النص التجريدي ، الفكرة و النموذج





التجريدية في التعبير و اللغة هو استعمال اللغة في نقل الاحساس و الشعور و ليس الحكاية ، فتتخلى الالفاظ عن وظيفة نقل المعنى الى نقل الاحساس المصاحب له كمركز للتعبير ، فيرى القارئ الاحاسيس و المشاعر المنقولة اكثر مما يرى المعاني .اذن التجريدية في اللغة هي النزوع نحو التخّلي عن طريقية الالفاظ الى المعنى  و لامرآتية الوحدات الكلامية ، و بلوغ التعبيرية في التراكيب الجملية  و النصية حالة  نقل الاحساس و المعادل  الشعوري للمدلول ،   فتكون اللغة شكلُ الفكرة لا انها الحاكية عنها ، لذلك لا يكون للحكاية و التشخص و الكيانية مركزية فيها ، بل البناءات التي تبعث في نفس القارئ التأثير الشعوري و الاحساسي و الحكاية غير المباشرة ، بمعنى ان التراكيب ليست من يحكي و انما القراءة هي التي تحكي و لا تحكي معان و انما أحاسيس .
و انطلاقا  من فكرة انّ الابداع اللغوي و خصوصا الشعر لا يتجه بالأساس نحو البناء المعرفي  و المفاهيم ، و انّ محور الابداع هو عالم المعنى و الشعور و الاحساس  ، فاننا يمكن فهم اللغة التجريدية بانها اتجاه عميق نحو صور خالصة و مجردة وكلية  لموضوعات الادب و عوالم  الجمال و الشعور و الاحساس و المعنى ، التي تعصف بنفس الشاعر و تلهمه ، و تختلف هذه التعبيرية بشكل واضح عما يتجه نحو الجزئي من تجرية و جماليات و موضوعات قريبة  ، و ينعكس ذلك بشكل ملحوظ على لغة التعبير لان خصوصية الموضوع لها تأثيرها الحاسم في شكل اللغة التي تتحدث عنه ، فبينما  الجلاء و الوضوح و القرب و الاحتفاء و المجاز التعبيري وحتى الرمزية الموظفة من سمات اللغة المعبرة عن التصورات الجزئية لموضوعات الابداع و الجمال الجزئية  بلغة تعبيرية جزئية تشخصية  ، فان التجسيد الخالص ، و التصورات الكلية و  الرمزية   المبتكرة و التحليق الحر و العمق البعيد من سمات اللغة التي تتجسد فيها  التصورات الكلية لموضوعات الابداع و الجمال الكلية  بلغة تعبيرية كلية تجريدية .
لا بد من القول و بشكل حاسم و واضح ان الانطلاق بالكتابة من العوالم العميقة و الكلية للمعنى و الشعور لا يكفي لتحقيق التجريد ، بل لا بد من ان يظهر اثر ذلك في اللغة ايضا ، و لا تكفي الرمزية مع توظيفها و حكايتها و وصفيتها ، بلا لا بد ان تكون في وضع الاشعاع و التوهج المرئي بدل الحكاية .
 بالاضافة الى عناصر الابداع من الفنية و الجمالية و الرسالية التي يجب توفّرها في العمل الشعري الناضج ، لا بدّ ان تتصف اللغة التجريدية بصفات محددة اهمّها ان تكون تعبيرا عن عالم عميق للمعاني و الاحاسيس ، بوجوداتها الخالصة الحرة ، البعيدة عن التشكل و القصد ، ببوح كلي و كوني و انساني عميق ، بمفردات و تراكيب لا ترى فيها الا تجليات و تجسيدات لتلك العوالم و عناصرها من خفوت شديد للقول و الحكاية و التوصيل ، بلغة  تشع و لا تقول . حينها نكون امام لغة تجريدية لغة الاشعاع التي تتجاوز مجال القول و التشخّص .


نصوص تجريدية للدكتور أنور غني الموسوي
1-    الواحة


بين يدي الغروب يجلس الأقحوان ،  كمسافر على بساط الهمس ، يراقص النسيم .
مرآةً ورديّةً كان وجه الماء ، بعذوبة غريبة تداعبها أيدي الريح  .  كالطفولة اللذيذة أبهرني لون الشمس .
الرمال تعزف ألحانها المقرمشة ، و خيول البادية بعبقها الرمليّ ، تخترق صوت الزمن الحالم . وهناك ،  نحو الواحة  ، نحو شجرة البلّوط  ، صبيةٌ يلعبون ، و فراشات ناعسة ، قد بلّل ثيابها المساء  .
كم قد أسرتني  ترانيم الأغصان ، و أوراقها ذات العيون اللمّاعة ، و الطيور ، أجل الطيور
تأسر المكان بألوانها الزاهية و سحرها الأخّاذ .

آه كم أحبّ رائحة الصيف ،  و ظلّ شجرة تنشد للنسيم .


2-     صباحات بنية
 أّيتها الصباحات البنية  ، تعالي نحوي ، إليك كلّ جسد متعب ، في نهاياته شيء من رحيق مختوم .
اليست المغارات وردية و صافية ؟ الم تكن شعبا مرجانية تتهادى نحو الفضاء الواسع  ؟ النرجس ، السماوات ،  هطول مطر برّي ،  أعوام من الأسى القرنفلي .
يا للحنين يا للحنين ، يتراقص كجدول  ناعس ، حيث القطط  البنفسجية ترتّل صلواتها الاخيرة  ، الكون حينها كان يقظاً و توّاقا ، ليت المجد يتعلّم الرؤية ، سماءٌ لا تكاد تريد شيئا من البوح .
العذابات  ، العذابات ،  القضبان ،  التواريخ ، الأصابع الصفراء ،  العمى المرير.
التنهدات الحمراء ، الوردية  ، تعجّ باللون ، بكل اللون ، بتراتيل الخضرة الزرقاء .   بوّابة الفردوس فضيّة  ، و براقة و مشعة ، تتناثر تحت الجسر بطعمها الرقراق .
إنّها تتأرجح ، و عيناكَ هناك شيء من ورد ، تتعثر بالمياه الشقيّة ، الأسماك الورديّة تتقافز هنا و هناك ، أجل كان دبّ الغابة عاشقا .
انّها تصغي ، تعدّ  أصوات الضوء ، تصنع منها واحة و أغنية . هي ليست ناعمة و لا كثيرة الخشونة ، كما أنّها بلا هدير . تقف تحت الظلّ ، تصنع شمسا و حكاية ، تعيد كوكبا و نبةً و رياحا .
مرحى ، مرحى  يا للسعادة .

3-      الشرفة
 
نحو الشرفة الناعسة ، نحو عيون الشتاء ، حيث  يتساقط الشوق كالمساءات، يتخفّى خلف السكون ، خلف صوت الغيم ، يبني عشّا بطعم الذيول .
الظلال تلك الظلال ، ترنو نحو  باحة الصمت  ،هناك خلف ستارة الوهج البنّي  ، حيث  أنفاس الصقيع تردّد غربة الفجر.

 من تلك الزاوية ، تتصاعد أرواح الضباب الخضراء ، مبتهجة بالنسيم .