د أنور غني الموسوي
النصّ في جوهره مصداق
جزئيّ للغة ، لذلك فان التمييز العلاماتي بين الكلام و اللغة لا يستند الى قاعدة
واقعية ، نعم مجموع المتكلّم ( المرسل) و
المتلقّي ( المرسل اليه ) و النص ( الرسالة ) و قاعدة التخاطب ( المرجعية اللغوية
) يكوِّن نظاما جزئيا مصداقيا للغة و تجسيدا ظاهريا لها . من هنا فالمؤلف و المتلقّي
و المرجعيات اللغوية و النصّ كلها من اللغة .
حينما يكون الاستعمال
مرجعيّا ، تستعمل الوحدات اللغوية المتقدّمة فيما وضعت له ، فيُلحظ المؤلفُ و
المتلقّي و النصّ و قاعدة التخاطب بمعانيها و مفاهيهما المرجعية الاعتيادية . اما اذا كان الاستعمال غير مرجعيّ و خارقا
للمرجعيات اللغويّة ، فالخرق قد يكون على مستوى المؤلف او مستوى المتلقي او مستوى
النصّ ، او مستوى القاعدة التخطابية .
ان اللغة الفنية
الانزياحية اما ان تكون تركيبية استعمالية
او مفهومية مرجعية . الانزياح
التركيبي الاستعمالي هو تعبيرية استعمالية ، اما الانزياح المفهومي فهو التعبيرية
المفهومية . التعبيرية في عمقها نقل الاحساس الى المتلقي ، وذلك بالتوظيفات
التركيبية و الاستعمالية ، او بالتوسعة و التغيير في المفاهيمية و المعنوي حتى يصل
حد التجريد في التعبيرية التجريدية .
حينما ينجح النص في ان يشعرك بذاته و غاياته ، و
حينما ينجح النص في ان ينقل لك احساسه بكل قوة و عمق ، حينها نكون امام نص فذ . (غرقُ الأنهارِ... شمسٌ بلا عذرية ) نص
للشاعر العراقي مهدي سهم الربيعي ، فيه من التوظيفات و القاموس اللغوي و التراكيب
البنائية و التجاورات اللفظية و الصور الشعرية ، ما يجعلك تحس بالغرق ، و يجعلك
تشعر بان العالم يتساقط و يغرق و انه لا مفر .
التعبيرية
الاستعمالية في النص يمكن تتبعها في اربع مستويات
1- المستوى
القاموسي للالفاظ
2- المستوى
الاسنادي النعتي و الافعالي
3- المستوى
الجملي
4- المستوى
النصي الكلي
1-
المستوى القاموسي
في النص سيل هادر من
الالفاظ الموحية و الدالة :
( فصُراخٌ ، تيهٌ عارمٌ
، ٌ ملتهبةٌ، تتَناثرُ ، يَسقُط... ، ضَبابيةٌ قلقةٌ ..، ضَياع...، غَرقِ ...
، يَطفو الشُحوب... ...، كَشهقةِ مُحتضرٍ...، جزرٌ مفقودة....، مغروسةٌ ،
جُذوعُ خاويةٌ..، شَظايا حممٍ...، بركانٍ ، مُتدفق.. ، تَكتسحُ...، السيلِ )
لقد نجح الشاعر
بقاموس الفاظه ان يحقق غايات النص و ان يوصل الرسالة و الخطاب
و ان ينقل الاحساس .
لقد بينا مرارا ان
نقل الاحساس هي من اهم و اصعب مهام المؤلف ، و انها تختلف عن التوصيل و الخطاب ،
انها صبغ النص بمزاج معين مراد ، ثم نثر الكلمات فيه بصورة تجعل القارئ يعيش اجواء
النص . لقد حقق النص ( القاموسية التعبيرية )
2-
المستوى
الاسنادي
المستوى النصي الاخر
كما بينا هو المستوى التركيبي الاسنادي ، في النعوت و الافعال مثال (تيهٌ عارمٌ ، أفكارٌ ملتهبةٌ ، تتَناثرُ الخَطايا...
، عالمٌ يكادُ يَسقُط... ، ضَبابيةٌ قلقةٌ .. ، غَرقِ الأنهارِ...، يَطفو الشُحوب...
كَشهقةِ مُحتضرٍ، جزرٌ مفقودة....،
جُذوعُ خاويةٌ.. ، شَظايا حممٍ... ،
بركانٍ مُتدفق.. ، دونَ القدرةِ..
على الوقوفِ... )
من الواضح ان تلك الاسنادات تنقل القارئ الى حقول معنوية و
دلالية مشعرة بالتهاوي و النهاية و العجز ، حقول تحيط بفكر الغرق . لقد حقق النص (
الاسنادية التعبيرية )
ان اهمية المعجم القاموسي للنص و طبيعة الاسناد ، انها بنقل
القارئ الى حقول معانيها فانها تولد لديه انثيالات مناسبة تعظم وجودك تلك المعاني
في النفس ، و من خلال عمق و جهورية تجليات تلك لمعاني تترسخ الرسالة التي يحملها
النص في داخل القارئ .
3-
المستوى الجُملي
المستوى الثالث هو المستوى الجملي ، المحقق للصور ، و جعل النص و صوره تحمل القارئ الى عوالم
معنوي شديد الوقع من حيث التبليغ و الاخبار ، مرسخة الرسالة في النفس ففي مقطع
(صُراخٌ ...
تيهٌ عارمٌ بينَ الكلمات...
أفكارٌ ملتهبةٌ....
تتَناثرُ الخَطايا...
عالمٌ يكادُ يَسقُط... )
تيهٌ عارمٌ بينَ الكلمات...
أفكارٌ ملتهبةٌ....
تتَناثرُ الخَطايا...
عالمٌ يكادُ يَسقُط... )
ان البوح عال هنا ، و التوظيفات
الفنية و التعبيرية الاستعمالية واضحة في انزياحات و استعارات فنية فذة ، و مجاز
قريب موصل للرسالة ، ابواب تعبيرية متعددة لنفوذ الفكرة و تجليها الى المتلقي ،
وهذا الشكل من التعبير البوحي نسميه بلغة المرايا ، حيث تطرح الفكرة باكثر من شكل
تعبيري لاجل تأكيد الرسالة و البلاغ .
و في مقطع واضح الرمزية
و التوصيلية يقول الشاعر:
(في غَرقِ الأنهارِ...
يَطفو الشُحوب...
مُنتظراً رحيلُ الغَيم.... )
يَطفو الشُحوب...
مُنتظراً رحيلُ الغَيم.... )
هنا تعريف نصي ، و تأريخي نصي علائقي
يخالف المعنى الاصلي ، ما يحقق توسعة في المفهوم فتتحق التعبيرية المفهومية اضافة
الى التعبيرية الاستعمالية . فهنا انزياح على مستوى الاستعال و التركيب و انزياح
على مستوى المفهوم و المعنى المرجعي . النص يحقق
التعبيرية الجملية .
4-
المستوى النصي الكلي
المستوى التعبيري الرابع هو المستوى التركيبي النصي الكلي ، أي
نظام العلاقة التجاوري بين مقاطع النص ، وهو اما ان يكون بشكل تصويري او ان يكون بشكل سردي . ان الشاعر قد قسّم النص
الى ثلاثة فصول ، تربط بينها علاقات دلالية ظاهرية و عميقة . كل فصل منها مكوّن من
مقاطع تصويرية شعرية ، من هنا فالتعبيرية
التركيبية النصية هنا معتمدة على الشعرية التصويرية .و بمجموع ما تقدم و
انظمة التداخل بينها حقق النص ( التعبيرية النصية )
ان نص (غرقُ الأنهارِ... شمسٌ بلا عذرية ) نص حقق اهدافه و نقل الاحساس الى القارئ و نقل
القارئ اليه و كان نموذجا للتعبيرية الاستعمالية .
النص
غرقُ الأنهارِ... شمسٌ بلا عذرية...
مهدي سهم الربيعي
مهدي سهم الربيعي
(1)
صُراخٌ ...
تيهٌ عارمٌ بينَ الكلمات...
أفكارٌ ملتهبةٌ....
تتَناثرُ الخَطايا...
عالمٌ يكادُ يَسقُط...
يَلتصقُ الأسى ...
دونَ أختيار....
ثوباً ..
تَستتَرُ بهِ عوراتُ الذنوب ..!!
ضَبابيةٌ قلقةٌ ..
تَهزأُ بوقعِ الحروفِ...
أكبرُ ضَياع...
حينَ فَضو بكارةِ الشمسِ...
بَعضُ أطياف...
المُثَرثرين الحَمقى...
صُراخٌ ...
تيهٌ عارمٌ بينَ الكلمات...
أفكارٌ ملتهبةٌ....
تتَناثرُ الخَطايا...
عالمٌ يكادُ يَسقُط...
يَلتصقُ الأسى ...
دونَ أختيار....
ثوباً ..
تَستتَرُ بهِ عوراتُ الذنوب ..!!
ضَبابيةٌ قلقةٌ ..
تَهزأُ بوقعِ الحروفِ...
أكبرُ ضَياع...
حينَ فَضو بكارةِ الشمسِ...
بَعضُ أطياف...
المُثَرثرين الحَمقى...
(2)
في غَرقِ الأنهارِ...
يَطفو الشُحوب...
مُنتظراً رحيلُ الغَيم....
جَبهةٌ تَغتسلُ..
بأولِ أشراقةُ شَمس....
لَم تَحضر.....
ليلٌ جَبليٌ حالك...
بِلا أَنجُم....
يوشي بأطرافِ الأشرعةِ....
تَمرُ على الأنفسِ....
كَشهقةِ مُحتضرٍ...
3) )
شواطئُ جزرٌ مفقودة....
أجسادٌ مغروسةٌ هُناك...
جُذوعُ خاويةٌ..
تَشكو زَيفَ الرَبيع ِ....
نَوماً قُربَ مَحارقٌ..
لَظاها شَظايا حممٍ...
زَمجرتُ بركانٍ مُتدفق..
تَكتسحُ...
برهبةِ السيلِ ...
دونَ القدرةِ..
على الوقوفِ...
في غَرقِ الأنهارِ...
يَطفو الشُحوب...
مُنتظراً رحيلُ الغَيم....
جَبهةٌ تَغتسلُ..
بأولِ أشراقةُ شَمس....
لَم تَحضر.....
ليلٌ جَبليٌ حالك...
بِلا أَنجُم....
يوشي بأطرافِ الأشرعةِ....
تَمرُ على الأنفسِ....
كَشهقةِ مُحتضرٍ...
3) )
شواطئُ جزرٌ مفقودة....
أجسادٌ مغروسةٌ هُناك...
جُذوعُ خاويةٌ..
تَشكو زَيفَ الرَبيع ِ....
نَوماً قُربَ مَحارقٌ..
لَظاها شَظايا حممٍ...
زَمجرتُ بركانٍ مُتدفق..
تَكتسحُ...
برهبةِ السيلِ ...
دونَ القدرةِ..
على الوقوفِ...