د أنور غني الموسوي
لا يمكن لاحد انكار النقلة التي احدثتها الرومانسية في الكتابة الادبية من
المادية البلاغية للادب الكلاسيكي الى فضاءات اوسع و اكثر حرية و عمقا ممهدة لعصر
الحداثة ، لكن في الخمسين سنة الاخيرة نجد عودة الى المادية الادبية و خصوصا على
ايدي الاسلوبيين ، و جعل الكتابة ممارسة مادية خاضعة لامور وصفية و تجريبية و
عناصر ظاهراتية ، و ما كان التعمق في عوالم المعنى و الدلالات الا امرا هامشيا لا
يناسب سعة الادب و الظاهرة الابداعية .
لقد كانت البلاغة شكلا واضحا للمادية الادبية ، و بمظاهر عالية التحديد و
التجريب ، و حينما ارتفع صوت الرمزية ، مالت الكتابة و القراءة معا الى المعنويات
و الخيال و تعالت المثالية الادبية و صارت المفاهيم الظاهرية اقل و ضوحا و فضفاضة
في كثير من الاحيان ، الا انها انتهت الى
عقلنة الظاهرة الادبية في المناهج الظاهراتية و الوصفية من البنيوية و مابعدها
وخصوصا الاسلوبية .
المشكلة الاهم في النقد الاسلوبي كما هي في البلاغة انها تعتبر البعد
الشعوري للتجربة الادبية علامة على الادب و ليست منه ، بمعنى اخر ان الاسلوبية قد
اوغلت في المادية الادبية ، حتى اهتمامها بالتصور القراءاتي فانه لم يكن متطورا و
كافيا .
ان في الوضع غير المستقر للاسلوبية مجموعة مظاهر انفتاحية تتوسع باتجه
عوالم كتابية و قراءاتية اكثر سعة و عمقا و حرية ، يمكن ان تمهد الى حالة من
اللامادية في هذا البناء ، و هي حقيقة ان للكتابة بعدين و ليس واحدا ، فظاهرة القراءة لا تقتصر على البعد
الدلالي ، بل هناك بعد اخر هو بعد الاستجابة الجمالية .
و يمكن بيان هذين البعدين في اربعة مستويات ظاهرة في القراءة ، المستوى البصري
الكتابي و السمعي اللفظي ، و التصوري
القراءاتي ، و الشعوري الجمالي ، و من الواضح ان الثلاث الاولى هي من البعد
الدلالي ، و الرابع من بعد الاستجابة الجمالية . و من الواضح ان المستوى الرابع لا
يمكن تفسيره ماديا و ظاهراتيا . اضافة الى ذلك هناك وسائط نقل و معادلات انتقال
بين الدال و المدلول و الاستجابة ، هذه الوسائط غير مبينة ماديا و ظاهراتيا ،
بمعنى اخر انها ايضا لا يمكن تفسيرها ماديا .
ان مستوى الاستجابة الجمالية و وسائط الانتقال بين المستويات من المظاهر
المهمة التي تعارض النظرة المادية و الظاهراتية للاسلوبيين و ما بعد البنيوية . من هنا يكون واضحا الحاجة الى فهم اخر القراءة
يتجاوز حدود المادية و الوصفية نحو فضاءات
اكثر حرية و سعة ، تتناسب مع التجرية الجمالية لدى كل انسان مهما كان بسيطا . ربما
تكون هناك حاجة الى نقد ينطلق من نظام مركب
من مستويات متعددة ، مستوى الكتابة و مستوى القراءة و مستوى الاستجابة
الجمالية ، من دون تفكيك او تمييز ، بل كلها متواجدة في نظام موحد يمثل التعبيرية
من جهات متعددة و ليس فقط من جهة الكتابة ، بل
اضافة الى التعبير الكتابي فهناك
التعبير القراءاتي و التعبير الشعوري الجمال الادبي ، فتفهم القراءة على
انها تعبير كما الكتابة تعبير و الاستجابة الشعورية تعبير ايضا . و يكون البحث
الموضعي في كل جزئية نصية انما ينطلق من ذلك النظام ، هكذا فهم يمكن ان نصفه
بالفهم التعبيري للادب ، و مقدمة لنقد يتجاوز الاشكلات الحادة في النقد الاسلوبي و
ما بعد البنيوي الظاهراتي المادي .