من الشك التفكيكي الى اليقين التجلياتي

 من الظاهر لكل متابع لما تطرحه فكرة القراءة التفكيكية ،لا يجدها الا عبارة عن تكلفات و افتعالات  و اوهام ، التي لو سئل عنها كاتب النص الاصلي فضلا عن غيره لما استطاع ان يتيقن وجود ما قيل في نصه من قبل الناقد التفكيكي ، ان انطلاق التفكيكية من فكرة الشك و  عدم التصريح و تاجيل البوح و ان النص يخون مؤلفه و غيرها من الابتعادات عن الفطرة و السلوك السوي للانسان القصدي ،ما هو الا سير في الظلام  دون هدى ،  ان هذا الانحطاط في القراءة و التلقي اسبابه مفهومة و هو نابع من الانحطاط العام في الاخلاقيات العالمية و سيادة النفاق و الكذب و الخيانة و الوهم ، اذ لا ريب انا نعيش في عالم منافق و خائن يقول ما لا يفعل و يفعل ما لا يقول ، لكن هذا لا يعني ان  ان كل خطاب  يكون قد بني على النفاق و الخيانة.
ان ادعاء وجود دلالات و بوح و اشارات مغاير لقصد الكاتب و على الضد من  قصده نتجت بلاوعي  رغما عنه و غير ذلك من الادعاءات و راء ما يمكن تلقيه على خلاف الظاهر الذي يفهمه  المتلقي على اختلاف مستوياته ، و غير مرتبط بقصد الكاتب  هو ادعاء لا يصدقه الواقع بل و يكذبه . و من الغريب ان هناك من يريد ان يقنعانا ان الانسان مهما كان صادقا فانه بلاوعي يكذب و ينافق و يقول غير ما نرى و نفهم و ان نصه يفضحه و انه ليس امامنا سوى الشك ،.طبعا لو سحب هذا الكلام على النصوص الدينية فانه سيحل الخراب في فهمنا لها و يحل الشك المريع في اليقين بالغيبيات و الذي هو من اهم ملامح التفكيكية . و مع ان  هذا الفهم الذي تتبناه هذه الحركة  ليس له واقعية فانه ايضا يعتمد على نزعة عدائية مستشرية عالميا تجعل من كل تلك الادعاءات مقبولة بسبب الواقع العالمي المنافق ، ان هكذا قراءة تجر العالم و الانسان الى مستويات اكثر كذبا و وهما و تؤسس و تشرعن لعدم الوفاء و لعدم الاخلاق.
كل ما تقدم مع اهميته المعرفية و الانسانية الا ان ما يخص النقد الادبي فان التفكيكية تمثل اعلى درجات اللاعلمية ، و تقدم النقد كعملية جمالية ، وهذا الفهم وان كان مغريا في ظاهره الا انه خلاف مقاصد النقد ، و من يصر على ذلك فليسمي هذا العمل بشيء اخر غير النقد . ان العملية و الواقعية و المصداقية و الحقائقية من الغايات المتاصل في النقد ، بل ان اسمه و مفهومه  قائمان على ذلك و مشتقان من تلك المفاهيم . هذا من جهة و من جهة اخرى فان  التفكيكية لا تقرتب ابدا من جماليات النص الابداعي ، فانها كما هي اختها البنوية لا تتجاوز حدود البوح بالصورة ، و لا تتفهم عمق الانظمة و الوجودات الفنية و الجمالية  المتجاوزة لذلك المجال  ، و طبعا سبب ذلك مفهوم لان اصل تلك الحركات   لغوي متاصل فيها المطالبة بالتوصيلية و البوح ، بحيث لا يفهم العمل الانساني الا باعتباره عملا توصيليا ، و خير دليل على ذلك ان التفكيك لم تتجاوز ابدا حدود الكتابة  كموضوع لها

يقول مجدي ممدوح  2011  ) شبكة الادب و اللغة )  لقد تجاوز النقد التفكيكي الدراسة النقدية التقليدية وطرح ما يسمى بالنص النقدي الذي أصبح له كينونته المستقلة عن النص الإبداعي ، في بعض الأحيان ربما يلجأ الناقد التفكيكي إلى تأسيس نص شعري  -  الى ان قال  - فالممارسة التفكيكية قد ذهبت بعيداً في تجاوز النصوص الإبداعية حتى أصبح من العسير على المبدع أن يتعرف على نصه الإبداعي داخل النص النقدي ، وكأن النص النقدي يتكلم عن نص آخر لا علاقة له بنصه. ) هذا الكلام واقعي جدا و هو يشير  الى ان التفكيك ليس قراءة و انما ابداع نص جديد ،  كما انه يشير و بصراحة في نهاية كلامه الى الوهم و الادعاء و الابتعاد  في مثل هكذا ممارسة .
من الغريب فعلا ، اعتبار ان العمل الفني مجرد عملية بوح ، و قد قلنا ان ذلك ايضا من المصائب التي خلفها اقحام اللسانيات في النقد الادبي ، و مطالبتها المستمرة بالبوح و الحكاية و التوصيل ، لكن كلنا يعلم ان الامر ليس كذلك ، العمل الفني منظومة عظيمة من الانظمة و الكيانات و الجهات و الابعاد ، و الكل فيها يسعى نحو اكبر قدر من الظهور . ان غاية اكبر قدر من الظهور و الحضور ، هو نزعة فطرية و صفة متاصلة في كل شيء ، كل شيء في الوجود يتجه و بقوة  نحو التجلي و الظهور و الحضور و التاثير ، و عندما يكون لدينا نظام  مكون من اطراف متعددة ، تشكل كيانات محتلفة فان جميع تلك الاطراف و جميع تلك الكيانات تميل و بشدة نحو التجلي و الظهور . وهذا هو الاساس الفكري للجمالية التجلياتية ، التي تؤمن ان سر عظمة الابداع  انه فضاء لتجلي ذوات اطرافه التي يكون بها ، ان العمل الفني اللغوي مثلا هو فرصة و ساحة لتجلي ذات الكاتب و لتجلي ذات القارئ و لتجلي عالميهما و موروثيهما ، و تجلي الزمان و الحاضر و الماضي و  المكان  ، و تجلي اللغة   الكلمات و  الحروف ، و  شكل اللغة و  عمقها ، كلها تتجه نحو  الحضور الصادق و التاثير الصادق . ان هذا الذي نراها   هو الموافق فعلا لما يحصل  من حضور قوي  للعلم ، و العلم ما هو الا اداة   التاثير  ، ان القراءة التجلياتية تؤمن ان هناك عوالم و فضاءات و بناءات خلف الظاهر ، الا انها ليست على خلافه لان ذلك خلاف الفطرة و السلوك الانساني السوي و خلاف اصالة الصدق و الوفاء ، بل انها تكون به و تتحقق به وهو نور  يرشد اليها .ان في القراءة التجلياتية يكون النص نور على نفسه  ، انها بناء  على بناء متواصل و متوسع اشعاعي ،  يكون محور الجميع الصدق و الوفاء و التعاون لاجل وجود اكمل و ظهور افضل ، .و لو راجعنا وجداننا نجد ذلك  هو الراسخ و  هو ما نراه و نحسه به في تعاملنا مع الاشياء و ما تعنيه بخلاف دوامة الشك و الوهم و الادعاء و الخيانة و الهدم التي تتباها التفكيكية .