وتتجلى فرادتهُ وموهبتهُ الفذّةُ فيما رسمتهُ ريشتهُ البارعة الشاعرة، والتي تمنحُ الكلمات مساحات أوسع في دلالتها، وعمقِ معانيها ومجازاتها العالية، وحساسيتها الفائقة، للروائحِ والألوانِ، والأمكنةِ، وايحاءاتها العائمة، في فضاءِ النصِ الذي يجمعهُ، نسقٌ واحدٌ متماسكٌ، في سياقٍ لغويٍّ أخّاذ، يتبينُ فيهِ وبكلِّ وضوحٍ، موهبة الشاعرِ الأصيلة، والصقيلة بما يمتلكهُ من ادواتِ التعبيرِ الثرّ، وخبرات متراكمة، وغزيرة، في مجالِ الأبداعِ الأدبي والنقدي عامة، والشعري بصورة خاصة.
.فالدكتور "أنور غني الموسوي" يظهرُ لنا بين الفينةِ والأخرى بنصوصٍ لها من الأبداعِ والتفردِ والحداثةِ ، ما قلَّ نظيرها ، تجولُ بنا في عوالم سحرية غارقة في عمقها الشاسعِ، ومدياتها الطّريةِ، والمتوهجةِ، كقبسٍ من نورِ البلاغةِ، وسلاسةِ التعابيرِ الرّائقةِ المَطليةِ بمسحةٍ فلسفيةٍ وجوديةٍ، ينوءُ بها النصُ، متحاملاً على واقعٍ مريرٍ، مصوراً معاناة الأنسانية، في وجودها، واغترابها الداخلي، بشفافيةٍ تصويريةٍ لذيذةٍ، نستطيعُ تحسسها، وبكلِّ سهولةٍ في قصيدتهِ الرائعة الموسومة بعنوان ( حياة ).
فما بين، "حياة هادئة " و " حياة صاخبة " ،يطوفُ بنا الدكتور "انور غني الموسوي " ، في لغةٍ عذبةٍ سلسة، ومتناغمة في ايقاعاتها الداخلية، الى حيث "السهل الممتنع"، من النصوصِ الشعرية العالية بسموها المتدفقِ،وحرارتها الناعسة، التي يصعبً مقاربتها دون ان تصابَ بداء الرومانسية المخضبة بالواقع السحري اللاهث في لواعجِ الوجد، والتي تجرفكَ طائعاً الى التحليقِ في عوالم من زرقةِ خيالٍ خصبٍ، مطعمٍ بمجازات ثرية برؤاها الحداثوية الى حيث ذالك النهرُالأزرق الرقيقُ، كتفاحةٍ تلاقفها الأنواء في يومِ عاصفٍ، والذي تنامُ تحت جناحيهِ بدعةٍ سماويةٍ، مدينةٌ هانئةٌ مطمئنة، في نماءٍ واستكانةٍ،وخصبٍ تتراقصُ فيهِ الأوزاتُ الحالمة على أنغامِ الشمسِ الزّاخرةِ بالدفءِ الذي تستحمُ بهِ طيورُ الحقولِ الزّاهيةِ الألوانِ، مُتراقصة فوقَ أراجيحِ ظلالهِ الخضراء، ببهجةِ طفولةٍ غائبةٍ، في دهشةِ الهواءِ الفضّي، وهبات الأحلامِ التي لها طعم اللؤلؤ المستظلِّ، بأنفاسِ البركةِ المنشودة...
وما بين الصّدى الذي يئنُ كرجعِ صرخةٍ مدويةٍ، يُنهكُ عصفورةَ المطرِ الصّفراءِ، التي تنوءُ بحكايا الألمِ المُبرقِ في أحداقِ السّعةِ، التي تضيقُ بنشيجِ السماءِ، وبكائها المدرار، يُخجل أنينها المكتومِ سطوةَ القدرِ، ومرارةِ الأيامِ، بما تحملهُ من شهقةٍ، تجمعُ أشباحَ الخريفِ المعبأةِ بالموتِ الحاضرِ، والحنينِ الحالمِ، الى ما هو آتٍ من حياةٍ غضّةٍ الأفنانِ، قبل الفوات المُرِّ...
فها هو النبضُ، الذي ينضحُ الوعودَ المؤجلة، من مياهِ الشرايينِ البنفسجيةِ....، والتي تبعثُ الخيالَ الى اقصاه، حيث تلك الخيمة المُطرّزة بالحكايا والمطعمة برائحةِ الأمسِ، تحاصرُها الرّمالُ الكثّة المتاخمة لجوهرِ وجودها الزّائلِ، كأعظمِ ما تأول لهُ الحياة ...
.
*النص:
( حياة )
لغة تجريدية *
د أنور غني الموسوي
1- حياة هادئة
ذلك النهر رقيق كتفاحة ، تعيش تحت جناحيه المدينة بهدوء ، و تتراقص الإوزات فوق مائه كأغنيات الشمس . طيور الحقل بألوانها الزاهية تستحمّ فوق مراجيحه بكل بهجة . أوراق الشجر النديّ تملأ المكان بأغنيات صباحية قد بللها النسيم . كم أدهشني الهواء الفضّي ، كان يتنقل بين أنفاس الظلّ يهب البركة أحلاما بطعم اللؤلؤ .
2- حياة صاخبة
الصدى يئنّ كعصفورة صفراء أنهكها المطر . يحكي ألما برّاقاً ذا عينين واسعتين تخجل من نشيجهما غيوم سماء باكية . لقد حمل إليّ شهقة خريفيّة معبأة بالموت و الحنين ، يا للحنين المرّ .هنا فوق هذا النبض و في مياه شرايينه البنفسجية تكون الوعود . هنا تحت هذه الخيمة القاصية حكايات عظيمة للرمال .
• اللغة التجريدية تعتمد على وظيفة نقل الاحساس ( الدلالة الشعورية للكلام ) أكثر من الحكاية و نقل المعنى ، ( الدلالة المعنوية ) المعروفة