علم الدلالة الأصولي ( (Usulic Semantics ) الحلقة الثالثة ( المعنى الحرفي )




قيل  أنّ الحروف لا معاني لها بل هي علامات للمعاني الاسميّة كالاعراب في الكلمات المعربة، فكما أنّ الرفع مثلا علامة للفاعل، والنصب علامة للمفعول .  ) اقول هذا القول على ظاهره خلاف الوجدان ، لكن يمكن حمله على فهم مقبول بانه ناظر  الى الحروف من جهة اخرى ، فالمعنى الذي تحكي عنه الحروف هو جزء من معنى اسمي  و بذلك لا تكون حاكية عن معنى خاص بها ، فتكون عبارة ( انها لا معنى لها ) اي لا معنى لها تستقل به لا بما هي حاكية ، و قريبا من هذا المعنى ما في تحريرات في الاصول  (أن المعاني الحرفية امور واقعية عينية، كالمعاني الاسمية. نعم، كما تكون من المعاني الاسمية ماهي اعتبارية، كذلك من المعاني الحرفية ماهي اعتبارية. وكما مر: أن المعاني الاعتبارية الاسمية، متخذة من المعاني التكوينية الاسمية، وليست هي معاني اختراعية ، كذلك المعاني الحرفية الاعتبارية - مثل ما يعتبر به النداء والقسم، وأمثالهما من التمني والترجي - متخذة من المعاني الحرفية الواقعية التكوينية، فإن ما هو النداء بالحمل الشائع، ليس إلا خصوصية قائمة بالحقيقة الجوهرية، وتكون من كمالاتها. وهكذا التمني والترجي من النفوس القدسية، فإنهما منهما مستلزمة لحصول المعنى منها، وصدوره عنها، ومن غيرهم لا تكون إلا اعتبار ذلك المعنى، ) .و ربما يكون بهذا المعنى القول بان   المعاني الحرفيّة وضعت لتضييق المعاني الاسمية ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجيّة )   .
و يشهد لعلاماتية الحرف  ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه وهو: «الكلمة اسم وفعل وحرف، والاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى والحرف ما أوجد معنى في غيره ) فان الحرف هنا بمعنى العلامة على معنى في الاسم . و ايضا ما عن ابن الحاجب في " الكافية " في حد الاسم: " أنه ما دل على معنى في نفسه " وفي حد الحرف: " أنه ما دل على معنى في غيره "   وعن الشارح الرضي (رحمه الله): " الاسم: كلمة دلت على معنى ثابت في نفس تلك الكلمة، والحرف: كلمة دلت على معنى ثابت في لفظ غيرها "  .
قال في تحريرات في  الاصول (وأنها هي الخصوصيات الكمالية القائمة بالمعاني الجوهرية، المورثة لتحدد ذلك المعنى، وخروجه من الإطلاق والاشتراك إلى التقييد والتفرد. مثلا: في المثال المعروف " سرت من البصرة إلى الكوفة " يكون معنى السير بحسب المفهوم الاسمي مطلقا، إلا أنه بعدما تحقق في الخارج يكون مشوبا بالخصوصيات المختلفة، من صدوره من الفاعل، وكون مبدئه البصرة، ومختمه الكوفة، وتلك الخصوصيات خارجة عن مفهوم السير، وقائمة بوجوده المرتبط بالوجود الفاعلي، ويكون ما في الخارج المتحرك المتخصص بخصوصيات جزئية، نحو وجودها الخارجية والمتحقق في العين. وتلك المعاني محكية بالألفاظ، إلا أن معنى أصل السير والفاعل والكوفة والبصرة، محكية بالمفاهيم الاسمية، والخصوصيات الجزئية الملتحقة بتلك المسميات الاسمية معان حرفية محكية بالهيئة وكلمة " إلى " و " من ". فتكون المسميات في الحروف، الحدود الطارئة والملتحقة بالمسميات في الأسماء، وتحكي الحروف عن الخصوصيات اللاحقة بالطبائع، ولا تحكي عنها نفسها، لأن الموضوع له فيها نفس الطبائع اللابشرط. فما اشتهر: " من أن المعاني الحرفية هي الوجودات الرابطة، حيال الوجودات الجوهرية والعرضية " فاسد وباطل عاطل.)

اشكل على هذا القول ان مفاد الجملة غير مفاد مفرداتها ، ولو كان الحرف لا يدل الا على معاني المفردات لما كان للجملة معنى مغاير لمعاني مفرداتها .و فيه ان العلاقة الحاصلة في الجملة و التركيب انما هي حاصلة بسبب قابلية مفرداتها لذلك ، فالمعنى الحاصل بالجملة موجود في مفرداتها بالقوة و لا يقال ان ذلك يعني ان معاني المفردات  تكون غير محدودة لعدم محدودية ما يمكن ان يكون في علاقة معها ، لان ما موجود في معنى المفردة معنى كلي و ليس جزئي و المعنى الحرفي ناظر الى هذا و ليس الى الجزئي كما هو حال الاسم .

وقيل انه لا فرق بين الحروف والأسماء في كون معاني كليهما استقلاليّة، فلا فرق بين «من» مثلا وكلمة «الابتداء» في دلالة كليهما على الابتداء. وعدم التمكن من استعمال أحدهما في موضع الآخر  ناشئ من شرط الواضع لا إنّه مأخوذ في الموضوع له، فإنّ الواضع اعتبر لزوم استعمال «من» فيما إذا لم يكن معنى الابتداء ملحوظاً استقلاليّاً وشرط في كلمة الابتداء استعمالها فيما إذا لم يكن المعنى آلياً.
و قيل ان إنّ معاني الحروف كلّها إيجاديّة يوجد بها الربط بين أجزاء الكلام، والظاهر من كلامه إنّها ليست حاكيات عن معانيها بل وضعت لإنشائها. ) اقول وهو خلاف الوجدان في الاستعمال اذ لا قدرة للفظ على ايجاد معنى هو لا يدل عليه و الكلام في كلي الحرف لا في  جزئيه .  كما ان الربط انما في ما تحكي عنه الكلمات فلا ربط حقيقي بين الالفاظ فلا قدرة للحرف بايجاد الربط لانه بين الالفاظ لا ربط و الربط الخارجي لا علاقة للحرف بوجوده .
قيل ان الحروف وضعت للحكاية عن النسب الخارجيّة والمفاهيم غير المستقلّة كما هو ظاهر عرفا و وجدانا . بان تحكي عما يوجد في غيره لغيره  فلا يستقل لا مفهوما ولا خارجا  وفيه انه لا ظهور في ذلك ، اذ من الحروف ما لا تدل على نسبة كحرف العطف ، كما انه ظاهرا وجود ذهني للنسب الخارجية لا يكون جزء من الاسماء  ، اذ  يبدو ان  النسب هي اجزاء من الاسماء و ليست شيئا خارجيا . كما ان ( المفهوم غير المستقل ) شيء لا يمكن تصوره وجدانا ، و يعارض مفهوم النسب الخارجية لانها اجزاء مستقلة  من الاسم كما هو ظاهر .