طُرح في النقد الادبي شكل من اشكال
النقد وهو (النقد الثقافي) والذي يعتني بالتداخل الثقافي والاجتماعي في تكوين النص
وقراءته، وقد بينتُ في محله ان هذا الشكل من النقد يمكن ان يحسب على علوم اخرى غير
ادبية وجمالية وكون موضوعه النص الادبي لا يجعل منه ادبيا، فقراءة النص الادبي
قراءة ادبية جمالية عن طريقه غير تام.
ومثل هذه المقاربة الاجتماعية للنص
الادبي ظهرت مقاربة اجتماعية للنص الشرعي؛ وعلى مستوى القراءة والتكوين. ونجد بوادر
القراءة الاجتماعية للنص الشرعي في تنقيح الموضوع ووجوب حمل معنى اللفظ على معناه
زمن النزول وليس زمن القراءة، وهو شكل من اشكال التاريخية، وهذا الى حد ما مقبول
وان كان خلاف الاصل ، فالأصل هو اتحاد المعنى كما سابين ولا يخرج من ذلك الا بعلم
شبه قطعي.
لكن الخطوة
الاهم والأخطر هي دعوى التكوينية الاجتماعية للنص الشرعي، بان الاحكام المتعلقة
بالموضوعات التي تغيرت النظرة الاجتماعية تجاهها عبر الزمن انما هي احكام خاصة
مختصة باللفظ في ذلك الزمن، ومع تغيره اجتماعيا لا يصح اجراؤها بل يحتاج الى دليل،
بمعنى ان الاصل ليس الاشتراك مع البعد الزمني بل الاصل هو عدم الاشتراك مما يحتاج
الى القرينة الثابتة للقول بالاشتراك. بمعنى ان لدينا (معنى اجتماعي) في قبال (المعنى
الوضعي) و (حكم اجتماعي) في قبال (الحكم الوضعي) الذي وضعه المشرع. وان حقيقة
المعنى هي الحقيقة الاجتماعية لا الوضعية وحقيقة الحكم هي الحقيقة الاجتماعية لا الوضعية.
وفي الواقع مناقشة فكرة الاشتراك تناولها
الفقهاء قديما وانتصروا لها. واما اجتماعية النص الشرعي تكوينا وانه لو كان في زمن
غير زمن النزول لما كان الحكم على ما كان لأجل تغير ظروف وخصائص داخلية وخارجية في
الموضوع فهو امر مغاير، وهو قريب من القول ان المعنى يتحدد اجتماعيا وليس بالوضع،
فالحقيقة المعنوية هي الحقيقة الاجتماعية وليست الحقيقة الوضعية والحقيقة الحكمية
هي الحقيقة الاجتماعية وليست الحقيقة الوضعية. وهو قريب للنوع الاجتماعي والنوع
التكويني باعتبار ان الوضع جعل هو مثل جعل التكوين مع التسامح.
والبحث لا
يكون في حالة تغير الخصائص الداخلية للموضوع مما يغير معناه او مفهومه او حقيقته
العرفية لان هذا تغير بالموضوع او انتفاء له، وهذا ايضا مطروح فقهيا. وانما النقاش
المهم هو بقاء المفهوم الذاتي على ما هو عليه الا ان الطروف الثقافية والاجتماعية
هي التي تغيرت والتي بملاحظة مقاصد النص تكون لها اثرا وتأثيرا في سبب تشريع الحكم
وحكمته، فهذا من ابحاث نظرية المعنى وحقيقة المحكم، وهو دعوى ان المعنى والحكم لا
يتحدد فقط بالخصائص الذاتية والوضعية بل يؤثر فيه الخصائص الثقافية والاجتماعية
المحيطة، وان الوجود القانوني للمعنى يختلف عن وجوده الخاص المنفرد. بمعنى اخر ان
الحكم لا يتحدد فقط بالجعل الاصلي المجرد (النوع التكويني للحكم) بل هو يتحدد
بالنظرة الاجتماعية له (النوع الاجتماعي للحكم). وفي حدود ما لدينا الان فان هذه
النظرية تعارض - اضافة الى اصالة النوع الوضعي الاصلي للحكم بان الاصل هو الحقيقة
الوضعية للحكم والمعنى- عدة امور:
اولا: ان اهل
اللغة كانوا ولا يزالون يعتمدون المعاني القديمة بل ويقدمونها على الحديثة دون
التفات الى تغير الثقافة والنظرة الاجتماعية، مما يعني ان الظروف الاجتماعية لا
تدخل في حقيقة المعنى.
ثانيا: ما
بينته في كتب عدة ان الوجدان اللغوي شيء ثقيل وعميق لا يتغير بسهولة بل لا يلحظ
عليه التغير عبر الاجيال فالانتقال من الامور الصعبة جدا ولا يمكن القول بها الا
بقرينة وعلم قطعي. بمعنى اخر ان الوجدان اللغوي بخصوص المعاني لا يتغير وهو الاصل.
بل قلت ان ثبوت المعنى الوجداني اللغوي اقوى وارسخ من ثبوت المعنى في الاستعمال
فالاستعمال قد يعاني التسامح الا ان الوجدان اللغوي لا يقبل ذلك.
ثالثا: ان
المؤلف وخصائصه تؤثر على حقيقة نصه وتكوينه ولا يمكن قياس النص الذي يكتبه بشر ذوي
علم محدود مع النص الذي يصدر من الله تعالى صاحب العلم اللامحدود، لذلك فالأصل في
النص الالهي انه خارج حدود الزمان والمكان ولا يخضع لذلك بخصوص الاحكام التي تبدوا
انها عامة وغير خاصة، بمعنى اخر ان الاشتراك اصل كما ان شمولية النص للمعنى في كل
زمن هو الاصل فمهما يحصل تغير في المعنى فان النص يشمله لأجل لا تناهي علميته.
رابعا: ان
الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات فتكون ناظرة الى جهة تغير المفهوم وهذا الامر
مأخوذ في تكوين نصوصها ولا سبيل للخروج من ذلك
فهو حكم مقاصدي لا يقبل الرخصة ولا التخصيص.
خامس: ان
تغير الحكم بتغير ظروفه امر عقلائي وملحوظ فقهيا وكثير جدا من جهة الشروط وعدمها
بل حتى العناوين الثانوية وتنقيح الموضوع، وانما ما هو غير ثابت عقلائيا هو ثبوت
جميع الخصائص العقلائية الداخلة في تحقق الحكم وموضوعه وانما التغير يحصل في
الثقافة المجتمعية، بل يمكن القول بالقطع ببطلان ذلك في الشرع في ضوء ما نراه من
تباين الاعراف والثقافات على الارض وبين البلدان مما يعني تعدد الاحكام الشرعية في
العصر الواحد بتعدد البلدان والثقافات وهذا مقطوع ببطلانه ولا مؤيد عقلائي له الا
الاتجاه الوضعي في الاحكام.