الطريق الوحيد الصحيح للمعرفة هو العلم، والعلم اخبار، وهو اما
استنباط او استقراء ولا ثالث، والأول أيضا يرجع الى الاستقراء، ففي الحقيقة علمنا بالأشياء
ومعرفتنا بها مرده الاستقراء، ولا بد لمن ليس لديه استقراء علمي ان يعتمد على من
لديه استقراء علمي.
الانسان يعلم بوجدانه انه حادث وليس قديما وانه مركب بطريقة فائقة
الدقة وكذا باقي الأشياء حوله فإنها حادثة وفائقة الدقة في صنعها، ومن خلال
الاستقراء العلمي فان هذا يعني وجود صانع حكيم وازلي غير حادث غير محتاج الى خلق
وصنع، وقد سمته الشرائع السماوية وعرفته للبشر بانه الله تعالى خلق كل شيء.
والانسان يلاحظ بوجدانه ان الله تعالى الذي خلقه خلق معه الراحة والتعب والخير
والشر والالم واللذة وهكذا من متناقضات وكذا الاختيار والقهر، وبحسب الاستقراء
العلمي فان هذا يكشف عن وجود حالة اختبار للإنسان من قبل صانعه تعالى. ووجدان
الانسان الاستقرائي يثبت ان كل اختبار له جزاء وكل طاعة وامتثال له ثواب وعطاء كل
إساءة وعصيان له عقاب وحرمان الا انه لا يرى ذلك حاصل في الدنيا فلا بد وبحسب الاستقراء
العلمي ان يكون الحساب في عالم اخر غير الدنيا وهو ما أسمته الشريعة بالأخرة. ان الانسان يرى حالات الانحراف الحاصلة في
سلوكه من حيث الظلم ويرى ان معارف توضيحية تخص الحكمة يتحاج فيها الى اخبار من
الله تعالى وبحسب الاستقراء العلمي هذا يحتم ارسال الرسل وإنزال الكتب. ان هذا الاثبات الاستقرائي للإيمان وللشريعة
وللمعرفة بها هو جزء من صفة عامة في المعرفة البشرية الا وهي الاستقرائية فان الحس
والمادة والاستنتاج والفرضيات في الواقع كلها نتاج الاستقراء وانما التوجيه
الخبروي هو لبيان المفاهيم بشكل تواضعي وليس لمعرفة الحقيقة وهذا هو المبدأ
الاستقرائية للمعرفة. ان ما قدمته يبين وبوضوح إمكانية اثبات المعارف الايمانية
الرئيسية استقرائيا وبحسب مناهج العلم الاستقرائي بل والتجريبي وهذا يفتح افاقا
واسعة اما معارف الشريعة طبيعة تناولها وطرحها للناس.
الاستقراء هو أحد الطرق
المستخدمة في مناهج البحث العلمي. وهو دليل علمي للمعارف الخارجية ومعتمد في
العلوم البحتة وتبني عليه البشرية الكثير من قرارتها المصيرية. وهذا يمكن من القول
ان الاستقراء يصح ان يكون دليلا في الشريعة لكن بعد إخراجه من الظن الى العلم. ان المعرفة الاستقرائية في الشريعة في الأساس ظن
وهي بنفسها ليست حجة الا انه ليس من الممتنع ان تكون دليلا كما انه ليس من المقبول
اركان هذا الدليل المهم جانبا لذلك لا بد من السعي نحو تكامل علمية الاستقراء
الفقهي واخراجه من الظن الى العلم.
من الواضح جدا ان جميع المحاولات التي حاولت ان تعطي للاستقراء علمية
فشلت فشلا ذريعا اما المعارف الثابتة بخصوصه ظنيته، وان جميع المحاولات التي حاولت
ان تعطي الاستقراء حجية في الشريعة تميزت بالضعف والظنية. لكن نحن نعلم بوجداننا
ان الاستقراء علم على وجه من الوجوه، كما ان العلوم التجريبية تعتمده أساسا
لحقائقها التي بنت هذا البناء الذي من غير المعقول التقليل من علميته. اذن كيف
يصبح الاستقراء الظني علما؟ كما انه من
الواضح أيضا عجز الفقه الاصولي عن الارتقاء بالاستقراء الى العلم لقصور ادواته عن
ذلك، فبقي الاستقراء الفقهي ظنا وليس حجة والادعاء لا ينفع.
لكن الفقه العرضي الذي نعتمده كفوء جدا في تحقيق العلمية في الاستقراء
الناقص، اذ ان أحد اهم إنجازات ومهمات الفقه العرضي هو اخراج المعرفة من الظن الى
العلم. والمنهج المتبع في الفقه العرضي بإخراج المعارف الشرعية من الظن الى العلم
يجري في الاستقراء حينما يتناول موضوعا شرعيا، وهو ما نسميه الاستقراء الشرعي.
فحينما يتحقق عندنا استقراء شرعي يتحقق عندنا ظن شرعي، وبعرضه على القرآن، وتبين
شواهد له ومصدقات منه يخرج من الظن الى العلم. اذن وجود شواهد ومصدقات من المعارف
القرآنية للنتيجة الاستقرائية كفيل بتحقيق العلمية له واخراجه من الظن الى العلم.
ولا يقال ان الحكم علم في البعض فيجوز ان يكون البعض الاخر على خلافه فان هذا الظن
زال بتصديق القرآن للحكم، فبعد ان لم يثبت حكم معارض في البعض الاخر وثبت كون
الحكم المتبنى موافق للقران وله شواهد منه كشف ذلك ان هذا الحكم هو الجاري في جميع
الجزئيات. فالتتبع حقق جزء من العلم والتصديق القرآني كمل ذلك وهذا هو الحال في
جميع المعارف القرآنية فان الدليل يثبت جزء من العلم وتصديق القرآن له يكمل العلم.
وفي الواقع هذا ليس مختصا بالشريعة بل هو جار في جميع العلوم التي اعتمدت الاستقراء
كدليل علمي فان اشتراط موافقة الفرضية وتناسقها واتساقها مع ما هو معلوم وثابت من
معرفة هو المصحح للاستدلال بالاستقراء ومحقق ومكمل لعلميته في جميع العلوم.
ومن الواضح ان المعارف لكي تكون شرعية لا بد ان تكون مستندة ومستفادة
من الأدلة الشرعية. وقد بينت في مناسبات كثيرة ان الدليل الشرعي نوعان دليل حكمي
نهائي ودليل دليلي طريقي، وبعبارة مختصرة الأدلة الشرعية اما طريقية او نهائية.
البعد النظري والتطبيقي للمبدأ في الفقه العرضي:
عدم قبول معارف شرعية تعارض استقرائية الشريعة.
البعد النظري والتطبيقي للمبدأ في الفقه العرضي:
اعتماد الاستقراء في اثبات المعارف الشرعية. وعدم قبول المعارف التي
تعارض استقرائية المعرفة الشرعية.