المعهود ان لكل لفظ و كلام غاية تعبيرية و مقصد هي
نهايته التعبيرية ، اما في لغة المرايا
فان هذه القاعدة و الناموس يُحطَّم ، لتحل محله توظيفات و تقنية مغايرة بحيث ان معادلات تعبيرية متباعدة تكون مرايا لعوامل
تعبيرية متقاربة فيكون ( التناص الداخلي ) او ( الترادف التعبيري )، او ان معادلات
تعبيرية متقاربة تكون مرايا لعوامل تعبيرية عميقة
او ( الاشتراك التعبيري ) .( أنور الموسوي 2015)
ان
طرح الفكرة ذاتها بتراكيب لفظية مختلفة يمكن من القول اننا نظرنا للشيء الواحد من زوايا متعددة ، و من هذه الحيثية
يمكن وصف النص بانه متعدد الزوايا ، الا انه لو نظرنا الى التراكيب فيما بينها
فانا سنراها تركيبة فسيفسائية يكون كل تركيب بشكل مرآة لذاك يمكن وصف هذه اللغة
بلغة المرايا و وصف النص بالنص الفسيفسائي ( أنور الموسوي 2015).
الشاعر
كريم عبد الله يكتب نصوص فسيفسائية تبلغ غاياتها المعيارية و الجمالية ، بشكل الترادف التعبيري ، كما انه سبّاق في هذه
التجربة الادبية المغايرة للمألوف .
في
نص ( خلف أبوابك نحتمي دائما(2015 ) ) نجد لغة المرايا حاضرة
بأسلوب الترادف في التعابير . ان التراكب هنا تتجه دوما نحو غايات موحدة كأزهار
الشمس تتجه في كل وقت نحو الشمس ، محققة مرآتية
ترادفية اذ تكون التعابير - رغم افادتها المختلفة
- معبرة عن معنى عميق تلاحقه ، بنسيج فسيفسائي مرآتي يعكس عمقا تعبيريا من المعاني
و الافكار الموحدة .
ان
الشيء الجديد فعلا في النص الفسيفسائي
اضافة الى الاستعمال المختلف و غير المعهود للغة هو تحقق
انظمة جديدة لوحدة القصيدة العضوية ، يتمثل بأنظمة متعددة اهمها التناسق و التناغم
الذي تحققه المرآتية و الفسيفسائية ، و الثاني العمق التعبيري الذي يوحد مكونات
النص اللفظية ليس فقط في الموضوع و انما في الغايات الرؤيوية و الفكرية و المعنوية
، اضافة الى وحدة اسلوبية تفرضها الفسيفسائية على النص .
في النص ثلاثة عوامل تعبيرية عميقة تتجه نحوها التعابير
، لها مسحة زمانية و تاريخية بين الماضي مع الاعتداد و الاعتزاز و الحاضر مع المأساة و المرار و المستقبل مع الانتظار و التطلع
. و مع هذه الانظمة النصية العامة هناك
محاكاة تعبيرية تفصيلية ايضا في كل نظام سنبينها لاحقا ، مما يجعل النص يحقق لغة المرايا و الفسيفسائية بشكل نموذجي
.
الوحدات النصية للنظام الاول ( الاستذكار والاعتداد و الاعتزاز
)
1- خلفَ
أبوابكِ إكتظّتْ ذكرياتنا نحتمي بها ونطردُ
وساوسَ الشكوك
2- حصونكِ العصيّةِ مِنْ هناكَ تغمرني
بأريجِ حقولها وتمشّطُ سَعَفَ ضفافي الغافيةِ ,
3- بينما
قصائدي الملتهبةِ حقولاً مِنَ الحنينِ تبذرينها دائماً في صدري أرتّلها إذا أصابكِ
الخطر
4- ينابيعكِ
المعطّرةِ بأنفاسِ كرنفالاتكِ الملوّنةِ تتقافزُ فيهِ تسابيحُ حَدَقاتٍ تتناهشها
الأطياف
5- تماسكي
جيداً فلا ترهبنّكَ أسلاكهم لو تحاصرُ دروبكِ المحلاّةِ بالحنينِ يتساقطُ
عناقيداً تتشجّرُ في روحكِ ,
لقد نجاح
الشاعر بقاموس لفظي متقارب ينتمي الى مجالات الاعتداد و الاعتزاز و العمق و
الانتماء و الاحتماء في خلق مزاج موحد لتلك التراكيب باعث على خلق صورة براقة
لوجود عميق و اصيل و متجذر . نلاحظ في المقاطع الاربعة وحدتين مركزيتين بارزتين
الاولى ( تعابير المنعة و السعة ( خلف ابوابك ، حصونك العصية ، تبذرينها في صدري
، ينابيعك
، دروبك المحلاة ) و الثانية
فاعلية المخاطب ( نحتمي بها ، تغمرني ، تبذرينها ، المعطرة ، تتشجر في روحك ).
الوحدات
النصية للنظام الثاني ( الحاضر المرّ و المأساة )
1- بزينةِ مدائنكِ تتمرّى سنوات القحطِ
2- أكشطُ مِنْ
شغافِ الروحِ راياتُ الغزاةِ لئلا تشوّهُ زهوركِ المفعمةِ بالنبضِ هتافاتهم المسعورةِ
3- أحصّنكِ ( بربِّ الفلق ) مِنْ ويلاتِ الحروبِ
الخاسرةِ وظمأَ فوّهاتها , سأدسُّ مدائنكِ العائمةِ فوقَ ركامِ الفجيعةِ بينَ
الحنايا ,
4- ساجمعُ مِنْ على جسدكِ ما خلّفتهُ المحنة
أصوغهُ قناديلاً تضيءُ وحشةَ الفجرِ وتمزّقُ هذا الليلَ الطويل ,
5- فكمْ ترنّحتُ على أرصفةِ الخناجرِ مطعوناً
أبكيكِ معشوقة رائعة ,
ان هذا
النظام له تجل واضح في النص ، حتى انه يمكن عده القطب و المحور متمثلا
بألم الحاضر و مأساته الذي فاض من جانبيه
البوح الاول بالاعتداد بالماضي و البوح الثالث بالتطلع الى مستقبل افضل ، كما ان
الشاعر قد استخدم زخما تعبيريا قويا هنا مما اعطى هذا النظام محورية ظاهرة و تجل
كبير، و لم يترك الشاعر شيئا من التوظيفات التعبيرية و القاموسية الا و استخدمه
وهذا ما نسيمه ( الحد الاقصى من البوح ) .
الوحدات
النصية للنظام الثالث ( الانتظار و التطلع الى المستقبل الافضل و الخلاص )
لقد استخدم
الشاعر في تجلي و ابراز هذا النظام اسلوبين الاول الاستفهام و السؤال و الثاني
الطلب و التشجيع ، و من المعلوم ان كلاهما من انظمة الطلب
أ- الصيغة الاولى ( سؤالات الخلاص )
1- مَنْ يلمُّ شتاتنا وغربةَ الأحلامِ المشققة ,
ومَنْ يرفعُ صلواتنا تطرقُ أبوابَ السماءِ البعيدة وأنا أسمعُ هديلكِ يحكُّ
اناشيدنا المكبوتةِ ؟!
2- مَنْ يعيدُ لتأريخكِ
تدفّقَ البهجةِ ويمسحُ عنْ عيونكِ كلَّ هذا التشتتَ ؟ مَنْ يزرعُ السلامَ محبةً
ينفتحُ على هذا الأفقِ الشاحبَ ؟
3- كمْ مِنَ الوقتِ
نحتاجُ أنْ نمزّقَ شرنقة عنكبتْ في حقولكِ الشاسعةِ ؟ ومتى ستزهرُ شرفاتكِ
المدثّرةِ بجروحٍ نازفةٍ تفيضُ بالقرابين ؟ .
ب –
الصيغة الثانية ( طلب التغيير )
1- فأستعيدُ توازنَ اللغةِ كلّما ينتابها الضمور
2- أنهكني
هذا الآنتظارَ والمواعيدُ تنأى تلوذُ خلفها الأمنيات
3- فأمنحيني صحوة تعيدُ لي بعضَ أنفاسي .
4- أيّتها
الساكنةُ في سواقيِ الشهقةِ تدفّقي ياقوتاً يرصّعُ أبوابنا المغلولةِ بالصمتِ ,
5- ما أحرَّ لهيب الروحِ وقدْ إستشرسَ هذا
الطغيانَ وتهدّلَ حزني فأوقفي هذا التصحّرَ بنبيذٍ طالما إنتظرتهُ على مضضٍ ,
6- إحتشدي مِنْ جديدٍ وأنزعي مِنْ عيوني
الذابلاتِ سنيناً ثيّباتٍ ,
7- لنْ يتكاثرَ الحزنُ مجدّداً في أرضي ولا
تتعثرُ الخطوات وأنتِ الآنَ تمطرينَ حجارةً مِنْ سجّيلٍ على رؤوسِ الطغاة .
لقد حقق
النص غاياته القصدية التعبيرية بتجلي طلب الخلاص و الثورة على الواقع غير اللائق و
غاياته الاسلوبية بتعابير ترادفية و لغة مرآتية متعاكسة و نص فسيفسائي ، بسردية
تعبيرية عذبة ورفيعة .
النص
: خلف أبوابك نحتمي دائما
كريم
عبد الله
(
لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي )
خلفَ أبوابكِ إكتظّتْ ذكرياتنا نحتمي بها
ونطردُ وساوسَ الشكوك , ينابيعكِ المعطّرةِ بأنفاسِ كرنفالاتكِ الملوّنةِ تتقافزُ
فيهِ تسابيحُ حَدَقاتٍ تتناهشها الأطياف , بزينةِ مدائنكِ تتمرّى سنوات القحطِ
فأستعيدُ توازنَ اللغةِ كلّما ينتابها الضمور , حصونكِ العصيّةِ مِنْ هناكَ تغمرني
بأريجِ حقولها وتمشّطُ سَعَفَ ضفافي الغافيةِ , أنهكني هذا الآنتظارَ والمواعيدُ
تنأى تلوذُ خلفها الأمنيات . أكشطُ مِنْ شغافِ الروحِ راياتُ الغزاةِ لئلا تشوّهُ
زهوركِ المفعمةِ بالنبضِ هتافاتهم المسعورةِ , أحصّنكِ ( بربِّ الفلق ) مِنْ
ويلاتِ الحروبِ الخاسرةِ وظمأَ فوّهاتها , سأدسُّ مدائنكِ العائمةِ فوقَ ركامِ
الفجيعةِ بينَ الحنايا , تماسكي جيداً فلا ترهبنّكَ أسلاكهم لو تحاصرُ دروبكِ
المحلاّةِ بالحنينِ يتساقطُ عناقيداً تتشجّرُ في روحكِ , فأمنحيني صحوة تعيدُ لي بعضَ
أنفاسي . مَنْ يلمُّ شتاتنا وغربةَ الأحلامِ المشققة , ومَنْ يرفعُ صلواتنا تطرقُ
أبوابَ السماءِ البعيدة وأنا أسمعُ هديلكِ يحكُّ اناشيدنا المكبوتةِ ؟! مَنْ يعيدُ
لتأريخكِ تدفّقَ البهجةِ ويمسحُ عنْ عيونكِ كلَّ هذا التشتتَ ؟ مَنْ يزرعُ السلامَ
محبةً ينفتحُ على هذا الأفقِ الشاحبَ ؟ كمْ مِنَ الوقتِ نحتاجُ أنْ نمزّقَ شرنقة
عنكبتْ في حقولكِ الشاسعةِ ؟ ومتى ستزهرُ شرفاتكِ المدثّرةِ بجروحٍ نازفةٍ تفيضُ
بالقرابين ؟ . ساجمعُ مِنْ على جسدكِ ما خلّفتهُ المحنة أصوغهُ قناديلاً تضيءُ
وحشةَ الفجرِ وتمزّقُ هذا الليلَ الطويل , أيّتها الساكنةُ في سواقيِ الشهقةِ
تدفّقي ياقوتاً يرصّعُ أبوابنا المغلولةِ بالصمتِ , ما أحرَّ لهيب الروحِ وقدْ
إستشرسَ هذا الطغيانَ وتهدّلَ حزني فأوقفي هذا التصحّرَ بنبيذٍ طالما إنتظرتهُ على
مضضٍ , إحتشدي مِنْ جديدٍ وأنزعي مِنْ عيوني الذابلاتِ سنيناً ثيّباتٍ , فكمْ
ترنّحتُ على أرصفةِ الخناجرِ مطعوناً أبكيكِ معشوقة رائعة , بينما قصائدي
الملتهبةِ حقولاً مِنَ الحنينِ تبذرينها دائماً في صدري أرتّلها إذا أصابكِ الخطر
, لنْ يتكاثرَ الحزنُ مجدّداً في أرضي ولا تتعثرُ الخطوات وأنتِ الآنَ تمطرينَ
حجارةً مِنْ سجّيلٍ على رؤوسِ الطغاة .