مظاهر البوح في الشعر الاردني المعاصر
د انور غني الموسوي
( التاريخ يحــــــترق \ مثل مـــــدن بائسة \ مـــرّ \ بهــا أســـــــــراب \ الجـــــــراد \ فلم يجد فيهــــــا \سوى المقابـــــر )
هشام
ايوب
البوح
كشف السرّ، و لطالما كان الشاعر سرّا ، فبوح الشاعر كشف سرّ السرّ ، انه يرى ما لا
يرى و يحكي ما لا يُحكى . البوح جوهر الشعر ، بل ربما يمكننا ردّ الشعر كله اليه ،
فيتجلّى في المفردات في الاسلوب في الموضوعات و في الصور ، بل نجد البوح يتجلّى في
كل فرصة ممكنة . و من هنا يكون من الخطأ جدا تصور أنّ الشاعر يخفي عنا شيئا ، ، ان
الشاعر حينما يكتب فانه ينطلق بأكبر سرعة ممكنة لاجل اكبر قدر من البوح . انّ
الشعر لا يعرف الاخفاء ، و كما انه في مرآة
التوصيل يتجلى البوح ، فانه في اعماق الايحاء
ايضا يتجلى ، فيكون التأجيل من جماليات البوح الفريدة ، اما الغموض و التخفي فليس
هناك ما يجعله من الجمال . ان اللغة المحجبة بالغموض لغة مصطنعة اثبتت فشلها
كتعبير انساني كما انها تعاني من السطحية الفنية . و لا بد للغة الشعر من ان تبوح و
تشير ، و اما التخفي و الاحجتاب و الصومعات فربما هي لغة تجريبية لم تجد ما يساعد
على حقيقيتها ، و شعرية الشعر لا تقتضي ذلك ، و لا تنشد ذلك .
البوح
هو الفضاء العريض الذي تبحر فيه التوصيلية و الايحائية ، بلغة ممتعة و جميلة ، و
لا يجب ان تستمر معاناة القراءة ، و تعمد التخفي المتكلّف غير المبرر ، و الحجب
المصطنعة التي يتوهم انها من صلب الشعرية مجرد وهم ، بل بتجلي البوح و عمق المعنى
و الابهار الصوري يكون الشعر الحقيقي .
البوح
ركن من اركان الابداع ، فاضافة الى الفنية و الرسالية تكون الجمالية هي العنصر
الثالث من عناصر الابداع ، و الجمالية تتمظهر في البوح و التجريد . ان البوح
الشعري يتجلى في التعبير و عوالم المعنى المعبر عنها حيث تجلي التجربة بالرؤية و الموقف . اما التعبير فيكون ملوناً
بالاسلوب و الصور و قاموس الالفاظ و المعاني و التوظيفات . وهنا سنبحث أساليب البوح في الشعر الاردني المعاصر باعتباره عنصرا جماليا
مع نماذج تتجلى فيها اشكال البوح .
البوح التوصيلي
هناك
دوما مساحة منطقية بين المعنى و الصيغ المعبرة عنه ، حينما يكون خط التعبير مستقيما
و من دون واسطة يتحقق التعبير التوصيلي ، فيكون الظهور للمعنى ، و لهذا الاسلوب
وظيفيته و مناسباته و اهمها ارادة البيان،
و توصيل الوجدانيات دون تأجيل و الاقتران
بالموسيقى الشكلية .
يوسف
العلي الذي يختصر فكرة البوح الشعري في مقولة له
(أنْ تكونَ شاعراً ..يعني أنْ يُصفّقَ النّاسُ لبكائك( !
نراه يحلّق في مقطع شوق بهي رقيق اذ يقول :
(وحيداً \ على ضفّةٍ في خيالي .. \ تمرُّ عليَّ الدّقائقُ كَسْلى \ كأنَّ الزّمانَ توقّفَ \
في ذروةِ الاشتياقِ !)
في ذروةِ الاشتياقِ !)
وفي لوحة رقيقة وجدانية
يقول صيام مواجدة :
(لم تُفْلِحْ \
كُلُّ حُروف الجرِّ \ بجرِّي
\ في جدولك الـمُنْسابِ \ لم تُفْلِحْ \ كُلُّ حُروف
النَّصْبِ \ بِتَنْصِيبي \في ساحة قلبٍ أغْرى بي )
و يقول سيد
اللغة الايحائية هشام ايوب في بوح رقيق توصيلي
:
(
ارتطم الجسد \ المحترق \ بآخر الكلمات \ من فضلك لا تبعثري \ أحلامي )
وفي لغة عميقة تتجلى فيها التجربة يقول عاطف الحاج :
(حتى
في الأساطير، \ وعند آلهة الابتسام، \ وحوريات البحار
الضاحكة،\ حتى في الأحجيات والألغاز، \ لم يبتسم
يوماً \غريق!! )
و في مقطع يتجلى فيه الحنين و الاعتراض الشفاف تقول
نبيلة حمد :
( أحنّ لنفسي التي في السَّراب
\ بنت أمنياتِ الحياة الهنيَّة \ وخالت بأن الوفاءَ يضيء \ ظلام النفوس ويردي الدنيَّة )
و في تساؤلات عميقة و
شكوى يقول مختار العالم :
( هلْ
تسمعوا؟ \ أمْ أنّكُمْ أمواتْ؟! \ خرٓقٓ النداء صدورنا \وطبقة الأوزون خرّت
في البكاء )
و في بوح عميق و اعتراض رفيع يقول سعيد يوسف
(أَوْرَاقُ
هَذَا الزَّمَانِ صُفْرُ // وَمَاؤُهُ مَالِحٌ وَمُرُّ )
ونجد نضال برقان في بوح حواري تساؤلي يرثي الواقع المر
يقول فيه :
(هل سنهربُ؟ قلتُ \ إلى
أين؟ قالت \ - إلى حيث لا يقتلُ الناسَ ناسٌ \ أنا لن أغادرَ، قالت \ وراحت
تفتّـشُ عن موتها، في الزحام، )
البوح الايحائي
لا
بد من التأكيد ان اهم انجازات الكتابة الادبية الحديثة هو ترسيخ اللغة الايحائية ،
،
و كما ان للغة التوصيلية مناسبتها و وظيفتها فان للبوح الايحائي وظيفته ، و بينما
الابهار قريب و الدهشة متناولة في البوح
التوصيلي فانه عميق و متوهج في البوح الايحائي .
و
في الوقت الذي يحقق البوح الايحائي جمالية اسلوبية فانه ايضا يشير الى مناطق ذوقية
عميقة ، يمكننا و بالتتبع للنماذج القول ان مواطن تذوق اللغة الايحائية مختلفة بعض
الشيء عن مناطق التذوق للغة التوصيلية ، لذلك و بينما تتربى الذوقية التوصيلية بشكل
عادي و طبيعي عند كل انسان ، فان الذائقة الايحائية تحتاج الى تربية فعالة، و سيجد
من تنضج عنده تلك الذائقة بداعة و جمال اللغة الايحائية و الشعر النثري بالخصوص .
في
لوحة تعبيرية ايحائية تندب الخواء و الواقع المرير يقول هشام ايوب :
( أسراب النحــــــل \ تهاجـــر \آخر الربيـــــــــع \ لتتجمد \ فوق
مرتفعـــات \ الصقيع*** التاريخ يحــــــترق \
مثل مـــــدن بائسة \ مـــر \ بهــا أســـــــــراب \ الجـــــــراد \فلم يجد
فيهــــــا \سوى المقابـــــر )
و في لوحة فذة ترسم العجز المرير يقول هشام ايوب
:
( فاشلــــــــــة أنتِ \ في رســــــم الشفــــاه
\ في رســــــم خط\ الحيـــــــــــــــاة \ صورة أحاديّة اللَّوْن \ رمادية )
و في مقطع تعبيري عميق يقول يوسف العلي :
(الدّموعُ : ما تبخّرَ منّي \ ولم تحتضنهُ السّماءُ \فسالَ على زجاجِ عيوني ! )
و
في لغة تعبيرية عميقة يقول :
(
العِطْرُ وقودُ الحَنين \ إنّني أحترق \وهذه القصائدُ \ ليستْ سوى رمادي ! )
و
في بوح تعبيري عميق وخيبة امل و انكشاف حقيقة يقول نضال برقان :
(السماءُ
التي عكستْ ضوء أسمائِنا انكسرتْ فجأةً مثل أكذوبةٍ دهمتها الحقيقةُ لكنَّ
حرّاسَـها لم يكونوا كما زعموا طيبين هم، الآن، حرّاسُ سوآتِهم الخرابِ الذي بيننا
والصدى. )
انّ
البحث في جوانب البوح الفني اضافة الى الاسلوب ، يتضمن البحث الصوري و تجلي التجربة
و قاموس المعاني و الالفاظ و التوظيف ، و رغم ان ما اشرنا اليه يكشف عن كثير من
هذه الجوانب الا انها في حقيقة الامر تحتاج الى ابحاث مستقلة مطولة سنعمد الى
بحثها في المستقبل ان شاء الله .