تمهيد
من أهمّ تقسيمات الدليل الشرعي هو تقسيمها الى الأصلي و التبعي ، و المقصود بالأصلي أجمالا مالا يكفي تصوّره في الدليل على حجيته ، أي هو ما كانت دليليته كالبديهة .
بشكل عام يمكن تقسيم المعارف العقلائية الى قسمين رئيسيين ، المعارف العامة و المعارف الاختصاصية ، يعتمد الاحتجاج في المعارف العامة على امور فطرية و عقلائية عملية غير مقننة ، بينما لا يكون الاحتجاج في الانظمة الاختصاصية الا في امور معتبرة في مجالها .
و من الواضح ان الشرع و ان كان نظاما اختصاصيا الا انه لا يمكن التلسيم فيه لفرضيات تفرض و تعتبر منهجا و معلما له كباقي العلوم ، بل لا بد من احراز الحقيقة و كون ذلك مستند الى الحق و الحقيقة ، لذلك لا بد فيه من ان ترجع حججه الى حجج اصلية لا ريب فيها فيه ، و لا يسلم للفرضيات .
ولا بد هنا من الاشارة الى الفهم الواقعي لاكتساب العلم ، فان العلم اما ان يكتسب بالمعاينة ، او بالواسطة ، و من الظاهر و بما لا يقبل الشك ان هذين المرتبتين محفوظتان في الشرع ، و لا ريب ايضا في قطعية المعاينة و اما ما يكون بالواسطة فمنه ما يكون قطعيا و منه ما لا يكون قطعيا الا انه يرقى للمعرفة المؤثرة في الفعل .و المعارف التي تكون بواسطة اما ان تكون باجتهاد او تقليد ، و من الاولى المعارف العقلية و من الثانية الوحي . ووضوح و ترسخ هذه المعارف اجمال في الواقع مما لا مجال لانكاره و عليها يقوم معاش الناس و تعاملاتهم الحياتية اليومية .
فصل : تعريف الدليل الأصلي شرعا
عرّف الدليل الاصلي شرعا بتعاريف متعددة ، اهمّها انّه ما لا يحتاج الى دليل ، او انّه ما يستفاد منه غيره ، او انّه ما اتفق عليه ، و من الواضح فساد الأخير لانّه يكون بدليل الاتفاق فلا أصلية أصلا ، كما انّ استفادة غيره منه تعني العمومية ، و بملاحظة ما تقدّم من انظمة المعرفة و الاحتجاج العقلائي ، يكون تعريف الدليل الأصلي بانه ما لا يحتاج الى دليل في نظامه ، و اضافة قيد في نظامه لانّ الاطلاق يجعل الدليل الاصلي منحصرا بالعقل ، و الارشاد الى ملاحظة التخصّص و النظامية يكون للرسوخ معناه الخاص ، و هكذا الثابت و البديهي فانه في نظامه الخاص كالشرع يختلف عما عند العقلاء . و العلاقة عموم مطلق بين المعارف العقلائية العامة و المعارف النظامية الخاصة ، فلا ريب انّ كلّ ما هو بديهي عند العقلاء هو بديهي في كل علم اختصاصي و احدها الشرع ، لكن ليس الامر بالعكس ، لابتناء المعارف الاختصاصية على مقدمات ذلك الاختصاص .
الحاجة الى الادلة الاصلية
تكمن أهمّية الأدلة الأصلية في انّ بيان هذه الجهة و وفق هذا المنهج هو الموافق للمنطقية العقلائية ، اذ لا بدّ من الابتداء بما هو ثابت ثم البناء عليه ، و الا كان من الاخلال بالاستدلال .
الاعتماد على التسلسل المنطقي في الاثبات بالاتجاه من الثابت الى غيره و من المعلوم الى غيره هو من المعارف العقلائية الراسخة ، بل البديهية و الفطرية ، و تظهر اهّمية بل و ضرورية هذا النهج في العلوم القائمة على البرهان و الحجة ، بل امكانية تحصيل العلم بغير ذلك مطلقا شيء غير متصور .
كل كيان معتبر في نظام الشرع و منه المعرفة الاصولية يبحث من جهتين ،الشارعية بانه معتبر شرعا ،و الوسائلية التي تهتم بالصفات الكيانية و النظامية التي تدخل في المجال الوظيفي له .ان البحث العلمي الموافق لطبيعة الادراك التحليلية لا يتناول صفات الكيان الا بعد اثبات وجوده ، و وجود الكيان النظامي هو اعتباره في ذلك النظام فغير المعتبر هو بحكم العدم فيه ، فلا بد من تقديم بحث الشارعيّة او الاعتبار على البحث الوسائلي . و من هنا يكون من الضروري وجود وحدات اصولية لا تحتاج دليليتها الى اثبات دليلي لينتج تطوّر في البناء المعرفي والا كانت معرفة دائرية غير متطورة .
صفات الادلة الاصلية في الشرع
بالامكان القول بسهولة ان الايمان و التصديق بالوحي هو اساس تحقّق الدليل ، الا انّ هذا في مكان من الخطأ ، نعم الايمان و التصديق هو الطريق الاول للمسلم ، الا انه بعد ذلك صارت هناك معارف مادية متراكمة ، جعلت للحجّة الشرعية صورتها العلمية الراسخة . كما ان الايمان لم يكن و لا يكون امرا اعتباطيا بل هو مستند لجدل و احتجاج عقلي ظاهر او خفي .
و لو تأملنا تلك الادلة الاصلية في الشرع لوجدناها تتصف بثلاث صفات مهمة هي :
1- بداهة دليليتها بحيث لا تحتاج على دليليتها في الشرع الى دليل وهو ما ذكرناه من اصليتها .
2- قطعية المعارف المتحصلة بها
3- يسرها و توفرها لكل انسان .
ان الاصلية و القطعية و القرب هي من الصفات التي تجعل هذا النظام بل و نظام الدليل الشرعي عموما من ارسخ و اعلى اشكال الدليل عموما و اكثرها نضجا و تكاملا ، و يؤدي الى ان تكون المعارف المتحققة به اكثر المعارف ثباتا و استمرارا ، لذلك فان حفظ الشريعة و استمرارها انما اساسها الواقعي كان هذه الصفات الموضوعية و التي تعبّر عن الارادة الالهية .
قطعية المعارف المتحصلة بالادلة الاصلية
من اهم ميزات الادلة الاصلية بشكل اجمالي قطعية المعارف المتحصل بها ، و هذا ما سيتبين في الابحاث الخاصة بكل دليل اصلي . و لذلك يكون من المفيد بيان الملامح العامة للقطع و ما يتعلق به من معارف عملية .
لا ريب في ان القطع كسائر الصفات النفسانية له حقيقة خاصة و اثار مخصوصة و حقيقته الكشف و المرآتية و اثاره وجوب العمل على طبقه و استحقاق العقاب على مخالفته و كونه عذرا مع المخالفة للواقع قصورا لا تقصيرا و هذه الاثارا من المرتكزات التي يلتزم بها كل عاقل .
عند الادراك يحصل تمييز المدركات من خلال رد عنصر الادراك الى ما هو مكتسب من خبرة ، فاما ان يكون مطابقا الى المعروف فيحكم انه هو او غير مطابق له تماما الا انّه غير خارج عن مجاله الوظيفي ، فيعتبر انّه منه ، او انّه خارج مجال اتصافه الوظيفي فيحكم بادراك كيان جديد وما يحدد المجال الوظيفي هي الصفات العرضية .
انّ سرعة تمييز المدرك تشير الى مدى استقرار الادراك بها ، فحصوله بسرعة عالية نسبيا ،يحقق القطع به .اما اذا كانت اقل نسبيا مع عدم الاخلال بالغاية ، بحيث يكون بعض الصفات غير متناسبة مع الخبرة ، فالمتحقق الظنّ ،الى حين تحقيق الرد المستقر أي القطع و لو بالتراكم .اما اذا كانت تلك العملية بحالة من عدم الوظيفية المخلة بغايات التمييز، بحيث تصل حالة عدم المناسبة الى حد الغرابة ، فما يحصل هو الشك .بمعنى ان الغاية في الادراك هو الاستقرار اي القطع ، و الذي يتبين - من متابعة البناءات المعرفية- ان اساسه التراكم ليس الا ، لذا لو كانت لدى الفرد مرجعيات عقلية غير صحيحة فمن المرجح جدا حصول القطع الخاطئ لديه ،مما يعني انه لا يمثل الحقيقة بالضرورة .و لان الغايات الوظيفية في الاشارة تقتضي اشارتها الى نقاط الحقيقة ، يكون من غير الممكن القول بحجية القطع الشخصي ، بل لا بد من دليل على حجيته. و القول بان المطالبة بالقطع النوعي يخالف القدرة ، هذا من جهة العقل الدقي ،اما من جهة العقل العرفي القصدي و بالتسامح الوظيفي فمن الواضح المقدار العالي جدا من القدرة الادراكية التي يوفرها العقل العرفي ،و الشاهد عليه نظام التخاطب العالي الكفاءة جدا .و من هنا يظهر ما في رد العلم الى القطع الشخصي الذي ما هو الا معرفة فردية ، و ليس بحجة لا عرفا و لا شرعا ،و الحق ان العلم لا يكون الا بالقطع النوعي ، و اعتباره لا لحجيته الذاتية بالاساس و انما لانه محقق لغايات الاعتبار العقلائي الممضى .
ينتج القطع عن الرد العقلي ،فبعد تمييز المدركات ترد الى الخبرة ، و مقدار التقارب بين المكتسب الجديد و السابق يحدد درجته الاستقرارية من قطع او ظن او شك او جهل .فاساس القطع هو الرد الادراكي ،و من هنا يظهر جليا ان الكاشفية و الصفتية صفتان اوليتان للقطع ،اما اخذه في موضوع حكم معين فهو ما لا يتعلق بحقيقة القطع مما يعني انها صفة ثانوية تحتاج الى قرينة لارادتها .
و يتحدّث كثيرا عن طريقية القطع و انه طريق الى متعلقه ، و هذا امر غير واضح لان القطع شكل من اشكال المعرفة ، فهي منتهى الطرق وهكذا المعرفة الظنية و الشكية هي اشكال و مستويات من الادراكات ، و ليست طرقا ، و حينما يتحدث عن الظن كطريق فالمراد الدليل الظني الموجب لتحقق الظن ، و كذا الامر في القطع الطريقي فالمراد هو الدليل القطعي الموجب لتحقق المعرفة القطعية . و من هنا يتبين بجلاء ان القطع بمعرفة هو غاية المعرفة فتكون حجية تلك المعرفة بديهية .
ان حجية القطع التي نتكلم عنها هنا ليس من نفس سنخ الحجية في الادلة ، و انما المراد بها حجية تلك المعرفة المقطوع بها ، و لذلك فاذا تحققت المعرفة القطعية النوعية ، فانها حجة من دون النظر الى طبيعة الدليل الذي حققها .