يقول الفكر اللاديني ان العلمانية تدعو لقيام دولة قائمة على العلم و ليس
على الايمان . و هنا ايضا يتوهم الفكر
اللاديني او يبرز توهيما الا وهو معارضة الدين للعلم . و طبعا ليس الفكرة ناتجة عن
فهم خاطئ للدين فقط و انما ايضا ناتجة عن فهم خاطئ للعلم . و الغريب ان كتب
المختصين بالدين و الشريعة مليئة بعبارات علوم و علم ، و نادرا ما تجد كتابا مختصا
بمعارف الدين و الشريعة يخلو من كلمة علم او علوم ، بل ان الدين ما يطرح الا
باعتباره علما ، فكيف يدعى ان الدين معارض للعلم . هذا من جهة و من جهة أخرى ان الدين قد كرّم
العقل و حكم العقلاء و أقرّ المعارف العلمية الوضعية و دعا اليها ، و النصوص
الدينية مليئة بعبارات الحثّ على العلم و طلبه بما لا حاجة لمزيد من الكلام، بل ان الفصول و الاجزاء التي تعنى بالعلم و طلبه
في كتب الحديث و الفقه تتجاوز في حجمها اي فصل آخر فيها ، بل ان هنا كتبا و مؤلفات
مستقلة في العلم و طلبه .
ان الاحتجاج بالواقع على الواقع غير صحيح في عرف كل من له منطق ، وكل نظام
له نظرية و تطبيق كما هو الاسلام ، حينما يساء تطبيق النظرية لا يمكن ابدا و لا
يصح جرّ ذلك على النظرية . بل واجب الباحث الرجوع الى المصادر الاصلية الحقيقية .
كما انه حينما تكون التعاليم منقولة و تتدخل آلة النقل و قدرتها النقلية في صحتها
يكون لزاما البحث عن النقل الصحيح و ليس كل نقل . ان من الواضح ان الاستدلال على
ضعف و خطأ النظرية من خلال التطبيق او الاستدلال على خطأ المنقول جميعه من خلال نقل خاطئ هو من عدم الانصاف و اللاعلمية
و اللاموضوعية .
ثم اننا نجد الفكر اللاديني السياسي يرفع راية العدالة الاجتماعية و يشير
الى ان السياسة الدينية غير محققة لذلك وهو كلام لا واقعية له فاما على مستوى
النظرية فان النصوص الدينية من آيات و روايات تحقق العلم القطعي باستناد الحكم
الاسلامي على العدل و اشتراط ذلك في شرعية الحاكم ، و على مستوى التطبيق فان اسمى
صور العدل كانت في حكم النبي صلى الله عليه و اله و وصيه عليه السلام، و البشارة النبوية انما كانت بدولة
العدل في من سيملأ الارض قسطا و عدلا كما
ملئت ظلما و جورا ، فلا أدري اي عدالة يستطيع الفكر الديني ان ينفيها عن الاسلام ،
و ليس من حقه استغلال خروج جماعات شاذة و
حكام ظالمون في الاسلام لتعميم ذلك على الاسلام .
و بالنسبة للسلطة و التسلط فانا كثيرا ما نجد وهما و توهيما بخصوص التسلط
الديني السياسي ، مع ان القريب و البعيد صار يدرك انه لا ولاية و لا طاعة و لا
قدسية الا للانسان الكامل المتمثل بالنبي
صلى الله عليه و اله و وصيه عليه السلام بامر من الله تعالى ، و اما غيرهما فلا
ولاية له و لا طاعة ولا قدسية له مهما كان
، و انما الرجوع و تقليد رجل الدين و الفقيه هو من مقتضيات العقل من باب رجوع
الجاهل الى العالم لتعذر تناول المعارف الفقهية مستقلا على غيره ، و الحال هنا كما
هو حال الرجوع الى المختصين في اختصاصهم فكما يرجع الى الطبيب في اختصاصه و الى
المهندس في اختصاصه وهكذا نحو ذلك فانه
يرجع الى فقيه في اختصاصه . كما انه صار معلوما ان الرجوع للفقيه انما هو في
الاحكام و الامور العملية و اما العقائد و
المعارف فلا تقليد فيها بل يحرم فيها التقليد .فتكون التعاليم الدينية السياسية الحقة
نصائح و ارشادات عملية يفرض العقل و يوجب تقبلها لانها صادرة من الشارع الحكيم
العالم . انا لم نجد اعتراضا مصيبا يتوجه الى المعارف الاسلامية الحقة و تطبيقاتها الصحيحة و المنقولة بالنقل الصحيح ،
و هذا الامر مؤكد ايضا لان المعارف الدينية تتصف بموافقتها العقل و الحكمة و الدين
قائم على العقل و الحكمة ، فلا يمكن ان يتطرق اليه الوهن ، و كل طعن في الدين انما
كان من المغالطة المنطقية و من الاحتجاج بالواقع على الواقع بظهور حالات من
اللاعلمية في الفتاوى او القيادة السياسية الاسلامية لا يعني ابدا تجويز و اعطاء الحق
للطعن في الدين واهله و ان هذا منتهى الجور و اللاعلمية التي يسقط فيها دوما الفكر
الاديني .مع ملاحظة ان الالفاظ المتعلقة بالقهر و الظلم السياسي المتمثل
بالدكتاوترية و الامبراطورية و العنصرية
لا علاقة لها بالاسلام في نشأتها و تطورها .
و اما تصوير الاعتباطية و اللاموضوعية في الاختيارات الحاكمية و تصوير ان
الحكم الاسلامي دكتاتوري امبراطوري فهذا من السخف في مكان ، و سوء التمثيل الصادر
من حكام الظلم و الجور لا يمكن تعميمه على الحاكم
الاسلامي و الاسلام بريء من ذلك و اشباهه . فاما على مستوى النظرية فالقران و
السنة ظاهر و قطعية في اعتبار العلم و الكفاءة في الادارة و اما في التطبيق فان
التفويض ما كان الا للانسان السماوي المتمثل بالنبي و وصيه عليهما السلام ، و اما
غيرهما فالامر شورى فيه و ليس لأي كان الانفراد و تحت اي ذريعة كانت . و الصورة
التي اعطتها بعض السياسات و الحكام الاسلاميين الظالمين تحت اسماء مختلفة كلها
باطلة شرعا و لا صحة لها .
ان من الغريب ان يتحدث البعض عن الاسلام القائم على الامر بالمعروف و النهي
عن المنكر و كأنه النظام الذي يأمر بالمنكر و ينهى عن المعروف ان هذا من الزور و
البهتان ، و ان ظهور حالات سلبية في نظام الحكم باسم الاسلام لا يبرر هكذا تصوير و
تزوير للحقائق ، و ابتداع اسم ( الاسلام
السياسي ) كحالة مشبوهة انما غايته تسقيط الاسلام و اضعافه في نفوس الناس ، انما
النظرية الاسلامية نظرية فكرية سياسية اجتماعية حياتية عامة ترسم صورة نظام سليم و
مسالم للانسان ، و تطبيقها الصحيح لا يؤدي الا الى دولة العدل و الرفاهية و ظهور
حالات خاطئة تطبيقية لا يمكن ان تنسب للاسلام باسم مبتدع كاسلام سياسي . ان الاسلام هو وجه الضمير و وصوت العقل و صورة العدالة الذي ينادي به الفكر
اللاديني ، فكيف يتطرق الطعن اليه ما لم
يكن هنا خطأ في المعطيات او مغالطات منطقية في النتائج المحصلة .