جمال الأدب يكمن في طريقة التعبير و أسلوب
الدلالة ، و لكل تعبير أدبي قدرة معينة
على الكشف عن جماليات بدرجات مختلفة ، هذه
هي المرتكزات الاساسية للنقد التعبيري ، اي البحث الواسع في اسلوب التعبير الادبي
، و لا بد من الاشارة انه لا علاقة للنقد التعبيري بالمدرسة التعبيرية و انما هو
منهج اسلوبي موسع . مما تقدم من اهمية طريقة التعبير و الدلالة و تدرج تجلي عناصر
الجمال تتبين قلة الاهمية في مبحث
المداليل كهدف اساسي لأنه لا يعين المكمن الحقيقي للجمالية الادبية و ايضا تتبين
لا واقعية فكرة الوجود التام و الفقدان التام لحقيقة الوجود الدرجاتي للعناصر
الجمالية في العمل الادبي .
ان الواقعية مهمة في كل معرفة تقريرية و
النقد معرفة تقريرية ، و هذه الواقعية
تحتاج الى عنصرين الوضوح و التجريبية ، فما لم يكن هناك وضوح و ما لم يكن
هناك قدرة على الاستقراء و التجريب فانه لا مجال لبلوغ الواقعية في النقد ، ولا
تدخل الكتابة حيز الجدية و العطاء . ان النقد التعبيري ، بتركيزه على اسلوب
التعبير و النظرة الواسعة الى العنصر الادبي ، و الانطلاق من امور بينة كالتعبير و
الاستجابة الجماليات و المؤثرات الجمالية من معادلات و عوامل جمالية ، كل ذلك يعطي
للنقد التعبيري درجة عالية من الوضوح و التجريبية و الاستقرائية .
وفق مفاهيم النقد التعبيري فان القراءة في
جوهرها اندماج و عيش في النص ، و اذا لم يكن النص مقنعا فانه لا تتحقق هذه الغاية
. على النص ان يحمل القارئ اليه و ان يجعله يعيشه ، و لا يقال ان المجاز العالي
يعرقل ذلك ، بل العكس صحيح انما المجاز هو
وسيلة لتعظيم طاقة اللغة و النص و اعطائه قدرة اكبر على التأثير و التقريب من نفس
المتلقي .
الفنون الأدبية تعتمد الخيال في بناءها ، ليس
فقط في ما ترمي اليه من معان ودلالات وانما في طريقة التعبير ، و ما الانزياح الا
شكل من اشكال التعبير بوساطة الخيال ، اذ ان العلاقة الانزياحية خيالية كما هو حال
المجاز ، ولا ريب ان هناك لاألفة بين المجاز و ذهن القارئ ، لذلك لا بد على النص ان
يطرح مجازه بشكل واقعي ، طرح المجاز وهو علاقة خيالية بصورة واقعية هو ( وقعنة الخيال ) ، و وقنعة اشتققناها من كلمة واقعي ، و يمكن وصف حالة تحقيق الألفة لللاألفة
التي يتميز بها الخيال التعبيري بانها
حالة وقعنة له ، فالخيال المجازي في علوه
و بعده و لاألفته الذهنية حينما ينجح المؤلف في تقريبه و الباسه ثوب
الواقعية و الحقيقية فانه يكون طرحه بصورة واقعية وحقيقية .
ان اللغة المتموجة التي توفرها السردية
التعبيرية ، و التي تتناوب بين مفردات و تراكيب توصيلية و اخرى مجازية انزياحية ، يعطيها ميزة لا تتوفر في الشكلين الاخرين من
الكتابة ، اقصد السردية القصصية و الشعرية التصويرية ، فالاولى ليس لها الا ان
توغل في التداولية و التوصيلية وتخفّض من
مجازها و الثانية ليس لها الا ان تتعالى
في المجاز . و لا يظن ان ذلك مختص بالبناء
الشكلي اللفظي للنص بل انه ينفذ عميقا الى الجذور المعنوية و الدلالية و الفكرية
له ، اذ ان الكتابة في كل واحد من تلك الاشكال
تتصف بتلك الفوارق في كل مستوى من مستوياتها المختلفة .
لطالما تحدثنا عن لغة قوية تصل و تنفذ الى اعماق النفس الانسانية و في
الوقت نفسه تحافظ على فنيتها العالية ، و يمكن ان نرى بوضوح ان السردية التعبيرية
تحقق هذه الغاية فانها تخضع المجاز و الانزياح باي درجة كان الى الواقعية و الحقيقية و القرب ، انها جمع حر
بين الالفة و اللاألفة انها جعل الشيء غير الأليف أليفا . و ربما لا احد يستطيع ان
يقلل من قيمة الاسلوب الذي يتمكن بحرية و سلالة
ان يجعل غير المألوف مألوفا ، السردية التعبيرية بكل حرية و سلالة تحقق ذلك . وهنا نماذج من تدجين
المجاز و وقعنته في كتابات سردية تعبيرية (1)
في نص ( رسام ) للشاعر و القاص فريد قاسم
غانم
( في جنازتِهِ الأخيرة، التي
شاركَ فيها أكلةُ البطاطا والحجارة وقاطعَها سدَنةُ المعابد، خرجتْ من عينيْهِ
شتلتا عبّادِ الشّمس، وحرَثَتْ جبينُهُ العالي نجومٌ فاقعةُ الاصفرار، .... )
ربما لا نحتاج الى كثير كلام لبيان كيف ان المقطع التوصيلي السردي في
بداية النص حمل القارئ و هيأه و ساعده على الوجود و التعايش مع النص و تقبل
المجازات و الانزياحات التالية بيسر ودون غرابة كبيرة مع النص غرائبي و سريالي .
فان القارئ بعبارة ( في جنازته الاخيرة ....، ) التوصيلي جاء فعل ( خرجت من عينيه
شتلتا عباد الشمس ) المشتملة على الانزياح و المجاز ، الا انها و بفعل السردية
التعبيرية لبست ثوبة الواقعية و الحقيقية رغم فنيتها الكبيرة و مجازيتها العالية . هكذا تحقق السردية
التعبيرية لغة قوية عالية الفنية و عالية التأثير .
و في نص كرنفال شمس للدكتور انور غني الموسوي
(هنا القلوب حارّة مستعرة كأزهارها
النارية . لطالما حدّثتني عن روحها الذائبة في عشق الظهيرة السمراء و عن
الحرية النضرة و هي تمشط شعرها الناري و سط هتافات الجماهير الملتهبة .. ....)
هنا اللغة متموجة بشكل كبير وسط سردية
تعبيرية واضحة بحيث ان كل مقطع توصيلي واقعي يترك المكان لمقطع مجازي
خيالي ( فهنا القلوب حارة مستعرة .. ثم .. كازهارها النارية ... ثم لطالما حدثتني
عن روحها .الذائبة ...ثم في عشق الظهيرة السمراء .. ثم ... وعن الحرية النظرة
...ثم وهي تمشط شعرها الناري .... ) وهكذا
يستمر النص بلغة متموجة ، تحمل القارئ الى النص و تدجن الخيال و تلبس المجاز ثوب
الحقيقة و الواقعية .
و في نص ( بيوت في زقاق بعيد ) لكريم عبد
الله
( البيوت في
المدينةِ البعيدةِ تغفو دائماً أشجارها متجاورة الأغصان توحي بعضها لبعضٍ أنَّ
أساريرَ الصباحِ تمضي بالتواريخِ صامتةً كالقراطيسِ القديمةِ وهي تشكو مِنْ
الشيخوخةِ , صوتُ العصافير تحملهُ النسمات كلَّ صباحٍ تتركُ صغارها تتنزّهُ على
الشناشيلِ وظلّها يحكي للوسائدِ أنَّ الشمسَ لا تغيب , ماذا بوسعهِ النهر أنْ
يفعلَ إذا دغدغَ الغبشُ أزهاره وهي تستفيقُ على نقيق الضفادع !.....)
اللغة الموجية
هنا تبدأ بسردية تداولية توصيلية تأخذ مساحة من الكلام (البيوت في
المدينةِ البعيدةِ تغفو دائماً أشجارها متجاورة الأغصان توحي بعضها لبعضٍ ) مع مجاز قريب في ( تغفو و توحي ) ...ثم
تتعالى المجازية في تموج تعبيرية ...(
أنَّ أساريرَ الصباحِ تمضي بالتواريخِ
صامتةً كالقراطيسِ القديمةِ وهي تشكو مِنْ الشيخوخةِ ,) ثم تأتي موجة
توصيلية (صوتُ العصافير تحملهُ النسمات
كلَّ صباحٍ ) .. ثم
موجة مجازية عالية ( تتركُ صغارها تتنزّهُ على الشناشيلِ وظلّها
يحكي للوسائدِ أنَّ الشمسَ لا تغيب ) وهكذا
يستمر النص في لغته المتموجة التي تجعل من الخيالية المجازية واقعا يعيشه القارئ
دون قفز او اقحام .
و في نص ( قطط) للشاعر جواد شلال
(ثمة قطط سمان اجتاحت
الباحة الخلفية للدير المقدس ، أنها تزهو بالمواء حد الغنج ….. رغم شعورها بانها ثقيلة
على الأفئدة .. توسم جباهها بزعفران
مستورد من وراء النهر … اكتظت بها …
الشبابيك .. الأواني ..وحقول الرمد المستعصي ..
المغنون … أدركوا أن الصبح … ليس بقريب .. غادروا ببلاهة إلى مراجل الغربة العفنة … المواء … تسلق المسرح .. استحوذ على قيثارة بابل ......)
المغنون … أدركوا أن الصبح … ليس بقريب .. غادروا ببلاهة إلى مراجل الغربة العفنة … المواء … تسلق المسرح .. استحوذ على قيثارة بابل ......)
فالسردية الواقعية في مقدمة النص (ثمة قطط سمان اجتاحت الباحة الخلفية للدير ، و الوصف التعبيري القريب (أنها تزهو بالمواء حد الغنج ) تمهد لمجاز تصاعدي (رغم شعورها بانها ثقيلة على الأفئدة
..
) ثم يدخل النص موجة المجاز العالي (.. توسم جباهها بزعفران
مستورد من وراء النهر … ) .. ثم بعد ذلك موجة توصيلية (اكتظت بها … الشبابيك .. الأواني )
ثم موجة خيال تعبيري (وحقول الرمد
المستعصي .. ) .. وهكذا يستمر النص في تموج تعبيري بين
تعبير خيالي مجازي و تعبير واقعي حقيقي .
ان
التعبيرية المتموجة بين الواقعية و الخيالية
في بناء نصوص السرد التعبيرية تحقق اللغة التي تنفذ الى الاعماق مع
المحافظة على فنيتها العالية . و من الواضح ان الفهم و التصور الذي يقدم النقد
التعبيري عن العناصر التي يشير اليها كما
في الخيال المجازي هنا و وقعنته و تحقيق السردية التعبيري لتجليات عالية له و التموج
التعبيري ، يمثل درجات عالية من الجدية و الواقعية في منهج النقد التعبيري بادواته
الاسلوبية التعبيرية . كما ان وضوح عدم امكانية بلوغ مثل تلك الدرجات من الظهور و
التجلي لحالة وقعنة الخيال في الشعر التصويري و السرد القصصي ، لضعف تجلي التموج
التعبيري فيها يدل بلا ريب على التجريبية العالية و الاستقرائية البينة في النقد
التعبيرية ، مما يمثل بابا واسعا و حقيقيا نحو بناء علمي للنقد الادبي .
1- مصدر النصوص مجلة تجديد الادبية العدد الاول و الثاني 2015
https://tajdeedadabi.wordpress.com/