الشعر اشراق على اسرار اللغة و تجل لعبقريتها و استنطاق لصوت روحها العميق
. الشعر هو اقتناص اللحظة الشعورية العميقة و الكشف عن نقابها فتشرق شمسا جديدة
جميلة الى الناس . ليس الشعر مجرد سبك جميل للكلمات فان هذا من التصوير السطحي ،
انما الشعر نفوذ حيّ و عميق و متوهج الى روح اللغة و ينابيعها السرية و عوالمها
المتخفية خلف الحجب . ان لم يخترق الشعر الحجب و ان لم يبلغ الكواكب المشعة و
الحقول المتوهجة للغة فانه لن يكون شعرا بالمعنى العميق .
حينما تشعر ان النص ينقلك و بقوة و بسرعة الى عالم عميق و الى حياة جديدة و
يضيء لك مواطن الشعور و الاحساس و يولد في نفسك زخما معرفيا و فكريا حينهما نكون
أمام كتابة فذة و حقيقية و ليس مجرد تفنن كلامي و لفظي . هذه الكتابة العميقة التي تتجاوز السطح و تنفذ الى روح اللغة نجدها
متجلية في كتابات الشاعرة هالا الشعار ، و تبلغ تجليها الاكبر في نصوصها
التقليلية .
في نص عالي الشاعرية و متعدد الدلالة
يرتكز على عمق الفكرة و الرمزية
تقول الشاعرة فيه :
(بين وردة ولهاث
ثمة
فضاء صغير )
ان المساحة الجمالية
الواسعة سواء من جهة الكم او الكيف الشعوري او من جهة النفوذ و الحجم تتحقق هنا بواسطة
تقنيات التعدد الدلالي و الاستعارة الكتلية ( الجملية ) ، وهو فن كتابي تجيده هالا
الشعار اشرنا اليه في مناسبة سابقة حيث انها لا تقتصر في مجازها و استعارتها على
الانزياح اللفظي في المفردات بل تلجأ و بلغة متطورة الى الرمزية الكتلية و
الاستعارة بالجمل و التراكيب اللفظية ، محققة واقعا و عالما نصيا يعيش فيه القارئ وسط لغة راسمة . و رغم
قصر النص الا انه يحقق حالة الرسم و الابعاد الثلاثة . هذا النظام المتقن من اللغة الراسمة و الرمزية
التعبيرية يحقق اضافة مفهومية و اشراق على مكنونات اللغة و اطلاع على الينابيع
السرية للشعر ، محققا ( التعبيرية المفهومية) التي لا تترك مجالا للفكر الا الشعور
بالدهشة و العجز و هما أهم غايات الكتابة الشعرية و التخيلية ، و بذلك يبلغ النص
غاياته الفنية و الجمالية و الرسالية .
و في نص مكثف و معبر ببوح شفيف
ينتمي الى أدب القضية تقول فيه الشاعرة :
(تقاسمني
الخراب
)
ان حالة الجذب الكتابي هنا و نقل القارئ الى النص بسرعة و
بقوة متأتٍ من الصدق العميق و البوح الشفيف و من عمق الكتلة الشعورية التي يحققها
النص في مجال الاستجابة الجمالية ، باستعارة قريبة و تعاونية عالية ، و هذا النفوذ
في العمق الشعوري يحقق حالة الاشراق في مجال الاحساس و العاطفة و التأثير بلغة
قريبة . و بهذا الشكل من الاشراق يتحقق
شكل اخر منه باللغة القريبة في قبال النص السابق الذي يحقق حالة الاشراق بلغة رمزية
عالية .
و في نص عذب بقاموس متموج بين الحلم و الحقيقة تقول هالا
الشعار
(بضعُ
خطى
بيني
وبين اليمامة
أكاد
ألامس الهديل )
ان العذوبة الشعرية بأدب يتميز بالفنية العالية من انزياح و
خيال ، هو أحد أشكال ( اللغة المثلى ) التي يبلغ بها النص غاياته ، و يتجه
بالكتابة نحو النص الكامل . و أهم تقنيات اللغة المثلى او ما كنا نسميه ( اللغة
القوية ) هو التموج التعبيرية و وقعنة الخيال . فيتجلى التموج التعبير في قاموس
لفظي يجمع بين لحظات واقعية و اخرى خيالية فالاول في ( بضع خطى ، بيني و بين
اليمامة ) و الثاني في ( أكاد ألامس الهديل ) ، كما أنه بذات الأسلوب تحقق نظام (
وقعنة الخيال ) حيث ان القارئ يُنقل الى حياة النص بكفاءة عالية و لا يكاد يميز في
ان التعبير هنا نظام خيال ام واقع ، فلا يجد نفسه الا مبحرا في فضاء هذه الكتابة
الجميلة بامتاع فكري و شعوري .
و نجد هذه اللغة المتموجة ايضا في نص آخر للشاعرة تقول فيه :-
(سأجمعُ
صمتي
صمتي
كلّه
لأدفع
عني تهمةَ الماء
ابتلاء
الهواء
لست
سوى هُنَيْهَةَ فرارٍ
من
نار وتراب واغتراب
على
سطحِ هذا الكوكب المُتْعَب )
فوسط البوح الشفيف و التوصيلية المخلصة نجد عبارة مركزية و
مؤثرة تتمثل بمقطع (لأدفع عني تهمةَ الماء \ ابتلاء الهواء ) هذا النظام الاستعاري
الرمزي كسر حالة التوصيلية و حقق التموج التعبيري ، و نقل البوح الى حالة رمز و
حالة الخيال الى واقع نصي فيتحقق نظام ( وقعنة الخيال ) .
هكذا نرى ان هالا الشعار و بنصوص تقليلية قصيرة تحقق انظمة شعرية عالية بطاقات تعبيرية كبيرة ، باشراقات ذات نفوذ عميق و مساحات
استجابات جمالية واسعة ، تكشف النقاب عن اسرار
الكتابة المؤثرة و عن وجه اللغة المتوهجة .