا العالم الرهيب , بما حمل
من نور , أفاق علّه يرى العالم قد أصبح جميلا خيِّرا كما يحب ، يرى الوطن كما
ينبغي أن يكون , يرى الناس كما يجب ن يكونوا . فماذا وجد ؟ لقد فتح عينيه ونظر نظرة المشتاق باحثاً عن
السلام والأمن والطمأنينة ، لكنه فوجىء بالدمار بكل ما حوله , فتحرك دفقه
الشعوري متأثرا بما يرى وهذا طبيعي لشاعر , يفاجأ بخراب ما حوله من وطن كبير
, أنها الصدمة غير المتوقعة ، رفضه للواقع
وعزوفه عنه , وتواريه، وحلمه بعالم
جميل بوطن من سلام وبعد ذلك يستفيق على ذاك الدمار حوله لا بد سيكتب قصيدة تصف
حاله وحال الواقع أنها المعامل الشعرية للشاعر التي تعمل على مدار الساعة , للتدفق
بلحظة الاشتعال , لحظة الصفر للانطلاق الهذيان الشعري التلقائي .. حالة تأثرت
فنزفت محلقة بفضاءات شاسعة
لن أبحر بالألفاظ الرمزية بشكل مفصل ما يهمني الحالة الفلسفية والشعرية العميق في
داخل الشاعر .
في المقطع الثاني :
( و حينما أطلّ إطلالة ثانية
،
رأى موتاً ،
فتجمًد في صمته الحزين " )
لقد انتبه , فرأى الموت يأكل كل ما حوله , فراح بصمت سحيق وحزين ، انها
انعكاسات الواقع على الذات العميقة التي تمنح جمالية وعمق للصورية ، فنحن هنا نجد أن
الصورة مشتعلة بالحزن الذي ضج في الداخل , عجزه عن تغير الواقع , وصدمته بواقع
مدمر متشظي .. غير أمن وقلق مؤكد ستؤثر في أعماق الشاعر , فالحزن هو قيمة من القيم
العليا لإنسانيتنا العميقة
كيف سيغير هذا الدمار لحالة جمالية يتوخاها , لكنه لا يملك طاقة سحرية تحول الكون
كما أنتظر أن يكون ، من هنا مؤكد سيركض
الحزن لداخل قلبه ، فرؤية كل تلك الدماء المسفوكة , ذاك السلب للحياة من حوله، كل ذاك لابد أن يجعل داخله يعكس الواقع
بقصيدة تصف الحال الشعوري الداخلي متأثرا بواقع صادم , وتصف ما ألفاه حوله
هذا هو الشاعر المتأمل حين يلمس الكون داخله ، أنها رؤية فلسفية بعيدة توظف الرمز
بحالة قصوى من المعنى لتصوير حالة شعورية تغطي مساحة كبيرة في الداخل , تتماوج ما
بين داخل مشتعل وخارج مستعر .
في المقطع الثالث يقول ..
( " و حينما عاوده الوهم ،
أطلّ إطلالة ثالثة ،
حينها رأى أرواحاً هزيلة و عقولاً مظلمة ،
فتلاشى بهدوء . )
عاوده الوهم , يستفزّه لينظر مرة ثالثة لواقع كسر داخله , هو يريد أن يتأكّد مما رآه
، هل هذا حقا ما يحدث ؟ أنها صدمة المتلقي الكبرى ، صدمة العقل والقلب
معا ً , التي تجعل الشاعر يرفض تصديق ما وجده , فيريد التأكد مما ألفاه ، فأطل
إطلالة ثالثة وهذه المرة رأى أرواحا هزيلة ، الصورة الشعرية عميقة للغاية
فلسفتها الدينية من الرموز المحفوظة في الداخل , رسمت الصورة ومنحتها البعد
الدلالي ، هو رأى من الناس أرواحهم ، الصورة هنا مفتوحة التأويل , قد تكون
أرواحا هزلت من تعب الواقع الدموي المضني , وقد تكون أرواحاً انساقت خلف الظلال
والطغيان ,وحملت في رؤوسها فكراً أسوداً لا يرى بغير الطغيان و التدمير والقتل
طريقاً للحياة
لا شيء يدعوه للبقاء , لا شيء يشعل قناديلا في ظلمة الواقع حوله , لا شيء يبشر بغد
من سلام ، هذا كله جعله كطيف يتلاشى .. جمالية الصورة أعطتها صوفية دينية
كطيف يحضر من عالم آخر , لا يعجبه ما يرى فيتلاشى كخيوط من دخان .
الصورة وقعها في النفس عميق يهز وجداننا
بقوة , هو رفض كلي للواقع الركام ، النفوس النيرة ترفض الواقع الأسود ,
المثقل بالدمار والموت والخراب والحزن , وبكل ما يحطم الجمال الإنساني والمعنوي
داخلنا ..
في
المقطع الأخير , هي تضادات معنوية ومادية بين ما يرزخ داخل قلب الشاعر وخياله وبين
الواقع ، يتابع في لوحة تصويرية كلية , لحال ذاك الذي أفاق من غفوته :
( و لجأ الى كهف يبكي وحده ،
على النقاء الغريب ،
على القلب الغريب .
هناك وحده ينتظر حياة أخرى ،
يرقب جيلا يأتي ،
جيلا يعرفه )
عاد من جديد لكهفه يبكي , حالة شعورية قصوى من الغضب
عجز عن تغيير الواقع صدمة لم تكن بالحسبان , تراجع كرد فعل وراح في نوبة بكاء ..
إنه الإنسان فينا حين يكون حزنه عظيماً تنهمر دموعه غضبا مجلجاً يغسل ما أثقل
الروح
لكنه على ماذا بكى ؟ .. إيحائية ورمزية تتوهج لتعطينا بعدا شعريا فلسفيا آخر ، هو بكى على نقاء فقد من قلوب البشر وكأنه يأتي
هذا النقاء غريباً ويعيش غريباً ويرحل غريباً , صارت القلوب دياجي تتلقفها
دياجي أنه النقاء للقلب المغمور بالنور . أحد الرموز العليا للخير في قلب
الإنسانية .. رمز معنوي يرفض حالة واقعية موحشة ، " القلب " أن الرمز هنا محسوس لا
ملموس لكن منشأه داخل الإنسان والذي يهب لهذا الكون هذه الصفة الرائعة , هو قيمة
عليا في القلوب الخيرة تنعكس على الكون فتحيله جمالاً للحياة ، لقد بكى على قلبه
وعلى كل قلب , كقلبه يأتي لهذا الكون ويستشعر بعدم انتمائه لكون يلفه ركام من
الخرائب الإنسانية . تدمير لكل قيمة جمالية ومعنوية عليا ، في النهاية قرر
البقاء في كهفه ينتظر .. جيلاً يعرف الحق ويؤمن به طريقا للحياة يعرف الخير ويمده
مسافات لها ، يعرف كل القيم النبيلة التي تعيش داخل الشاعر , وداخل كل إنسان
يؤمن بأن الحياة يجب أن تسودها الفضائل الإنسانية ويسوده النور
فهذا الجيل ذو القلوب الداكنة المظلمة , قلوب ابتعدت عن الفضيلة والحق ، لا دخل له
بها
وهو بالتالي لا ينتمي إليها ولا يعرفها , ومن هنا أتى شعوره بالغربة .
نرى أن
مجازات الشاعر استخدمت صورا معنوية تحتوي على قيم عليا , استطاعت بشكل شاسع أن
تستجمع دفقه الشعوري الداخلي وتصبه في تكثيف لغوي كبير جدا و رشيق وسلسل وبنفس
الوقت حمل الرمز الإيحائي الفلسفي الكبير لإعطاء المعنى أبعادا آخرى تفتح آفاقا
شاسعة للمتلقي . فتحيّة لروعة الشعرية .