جماليات اللغة المتوهجة

لقد بات راسخا عند المشتغلين في الفنون الادبية شكل فني من اشكال اللغة هو اللغة المتوهجة . و رغم الحضور القوي لهذه اللغة في الشعر المعاصر ، الا ان النقد الادبي لم يبذل الكثير في بيان ملامح تلك اللغة و جمالياتها ، و ظلت في كثير من جوانبها تحت الاوصاف الفضفاضة و غير المحددة . لا ريب ان الاشارات الى انها لغة التكثيف و الادهاش و القراءة المتعددة كانت قريبة الى عالمها الواسع ، الا انه لاجل التطور اكثر فيها ، لا بد من بذل جهد اكبر في هذا الاتجاه
ربما المتابع للكتابات الادبية المعاصرة يرى ميلا نحو البوح و تراجعا في التوهج اللغوي ، طبعا هذا الامر مفهوم جدا ،  و كان لاسباب اولها ما تمر به المنطقة العربية من هجمة اجتماعية و سياسية و تغيرات و اختراقات تستنهض الهمم و تدعو الى البوح و الصوت الجهوري الخطابي ، لكن هناك عامل اخر هو تاخر النقد تجاه اللغة المتوهجة ، و عدها لغة المثقفين و النخبة ،  من دون تقديم نظرية متكاملة عنها ، تمكن من تطوير المتلقي العادي ، و توسع جماهيرية هذه اللغة ، التي هي بحق من اعظم انجازات الانسانية في عصر الحداثة .خصوصا بعد ظاهرة العزلة الجماهيرية للنصوص الادبية مما ادى الى تراجع في نتاجات اللغة المتوهجة .
لقد نال اللغة المتوهجة شيء من الظلم ، بجعل الواجهة و الممثل الرسمي لها هو لغة الهذيان و الانثيالات و اللغة التجريدية و الغامضة ، و الامر ليس كذلك ، ان اللغة المتوهجة لا تتعارض ابدا مع التداولية و التعاونية ، و يمكن تحقيق الادهاش و التكثيف مع تحقيق مقدارعال ايضا من الجماهيرية . و لو تلمسنا الجماليات الحقيقية و الجوهرية لتلك لغة لوجدنا الرسالية و الاستجابة الشعورية من مقومات الابداع فيها .
لقد بينا في مقالات سابقة ان الابداع اللغوي قائم على ثلاث ركائز ثابتة هي الشعرية و الجمالية و الرسالية  ، تحقيق مقادير عالية في تلك الجهات يحقق لغة فنية ابداعية متميزة ، و تحقييق شكل معين من الشعرية و الجمالية يحقق شكل اللغة المتوهجة .

الشعرية تبرز في مجال المجاز و الخيال و الموسيقى و الصورة ، اما المجاز فان المجاز العالي اي الانزياح الكلي في جميع المكونات و ليس الاقتصار على المجاز المفرداتي من صفات اللغة المتوهجة . و اما الخيال فان خيال اللغة المتوهجة يكون بالعيش في لغة الحلم و ليس تحقيق لغة الحلم فقط ،و اما الموسيقى فانها تحقق الموسيقى العميقة و تناغم النقاط الموسيقية العميقة .و اما الصورة فهي صور الكلمات السريعة ، و نقصد بها تحقيق لاالفة تجاورية بين الكلمات تفوق سرعة البناء التلقياتي و المنطقية النحوية و اللغة فائقة السرعة  هي من اهم مميزات اللغة المتوهجة .
اما الجمالية فعناصرها التصوير و التجربة و الاستجابة الشعورية ، اما التصوير فالكم الصوري تعددي في اللغة المتوهجة اي انه نص مفتوح على قراءات متعددة ، و اما الكيف الصوري فهو ايحائي  و اما المحتوى الصوري فقد بينا انه من اعلي مستويات الاالفة و اللامنطقية الى تصل حد التجريد احيانا . و اما التجربة ، فالكم التجربي تجلياتي يكون للذات و التجربة حضور و ظهور و هذا صفة للغة القوية عموما و منها اللغة المتوهجة ، و اما كيف التجربة فانه وسائطي لامباشر يحتاج الى اعمال ادوات التلقي  حتى يصل الى الابداع القراءاتي و اكمال الفهم بمعونة المتلقي و هذا في الحقيقة من مميزات النص المفتوح الذي يصبح فيه القارئ مبدعا و ليس متليقا فقط وهذا الفهم المعاصر جوهري جدا في تطور الفكرة الانسانية عن اللغة الفنية ، و اما محتوى التجربة فهو ينزع نحو المعاناة الجمعية و العميقة نحو الاممية و  الانسانية و الكونية مبتعدا عن الشخصنة .
 و في ما يخص الاستجابة الشعورية  فمن الواضح ان اللغة الايحائية   تعتمد الاستجابة الشعورية العميقة ، متجاوزة الهزة الشكلية الخطابية ، بمعنى انها لغة كتابية ، فان اللذة العميقة المعرفية و الشعورية هي التي تمثل النظام المشاعري في الاستجابة للغة المتوهجة ، انها لذة من الاعماق وهذا لا يمنع من لغة متوهجة خطابية .
واخيرا الرسالية ، فان رسالية العمل الفني تكمن في الرسالية الجمالية و الرسالية الجماهيرية ـ و الرسالية الجمالية تتحق بتقديم نموذج عالي المستوى من الفنية و التقنية ، حتى يتوج بالتجديد اللغوي ولا توجد لغة نعرفها الى الان تقبل التجديد و التجريب القصدي الابداعي كاللغة المتوهجة لذلك نرى بوضوح تسارع و تكاثر و تشعب اساليب اللغة المتوهجة ، و اما الرسالية الجماهيرية  ، فان تحمل المعاناة الانسانية و تمثل الامة و النوع جزء مهم من الرسالية ، و اما التداولية فانها ايضا من المطالب الجماهيرية ، الا ان ذلك لا يعني التنازل عن المستويات العالية للكتابة لاجل التوصيل الى جميع الشرائح ، فان هذا ليس امرا معقولا ، بل ولم يكن يوما مطلبا فنيا على مدى العصور ، لكن في زمنا الحاضر الذي تتداخل المعاناة و تتعاظم فان الواجب على المؤسسات الانسانية و الدولية من تطوير القارئ و المتلقي و اشاعة الثقافة بدل مطالبة الادب بان يكون بلغة حياتية يومية و خطابية طاغية ، اي بدل ان نجر اللغة نحو عالم الابتذال فالافضل ان نحلق معها في سماء الابداع ، و من المهم ارجاع هيبة الكتابة و دورها القيادي في المجتمع و ازالة جميع حجب العزلة المفتعلة بين الكاتب و القارئ بل بين الابداع و الناس عموما ، و التي تبدو احيانا مفتعلة .
لا تكمن اهمية اللغة المتوهجة في انها لغة فنية جديدة و متطورة ، بل لانها تمثل انجازا انسانيا حضاريا يواكب التشكل العالمي للانسان العالمي ، المتجاوز للحدود المكانية ، لذلك اذا ما بقي النقد المحلي متاخرا فان التبعية ستكون هي النتيجة الحتمية ، وهذا سيؤدي الى صياغة ثقافة و رؤية تابعة الى ما ينتج في الخارج ، فلا بد من الانطلاق من خلال المصاديق و الجزئيات للتعامل مع النظريات العامة ، فانه العمل الحقيقي الذي يجعل الثقافة المحلية محصنة و فاعلة في صياغة ثقافة عالمية ملائمة .