د انور غني
مع قناعتي بوجوب ان يكون النقد الادبي اكثر علمية وصرامة و ان يبتعد عن الفردية و الشخصنة ، الا ان ذلك يجب ان ينطلق من فكرة ان النص الادبي هو ظاهرة فريدة متميزة على النقد الحاق بها ، و هذا التصور يعطي مركزية كبيرة للعمل الابداعي باعتباره ظاهرة انسانية متفردة . ان الوسيلة المثلى لذلك – اي للابتعاد عن الفردية و تحقيق الحيادية و الموضوعية- هو اعتماد منهج الاستقراء ، و المعارف العرفية و الوجدانية الجلية كاداة في التعامل مع النصوص .
فرانكو مورتي ( Franco Moretti ) بروفسور في الادب ، ايطالي المولد ولد سنة 1950 ، وهو الذي اوجد مختبر ستانفورد الادبي ( Stanford Literary Lab ). و صاحب كتاب ( القراءة عن بعد( Distant Reading 2013 )( ، الحائز على جائزه الكتاب الوطني لدائرة النقاد National Book Critics Circle (NBCC) Award ) و المترجم الى الان الى خمس عشرة لغة ، يبشر بالطريقة الكمية ( (quantative method في النقد الادبي المثيرة للجدل .
يعتمد مختبر ستانفورد الادبي على التحليل الحاسوبي للادب ، او النقد الحاسوبي (computational literary ) ، و الذي تدخل فيه اعمال ادبية متفرقة حسب الفترة او الطبيعة التي يراد دراستها ، و تدخل بيانات و مطاليب معينة و يتم الاحصاء ، و من ثم يتم استخراج العوامل المشتركة و مدى انتشار المعامل المعين في تلك النصوص .
يقول مورتي لا داعي لقراءة الكتب ، و لا النصوص ، بحجة اننا سنقرا حينها جزء صغيرا مقارنة بما هو موجود و سيكون هناك شيء كثير غير مقروء ، لذلك لا بد من اعتماد قراءة واحدة لمجموعة كبيرة من النصوص تصل الى المئات و الالاف ، و طبعا كلما يكون العدد اكبر يكون التحليل اكثر واقعية كما هو معلوم للعاملين في العلوم التطبيقية و الاحصاء .
ان من اهم مساوئ هذا النهج امور : اولها الغاء النص تماما ،بحيث لا حاجة لقراءته اصلا و لا التعرف عليه و لا على كاتبه و لا يكون سوى بيئة لما يبحث عنه احصائيا . ثانيها الغاء عملية القراءة الفردية نفسها و استعمال طريقة حاسوبية لاكتشاف الحقائق الادبية ، و ثالثها تحقيق تبعية للحاسوب و الاحصاء في تبين الحقائق . طبعا ستكون المجادلة ان هذا العمل مختص بالنقاد كنقاد و محترفين و ليس كقراء ، اذ لا علاقة لذلك بعملية القراءة ، وهذا تصور خاطئ لان العملية النقدية تدعي تعيين الجماليات و الحقائق ، لذلك فان القراءة دوما تكون تابعا لها بل ان الثقافة كلها تكون تابعة للنقد ، كما ان هذا الجواب لا يجب عن حقيقة موت النص ، حينما لا يكون معروفا الا للحاسوب ولا حاجة للناقد ان يقراه او ان يتعرف عليه .
ما اريد ان اقوله ان هذا المشهد يكشف مدى التجريبية في نظريات و تطبيقات المؤسسات الغريبة ، مما يدعو الى عدم التسرع في التبعية لهم ، فمن موضة الالسنية و البنيوية و التفكيكية ثم الى النقد الثقافي و النقد الرقمي و الان النقد الحاسوبي وغير ذلك ، و كل ذلك انما ناتج عن الروح التجريبية الطاغية عند الغرب ، ان هذا يدعو ايضا الى ان نراجع عرفنا و وجداننا و ثقافتنا و ننهض بمشروع عربي اصيل في النقد و الادب ينبثق من الروح الثقافية التي عندنا و لا باس بمخالطة الاخرين و الاستفادة منهم لكن لا تقليدهم و تقدسيهم .