1- ابعاد النص و القراءة التعبيرية
للنص الادبي ابعاد ثلاثة ، فاضافة الى بعده الكتابي البنائي كنص بمفردات و جمل و فقرات متجاورة ، فان له بعدا ابداعيا اسلوبيا يتمثل بالفنية و الجمالية و الرسالية ، و له ايضا بعد لغوي دلالي يتمثل بتجلّي اللغة و النص و المؤلف و القارئ . ما يحصل اثناء الكتابة هو تقاطع خطوط هذه الابعاد و تقابلها و تلاقيها في النهاية في نقاط تعبيرية . بينما يكون تتبع عناصر البعد الابداعي الاسلوبي هو من القراءة الاسلوبية ، و تتبع عناصر البعد اللغوي الدلالي هو من القراءة الدلالية اللغوية ، فان تتبع نقاط تلاقيهما التعبيرية يكون بالقراءة التعبيرية بادوات النقد التعبيري . و من هنا يتجلى الفرق الواضح واصالة النقد التعبيري و تميزه عن الابحاث الدلالية و الاسلوبية و ان كانت جزء منه و مستفيدا من ادواتهما .
و من هنا ايضا يظهر ان التصور السائد كون النص كيانا زمانيا ترتب عناصره في الزمن لا يتسم بالواقعية ، بل ان النص كيان ثلاثي الابعاد ، بعد كتابي نصي و بعد لغوي دلالي و بعد اسلوبي ابداعي . يعتمد وضوح و تجلي هذا الشكل على مدى ظهور و قوة نقاط ابعاده المتقدمة اثناء القراءة .
حينما تحدث عملية القراءة فانها تتطور من مستوى المفردة الى مستوى الاسناد او التجاور المفرداتي الى مستوى الجملة الى مستوى الفقرة ثم الى مستوى النص بكله . اثناء كل مستوى يحضر البعد اللغوي الدلالي و البعد الابداعي الاسلوبي ، و بمجموع ما يتم من انظمة احتكاك و تقابل و التقاء و تقاطع و بفعل مستوى النقطة التعبيرية لكل بعد تحصل في الفكر و النفس مواضع تعبيرية لكل وحدة كتابية فيه يقابله بعد رابع خاص بالقارئ هو البعد الشعوري و الاستجابة الجمالية ، بعبارة اخرى بينما يكون النص ككيان مكتوب شكلا ثلاثي الابعاد ساكن لا حراك فيه ، فانه ككيان مقروء يكون كيانا متحركا له اربعة ابعاد البعد الرابع هو البعد الشعوري ويمثل بعد الحركة الذي يخرج النص من السكون . فتكون القراءة هي العملية التي تعطي للنص روحا و تخرجه من الموت الى الحياة ، وهذا ما نسميه ( حركة النص )
القراءة ما هي الا عملية مشاهدة و تلقي تبحر فيها النفس في عوالم النص و الكتابة ،و الفكر و اللغة ، و الخيال و الابداع ، و الشعور و المتعة . هذه العوالم الاربعة الحاضرة دوما في الكتابة الابداعية هي التي تضرب في عمق النفس و تجعل الكتابة الادبية مميزة ، و بمقدار تجلي عناصر و اشياء تلك العوالم و تلك الابعاد يتحدد وقع القراءة و مقدارها التعبيري . النقد التعبيري هو المجال الذي يبحث الانظمة المتحققة من تفاعل تلك الابعاد و ما ينتج عنها من مواضع و قيم تعبيرية في فضاء الكتابة و عوالمها . ان التشخيص الدقيق و عالي الكفاءة للبعد الجمالي للكتابة بواسطة ادوات النقد التعبيري و تحديد المقادير الكمية و التشكلات الكيفية للبعد الجمالي للنص يمكن من تشخيص عالي المستوى لقيم النصوص جماليا مما يعد مدخلا علميا للظاهرة الجمالية و الاستجابة الشعورية تجاه الجمال .
تعتمد التعبيرية في اللغة على التوظيفات في ثلاث مستويات كما بيناه سابقا في مقالاتنا ، مستوى النص كقول و كتركيب لفظي معنوي ، و مستوى التجربة كعالم من المعاني و الحقول الفكرية المعنوية ، و المستوى الوسيط الرابط ينهما ، فبينما الجمالية في عناصر النص التعبيرية تعتمد على انجازات فردية اسلوبية على مستوى المفردات و التراكيب كوحدات كلامية ، فانّ عناصر الجمالية اللغوية في حقول المعنى الفكرية العميقة و العامة تكمن في اشكال تمظهر و تجلّي لمناطق و افراد تلك الحقول ، و اما العنصر الوسيط فهي عملية ذهنية رابطة تنتج عن عملية القراءة ، بمعنى اخر لدينا ثلاثة عوامل تنتج اللحظة الجميلة و الادهاش المصاحب : عناصر كتابية نصية و عناصر التجربة العميقة و عناصر قراءاتية و سيطة بالمعنى المتقدم ، هذا التناول هو شكل من اشكال النقد التعبيري ،و الذي بتجاوز اخفاقات النقد الاسلوبي في منطقتي العناصر القراءاتية الوسيطة و عناصر التجربة اللغوية العميقة .
2- السردية التعبيرية
ان ما يقابل الشعر هو النثر و ليس السرد كما يعتقد البعض ،السرد يقابله التصوير ، و الشعر حينما يكتب بشكل نثر فانه بالنهاية سيكون شعرا ، و المميز بين النثر و الشعر ليس الوزن كما هو معلوم ،و لا الصورة الشعرية و المجاز العالي كما اثبتته قصيدة النثر السردية بالكتلة النثرية الواحدة ، انما المميز بينهما ان الشعر يشتمل على السردية التعبيرية و لا يقصد الحكاية او التوصيل ، بينما النثر اما قصصي حكائي يقصد الحكاية او توصيلي بشكل خطاب و رسالة. بمعنى اخر ان الفرق بين الشعر و القص و اللذين يشتملان على السرد ، ان السرد في القصة حكائي قصصي يقصد الحكاية و الوصف ولو خيالا ،بينما السرد في الشعر تعبيري هو سرد لا بقصد السرد هو السرد الذي يمانع و يقاوم السرد ،انه السرد بقصد الايحاء و الرمز ونقل العاطفة و الاحساس لا الحكاية و الوصف.
السرد لا بقصد السرد ، السرد الممانع للسرد ، السرد لا بقصد الحكاية و القصّ ، السرد بقصد الايحاء و الرمز و نقل الاحساس و العاطفة ، هذه هي ( السردية التعبيرية ) .
مظاهر السرد التعبيري و الذي يكون القصد منه ليس الحكاية و الوصف و بناء الحدث ، و انما القصد الايحاء و نقل الاحساس ، و تعمد الابهار ، فيكون تجل لعوالم الشعور الاحساس بمعنى اخر ( ان الميزة الأهم للشعر السردي الذي يميزه عن النثر وان كان شعريا هو التعبيرية في السرد ، فبينما في النثر السردي يكون السرد لأجل السرد و الحكاية ، فانه في الشعر السردي يكون موظفا لأجل تعظيم طاقات اللغة التعبيرية. ) ( انور الموسوي 215)
3- اللغة المتموجة و وقعنة الخيال
جمال الأدب يكمن في طريقة التعبير و أسلوب الدلالة ، و لكل تعبير أدبي قدرة معينة على الكشف عن جماليات بدرجات مختلفة ، هذه هي المرتكزات الاساسية للنقد التعبيري ، اي البحث الواسع في اسلوب التعبير الادبي ، و لا بد من الاشارة انه لا علاقة للنقد التعبيري بالمدرسة التعبيرية و انما هو منهج اسلوبي موسع . مما تقدم من اهمية طريقة التعبير و الدلالة و تدرج تجلي عناصر الجمال تتبين قلة الاهمية في مبحث المداليل كهدف اساسي لأنه لا يعين المكمن الحقيقي للجمالية الادبية و ايضا تتبين لا واقعية فكرة الوجود التام و الفقدان التام لحقيقة الوجود الدرجاتي للعناصر الجمالية في العمل الادبي .
ان الواقعية مهمة في كل معرفة تقريرية و النقد معرفة تقريرية ، و هذه الواقعية تحتاج الى عنصرين الوضوح و التجريبية ، فما لم يكن هناك وضوح و ما لم يكن هناك قدرة على الاستقراء و التجريب فانه لا مجال لبلوغ الواقعية في النقد ، ولا تدخل الكتابة حيز الجدية و العطاء . ان النقد التعبيري ، بتركيزه على اسلوب التعبير و النظرة الواسعة الى العنصر الادبي ، و الانطلاق من امور بينة كالتعبير و الاستجابة الجماليات و المؤثرات الجمالية من معادلات و عوامل جمالية ، كل ذلك يعطي للنقد التعبيري درجة عالية من الوضوح و التجريبية و الاستقرائية .
وفق مفاهيم النقد التعبيري فان القراءة في جوهرها اندماج و عيش في النص ، و اذا لم يكن النص مقنعا فانه لا تتحقق هذه الغاية . على النص ان يحمل القارئ اليه و ان يجعله يعيشه ، و لا يقال ان المجاز العالي يعرقل ذلك ، بل العكس صحيح انما المجاز هو وسيلة لتعظيم طاقة اللغة و النص و اعطائه قدرة اكبر على التأثير و التقريب من نفس المتلقي .
الفنون الأدبية تعتمد الخيال في بناءها ، ليس فقط في ما ترمي اليه من معان ودلالات وانما في طريقة التعبير ، و ما الانزياح الا شكل من اشكال التعبير بوساطة الخيال ، اذ ان العلاقة الانزياحية خيالية كما هو حال المجاز ، اذ ريب ان هناك لاألفة بين المجاز و ذهن القارئ ، لذلك لا بد على النص ان يطرح مجازه بشكل واقعي ، طرح المجاز وهو علاقة خيالية بصورة واقعية هو ( وقعنة الخيال ) ، و وقنعة اشتققناها من كلمة واقعي ، و يمكن وصف حالة تحقيق الألفة لللاألفة التي يتميز بها الخيال التعبيري بانها حالة وقعنة له ، فالخيال المجازي في علوه و بعده و لاألفته الذهنية حينما ينجح المؤلف في تقريبه و الباسه ثوب الواقعية و الحقيقية فانه يكون طرحه بصورة واقعية وحقيقية .
ان اللغة المتموجة التي توفرها السردية التعبيرية ، و التي تتناوب بين مفردات و تراكيب توصيلية و اخرى مجازية انزياحية ، يعطيها ميزة لا تتوفر في الشكلين الاخرين من الكتابة ، اقصد السردية القصصية و الشعرية التصويرية ، فالاولى ليس لها الا ان توغل في التداولية و التوصيلية وتخفّض من مجازها و الثانية ليس لها الا ان تتعالى في المجاز . و لا يظن ان ذلك مختص بالبناء الشكلي اللفظي للنص بل انه ينفذ عميقا الى الجذور المعنوية و الدلالية و الفكرية له ، اذ ان الكتابة في كل واحد من تلك الاشكال تتصف بتلك الفوارق في كل مستوى من مستوياتها المختلفة .
لطالما تحدثنا عن لغة قوية تصل و تنفذ الى اعماق النفس الانسانية و في الوقت نفسه تحافظ على فنيتها العالية ، و يمكن ان نرى بوضوح ان السردية التعبيرية تحقق هذه الغاية فانها تخضع المجاز و الانزياح باي درجة كان الى الواقعية و الحقيقية و القرب ، انها جمع حر بين الالفة و اللاألفة انها جعل الشيء غير الأليف أليفا . و ربما لا احد يستطيع ان يقلل من قيمة الاسلوب الذي يتمكن بحرية و سلالة ان يجعل غير المألوف مألوفا ، السردية التعبيرية بكل حرية و سلالة تحقق ذلك .
ان التعبيرية المتموجة بين الواقعية و الخيالية في بناء نصوص السرد التعبيرية تحقق اللغة التي تنفذ الى الاعماق مع المحافظة على فنيتها العالية . و من الواضح ان الفهم و التصور الذي يقدم النقد التعبيري عن العناصر التي يشير اليها كما في الخيال المجازي هنا و وقعنته و تحقيق السردية التعبيري لتجليات عالية له و التموج التعبيري ، يمثل درجات عالية من الجدية و الواقعية في منهج النقد التعبيري بادواته الاسلوبية التعبيرية . كما ان وضوح عدم امكانية بلوغ مثل تلك الدرجات من الظهور و التجلي لحالة وقعنة الخيال في الشعر التصويري و السرد القصصي ، لضعف تجلي التموج التعبيري فيها يدل بلا ريب على التجريبية العالية و الاستقرائية البينة في النقد التعبيرية ، مما يمثل بابا واسعا و حقيقيا نحو بناء علمي للنقد الادبي .
4- التوافق النثروشعري
المعهود من الكتابة الأدبية ليس فقط التمييز بين الشعر و النثر ، بل رسوخ فكرة تضادهما فالكتابة التي تميل الى الشعرية و توظف تقنيات الشعر تضعف فيها النثرية ، و هكذا العكس في الكتابة التي تميل الى النثرية و توظف تقنياتها فان الشعرية تضعف فيها . هذا التضاد و التناسب العكسي بين الشعر و النثر هو المعروف و الراسخ في الكتابة لمئات السنين ، و لقد مثل الشعر الصوري المعهود النموذج الاوضح لهذه الظاهرة ، اذ كلما تعالى النص في شعريته ابتعد و نأى عن النثرية وهذا ما لا يحتاج الى مزيد بيان .
لكن الذي يبدو و كما بيناه في مقالنا ( اللغة المتموجة و التوافق النثروشعري ) ان هذا التضاد ليس ناتجا عن امر ذاتي و اساسي في نظام الشعر و النثر ، بل هو نتاج اسلوب الكتابة و الفكر السائد عنها . اذ قد بينت نصوص السردية التعبيرية ، وهو السرد الممانع للسرد و السرد لا بقصد السرد ان حالة التوافق بين الشعر و النثر ممكنة و واقعية ، و ان التناسب الطردي و التكامل بينهما ايضا ممكن و واقع .
ان السردية التعبيرية بسعيها نحو الغاية القصوى لقصيدة النثر في تحقيق الشعر الكامل بالنثر الكامل و تحقيق حالة الشعر المنبثق من وسط النثر ، وفرت الامكانية و القدرة على تحقيق نظام ( التوافق النثروشعري ) . و لا بد من التأكيد ان فكرة التوافق بين الشعر و النثر و لا ذاتية تضادهما هو نتاج اصيل و مستقل للسردية التعبيرية و غير مسبوقة في هذا الفهم و ان كان تلمس اشكال من تجليات نظام التوافق النثروشعري في سرديات تعبيرية عالية كالقران الكريم و ملحمة جلجامش .
هنا سنتعرض الى ملامح التضاد النثروشعري و نظام التوافق النثروشعري في نصوص من الشعر الصوري المعتمد على الصورة الشعرية و من الشعر السردي المعتمد على السردية التعبيرية للشاعر العراقي حسن المهدي الذي يكتب الشكلين الشعريين .
لقد وفرت السردية التعبيرية امكانيات كبيرة للنص لبلوغ هذه الغاية و تحقيق هذه اللغة ، اذ ان السرد يتطلب و بشكل قاهر عذوبة و قربا و سلاسة تحقق الفة للقارئ ، و تحقق التعبيرية ابحارا و صعودا و تحليقا و تعمقا يحقق الادهاش و الابهار الشعري. و من الجدير بالذكر ان اية سردية تعبيرية مستوفية لشروطها تحقق هذه الغاية ، لكن نصوص السرد التعبيري تتباين في مستوى النفوذ و الابهار ، اذ ان اسلوب الكاتب و قاموسه اللفظي و ميله التعبيري و البنائي يحدد درجة الميل نحو النثرية و انخفاض الشعرية او ميله نحو الشعرية و انخفاض النثرية. وهذا الميل ليس لحقيقة التضاد بين النثر و الشعر في النص السردي التعبيري ، و انما هو بفعل معالجة المؤلف و طاقاته التعبيرية ، فانه في قبال هذه الصورة يمكن تحقق التصاعد التناسبي الطردي بالنثرية و الشعرية في السرد التعبيري ، اي تحقيق درجات تصاعدية في كلا الجانبين في وقت واحد . وهذه الحالة التي يتحقق فيها علو فني لشعرية النص و نثريته في آن واحد يمكن ان نسميها (التوافق النثروشعري) وهي الحالة الفريدة و الوحيدة ربما التي يتحقق فيها تطور و تجل اكبر للنثر مصاحبا و ملازما لتطور وتجل اكبر للشعر ، فمع كل درجة شعرية اعلى يحققها الشعر تتحقق معه درجة نثرية اعلى للنثر .وهذا بخلاف حالة التنافر و التضاد بينهما في الكتابات الاخر و منها الشعر الصوري المعهود اذ ان حالة ( التضاد النثروشعري ) هي السائد بحيث ان كل تقدم و ميل نحو الشعرية في النص يقابله نقصان و تراجع في نثريته وهكذا العكس .
من اوضح الاساليب التي تحقق حالة التوافق النثروشعري هي اللغة التي تتموج بين القرب و التوصيل و بين الرمز و الايحاء ، و بين التجلي و التعبير ، هذه اللغة هي اللغة المتموجة بين التوصيل و الايحاء والتجلي ، بين المنطقية الانحرافية التركيبية اي بين واقعية الاسناد اللفظي و بناءاته و بين خياليته ولاالفته فتحصل حالة (وقعنة الخيال ) اي اظهار الخيال بلباس واقعي مما يعطي النص عذوبة و قربا و الفة و يزيل عنه اية حالة جفاء او جفاف او اغتراب يطرا عليه بفعل الرمزية و الايحائية. ان السردية التعبيرية باللغة المتموجة تبلغ درجات متقدمة من التوافق النثروشعري ، و تصل ساحة الشعر الكامل بالنثر الكامل .
5- اللغة الحرة و النص الحر
ان اللغة الحرة و النصوص الحرة العابرة للاجناس و التي ستكون و بلا شك الشكل المستقبلي للادب لن تاخذ شرعيتها بسهولة و بفترة قصيرة لأمور كثيرة اهمها تجاوزها الاجناس الادبية و تحطيمها لأعراف سائدة في اللغة و الادب . لقد بقي الادب يعاني من سطوة الناشر فكان يفارق رغبة المؤلف و رغبة القارئ لاجل ان يعجب الناشر فاهدر الكثير من الوقت و الجهد لتلبية تلك الارادات اللافنية و اللاعلمية ،اما الآن و بفضل النشر الالكتروني و امكانية النشر بشكل حر و تحرر مواقع نشر كثيرة من تلك الافكار ، صار الوقت مناسبا لظهور الادب الحر و اللغة الحرة و النص الحر العابر للاجناس ،فلا يكون امام عين القارئ سوى ما يريد ان يقوله و لا شيء سوى اللغة التي يريد استعمالها ،من دون وصاية لا فكرية و لا موضوعية و لا سلوبية ، بلا و لا ادبية فالمهم الكتابة و لا يهم ما جنسها و ما تصنيفها ، و الجمهور هو الحكم. لقد انتهى عصر الوصاية الادبية و بدا عصر الادب الحر و اللغة الحرة.
لقد اثبتت الكتابات الأدبية في العشرين سنة الأخيرة انه لا اهمية تذكر لتجنيس النصوص ، و صارت الكتابات الأدبية تتداخل حتى انها تصل الى حد لا يمكن تصينف النص الى جنس ادبي معين و يختلف في تجنيسه ، ممل مهّد لظهور النص الحر العابر للاجناس . و السردية التعبيرية بامكانتها الواسعة يمكن ان تكون البوابة الواسعة نحو النص الحر . و لا بد من تأكيد الفرق بين النص الحر العابر لاجناس الادببية و بين القصيدة الحرة ، التي تعتمد نمطيات و تقنيات الشعر الصوري . نعم النص الحر قريب جدا من قصيدة النثر ، الا انه ليس قصيدة نثر حرة ، بل هو نص ، قد يراه البعض شعرا و البعض قصة و البعض خاطرة و الاخر رسالة ، ان النص الحر يحرر المؤلف و القارئ و يحرر نفسه .
6- اللغة التجريدية
التجريدية في التعبير و اللغة هو استعما اللغة في نقل الاحساس و الشعور و ليس الحكاية ، فتتخلى الالفاظ عن وظيفة نقل المعنى الى نقل الاحساس المصاحب له كمركز للتعبير ، فيرى القارئ الاحاسيس و المشاعر المنقولة اكثر مما يرى المعاني .
و انطلاقا من فكرة انّ الابداع اللغوي و خصوصا الشعر لا يتجه بالأساس نحو البناء المعرفي و المفاهيم ، و انّ محور الابداع هو عالم المعنى و الشعور و الاحساس ، فاننا يمكن فهم اللغة التجريدية بانها اتجاه عميق نحو صور خالصة و مجردة وكلية لموضوعات الادب و عوالم الجمال و الشعور و الاحساس و المعنى ، التي تعصف بنفس الشاعر و تلهمه ، و تختلف هذه التعبيرية بشكل واضح عما يتجه نحو الجزئي من تجرية و جماليات و موضوعات قريبة ، و ينعكس ذلك بشكل ملحوظ على لغة التعبير لان خصوصية الموضوع لها تاثيرها الحاسم في شكل اللغة التي تتحدث عنه ، فبينما الجلاء و الوضوح و القرب و الاحتفاء و المجاز التعبيري وحتى الرمزية الموظفة من سمات اللغة المعبرة عن التصورات الجزئية لموضوعات الابداع و الجمال الجزئية بلغة تعبيرية جزئية تشخصية ، فان التجسيد الخالص ، و التصورات الكلية و الرمزية المبتكرة و التحليق الحر و العمق البعيد من سمات اللغة التي تتجسد فيها التصورات الكلية لموضوعات الابداع و الجمال الكلية بلغة تعبيرية كلية تجريدية .
لا بد من القول و بشكل حاسم و واضح ان الانطلاق بالكتابة من العوالم العميقة و الكلية للمعنى و الشعور لا يكفي لتحقيق التجريد ، بل لا بد من ان يظهر اثر ذلك في اللغة ايضا ، و لا تكفي الرمزية مع توظيفها و حكايتها و وصفيتها ، بلا لا بد ان تكون في وضع الاشعاع و التوهج المرئي بدل الحكاية .
بالاضافة الى عناصر الابداع من الفنية و الجمالية و الرسالية التي يجب توفّرها في العمل الشعري الناضج ، لا بدّ ان تتصف اللغة التجريدية بصفات محددة اهمّها ان تكون تعبيرا عن عالم عميق للمعاني و الاحاسيس ، بوجوداتها الخالصة الحرة ، البعيدة عن التشكل و القصد ، ببوح كلي و كوني و انساني عميق ، بمفردات و تراكيب لا ترى فيها الا تجليات و تجسيدات لتلك العوالم و عناصرها من خفوت شديد للقول و الحكاية و التوصيل ، بلغة تشع و لا تقول . حينها نكون امام لغة تجريدية لغة الاشعاع التي تتجاوز مجال القول و التشخّص .